الخليفة العام للطريق التجانية يبعث برقية تعزية للبرهان في نجله    ثنائية البديل خوسيلو تحرق بايرن ميونيخ وتعبر بريال مدريد لنهائي الأبطال    ريال مدريد يعبر لنهائي الابطال على حساب بايرن بثنائية رهيبة    شاهد بالفيديو.. الفنانة مروة الدولية تعود لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي بمقطع وهي تتفاعل مع زوجها الذي ظهر وهو يرقص ويستعرض خلفها    ضياء الدين بلال يكتب: نصيحة.. لحميدتي (التاجر)00!    ناس جدة هوي…نحنا كلنا اخوان !!!    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل مصري حضره المئات.. شباب مصريون يرددون أغنية الفنان السوداني الراحل خوجلي عثمان والجمهور السوداني يشيد: (كلنا نتفق انكم غنيتوها بطريقة حلوة)    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    شاهد بالفيديو.. القيادية في الحرية والتغيير حنان حسن: (حصلت لي حاجات سمحة..أولاد قابلوني في أحد شوارع القاهرة وصوروني من وراء.. وانا قلت ليهم تعالوا صوروني من قدام عشان تحسوا بالانجاز)    شاهد بالصورة.. شاعر سوداني شاب يضع نفسه في "سيلفي" مع المذيعة الحسناء ريان الظاهر باستخدام "الفوتشوب" ويعرض نفسه لسخرية الجمهور    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    مصر والأزمات الإقليمية    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية: دمج جميع القوات الأخرى لبناء جيش وطني قومي مهني واحد اساسه القوات المسلحة    الولايات المتحدة تختبر الذكاء الاصطناعي في مقابلات اللاجئين    الخليفي يهاجم صحفيا بسبب إنريكي    أسطورة فرنسا: مبابي سينتقل للدوري السعودي!    عقار يلتقي مدير عام وحدة مكافحة العنف ضد المرأة    الداخلية السعودية تبدأ تطبيق عقوبة "الحج دون تصريح" اعتبارًا من 2 يونيو 2024    كرتنا السودانية بين الأمس واليوم)    ديمبلي ومبابي على رأس تشكيل باريس أمام دورتموند    ترامب يواجه عقوبة السجن المحتملة بسبب ارتكابه انتهاكات.. والقاضي يحذره    محمد الطيب كبور يكتب: لا للحرب كيف يعني ؟!    مصر تدين العملية العسكرية في رفح وتعتبرها تهديدا خطيرا    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    دبابيس ودالشريف    رسميا.. حماس توافق على مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دروس سياسيّة لما بعد الربيع العربي .. بقلم: البروفسور أمباي بشير لو

لقد وجدت دول الربيع العربي نفسها في مفترق الطرق. فبعد نجاح الثورات مبدئيا في تونس ، ليبيا ومصر برزت اشكالية فلسفة الحكم كأكبر عقبة في التعامل مع مسألتي بناء الأمة وتكوين الدولة. وليس في هذا جديد ، اذ المسألة أصيلة ومتجذّرة في بنية الدولة الحديثة. وليس بخاف أنّ نموذج الدولة الحديثة، كما يذكر بازيل دافيدسون ، تقليد غربي أرغمت الدول المستعمَرة على تبنيها عقب الاستقلال. و عليه ، يستحسن، أو بالأحرى أقول أنّه من باب الحكمة ، التصفّح عبر التاريخ و في ثنايا تقاليد الأمم الغابرة والمعاصرة للعثور على أنجع الطرق و أكثرها ديمومة في التوازن بين مطمع السلطة ومغرياتها ومفاتن التحزب وضرورياتها.
أقصد هنا أنّ قضيّة نصب السلطان قبل تقنين السلطة كما تشهدها جدليات الدستور في مصر، أو مقولة " من تحزّب، خان" كما هي راسخة فى الاعلان الدستوري الليبي الجديد و ضروريات ترسيخ "مقصد الحرية" في أولويات الدولة الوليدة كما يجادل به الشيخ راشد الغنوشي في تونس هي كلها مسائل معهودة في حياة دول ما بعد الثورات. في الحقيقة يوجد هناك أدب بئير وتجارب وافية يستحسن التعرض لها ودراستها في تأنّ واستنباط حين التعامل مع هذه الموافقات. فالانسان هو هو أينما كان ومهما أرسلت اليه من كتب ورسل. ففطرته أنّه ليطغى حين تستتب له أسباب الحياة ، و انّه ليشذ حين تستقر في هاجسه ملكية للسلطة.
هذه الجمل الأخيرة من مبادئ الدستور الأمريكي، ومن أهمّ مآثر فلسفة جيمس ماديسون، الأب الروحي و المهندس الفيلسوف لهذا لدستور الذي يعتبر أقدم دستور يتعامل به اليوم في حياة الدول. انه الدستور الذي وحّد المستعمرات الثلاثة عشر سياسة واقتصادا و قاد الدولة الوليدة من مستعمرَة بريطانية متناحرة بجنسياتها ولغاتها المختلفة ومتنافسة بعملاتها وحدودها المتباينة الى نظام فيدرالي موحّد أصبح قوة عظمى في أقل من قرن ونصف. لقد كنت معجبا بهذا الرجل خلال العقد الذي وجدتني عاكفا في محراب أفكاره، متفقها في توهّج عبقريته وحذرا من سقطات بصيرته.
كان ماديسون يجلّ القيمة المطلقة للانسان وأنّها مرهونة بحريته. و في نفس الوقت، كان يؤمن بمؤسسة الدولة مستقلة من هوايا الانسان. ومن المفارقات الفلسفية، أنّ الرجل عاش فتنا بمسائل الموازنة بين طبيعة الدولة التسلطيّة وفطرة الانسان الغوائية. كان محترما للدين ولذا أرسخت فلسفاته مبادئ احترام الدين في الدستور الأمريكي الناصّ في تعديلاته "على الكونغريس ألّا يتبنى قانونا لمصلحة دين ما ، و عليه كذلك ألّا يمنع/ يعرقل الاعتقاد في دين ما." كان ماديسون قد كتب في رسائله أنّه "يجب ألّا نامن مؤسسة الدولة في تدين بني الانسان." مردفا أنّه " الانسان ليس ملاكا، و لو كان النّاس ملائكة لمّا احتجنا الى حكومة. و لو كانت الملائكة يحكمون بني الانسان لمّا اضطررنا الى الفصل بين السلطات."
وأهمّ رسائل ماديسون منشورة في كتاب الوثائق الفيدراليةThe Federalist Papers وهي تتألف من 85 مقالا كتبها كبار المفكرين الأمريكيين في نهاية القرن الثامن عشر ممن كانوا يساندون فكرة الدستور الموجب للنظام الفيدرالي القائم على نظام الجمهورية أو الفصل بين السلطات التنفيذية، والتشريعية و القضائية. وكان هؤلاء المفكرون الذين أصبح اتجاههم فيما بعد هو السائد هم: جيمس مادسون، وألكسندر هاملتون، وجان جي. وما طفئت هذه الوثائق تمثل أكبر مرجع للمحاكم الأمريكية في كل مستوياتها المحلية و الفيدرالية.
ولأهمية الأوراق الفيدرالية في تحليل معضلات التحزب ، الطائفية ومسائل الوحدة، أوردت مترجما أحد أهمّ مقالاتها ، وهي مقالة رقم "عشرة" التي كتبها جيمس ماديسون إلى أهل ولاية نيويورك عام 1787، يجادلهم فيها على أهمية الجمهورية و ينذرهم من خطر سيطرة الأغلبية المنتخبة الطائفية على مقاليد السلطة، كما يتناول طرق التعامل مع فتنة الطائفية والتحزب. و أرجو أن يجد فيها القارئ الكريم بعض ما ينير الاجتهادات السياسية فيما بعد الربيع العربي.
وثيقة الفيدرالية رقم 10
وتكمن أهميّة هذا المقال في أنّ ماديسون يدرك فتنة الطائفيّة الحزبية وخطرها على البلاد، لكنه في نفس الوقت ينفر من تقييد الحريات أو منع الأحزاب السياسيّة، فهو مصرّ على ضرورة التعايش مع الطائفيّة، و عدم منعها أو محاولة استئصالها لأنه يرى في ذلك تضييقا للحريات التي بدونها لا تكون هناك حياة سياسيّة ديمقراطيّة، ومن ناحية أخرى، يلمس قارئ المقال أنّ ماديسون كان يتوجّس خيفة من الديمقراطية المباشرة التي كان الدهماء يدعون إليها، فهو يفضّل نظام التمثيل حيث ينصرف عامة الناس عن السياسة ويوكلون نوّابا لهم. وجدير بالذكر أنّ أفكار ماديسون هذه هي التي غلبت في النهاية، وعليها قام دستور الولايات المتحدة الفدرالي الجمهوري. ومع طول المقالة أوردتها كاملة في الصفحات القادمات حتى تعم الفائدة.
إلى أهل ولاية نيويورك
جيمس ماديسون، 22 نوفمبر عام 1787
من بين المزايا العديدة التي سوف يوفرها الاتحاد مع الولايات الأخرى، لا أكاد أجد ما هو جدير بأن يتم تطويره بدقة أكثر من ميل الاتحاد إلى كسر حدة عنف التحزب والطائفية. إنّ مؤيدي فكرة الحكومة القائمة على إرادة الشعب (الديمقراطية المباشرة)، لا يؤرقهم سوى احتمالات اندلاع فتنة الطائفية. فلا يدخر أحدهم جهدا في التفكير عن كيفية الموازنة بين مبادئ مثل هذه الحكومة وضروريات الحدّ من خطر الطائفيّة، فالفوضى والظلم وعدم الاستقرار التي ظهرت في المجالس الشعبية في ظل هذه الحكومة تنذرنا بمآل الحكومات الغابرة المشابهة لها في أماكن أخرى من بقاع الأرض. فتنة الطائفيّة هذه أيضا بقيت المبرر الأول والحجة الأساسية التي يتسلح بها أعداء الحرية.
وبديهي القول بأنّ التعديلات التي تبناها دستور الولايات المتحدة (النظام الفدرالي) لمعالجة هذه المشكلة قديما وحديثا ليست مثالية. وليس هناك مبرر في أن نستبشر بأنها ستستأصل خطر الطائفية كما كان مرجوا ومؤملا من قبل. فهاهي الشكاوى بادية من خيار المواطنين، وكذلك نلمس التذمّر من أصحاب الديانات في مجامعهم الخاصة والعامة، وكذلك تصلنا المعارضة من مؤيدي إطلاق الحريات العامة والخاصة. وشكواهم تتلخص في عدم استقرار حكومتنا، وعدم مبالاة الفرقاء بالمصلحة العامة، وأنّ الحلول المطروحة لم تستنبط من مقتضيات العدالة وحماية حقوق الأقليات، بل هي حلول فرضت بمنطق القوة ولصالح الأغلبية المهيمنة. ومع أملنا في عدم مصداقية هذه الشكاوى، فما عهدناه من فطرة الإنسان (المغرورة)، لا يسعفنا بتجاهل احتمالات حدوث هذه الاختراقات.
قد نجد بعد بحث وتنقيب أن بعض هذه الاتهامات في حقّ حكومتنا باطلة، وكذلك سوف نعثر على مخالفات حقيقية ارتكبتها الحكومة، وبالأخص في مجال معاملاتها مع العامة ، ناهيك عن تناولها قضية حقوق الممتلكات الخاصة. طبعا، هذا لم نسمعه في جميع أرجاء هذه القارة، ولا شك أن هذا نتج جزئيا، إن لم يكن كليا، من السلبيات والتظلمات التي يتسم بها أداء الحكومة.
والمقصود بالطائفيّة أو التحزب هنا يتمثل في جماعة من المواطنين، أقلية كانوا أم أغلبية، اتحدوا وائتمروا لدوافع عاطفية أو مصلحية (خاصة) معاكسة لحقوق باقي المواطنين أو مهددة للمنفعة العامة.
وهناك نهجان لمعالجة تداعيات فتنة الطائفيّة: إما أن نتخلص من أسبابها أو أن نسيطر على تأثيراتها. أما فيما يتعلق بالتخلص من أسبابها ، فهناك أيضا نهجان: الأول: أن ندمّر نظام الحرية الضروري في الحياة الطائفيّة ، والثاني: أن نواجه فتنة الطائفيّة عن طريق فرز نفس العاطفة والشعور العصبيين لدى باقي المواطنين حتى يتوازن التياران.
وليس هناك قول أصحّ من أن أؤكد بأنّ الدواء (النهج) الأول هو أخطر من داء الطائفية نفسها.
إن الحرية للطائفية هي كمثل الهواء للحريق؛ بدون الأول لا يستطيع الثاني البقاء، لكنه يعدّ من الجنون إلغاء الحرية، لأنها من ضروريات الحياة السياسية وإن أدت إلى ظهور الطائفية. مثل هذا كمثل القول بأنه يجب أن نتخلص من الهواء لأنه السبب في النار مع العلم بأنها أيضا ركن أساسي في حياة كل المخلوقات.
والنهج الثاني ليس عمليا مثلما أنّ الحل الأول ليس حكيما. طالما أنّ الإنسان خلق ضعيفا وغير معصوم من الخطأ وحرا في تفكيره، سيكون هناك اختلاف في الرأي والهوى. وطالما استمرت العلاقة بين أفكاره وحبه لذاته، ستكون هناك علاقة ترابطية بين أفكاره وهواه، ولسوف تبقى الأولى رهينة للثانية. إنّ وجود التفاوت في مواهب الرجال الذي برّر حقوق الملكية الفردية هو نفسه يمثل العقبة الأساسية في توحيد مصالحهم. ومعلوم أنّ حماية هذه المواهب هو الهدف الأول من إقامة الحكومة.
إنّ ميزة الملكية نفسها وتفاوت الممتلكات (ممتلكات الرجال) هي نتيجة الحماية (حماية الحكومة) لعدم المساواة في الملكية وحماية تفاوت مواهب الناس في اقتناء الممتلكات؛ وانقسام المجتمع إلى حماة مصالح وشيع يعكس أفكار ومشاعر أصحاب الممتلكات والميزات.
هذا السبب الأخير للطائفية هو متجذّر في فطرة الإنسان؛ نجده الآن شائع الانتشار في كثير من مناحي حياة الناس وبتنوع مساعيهم وأنشطتهم. نجد تعصبا لأفكار معينة في الدين وفي السياسة كما في نواحٍ أخرى، وكذلك نلحظ انصياعا واسعا لأنواع من القادة الذين لا يهمهم إلا الجاه والسلطة، أو قل انصياع لنوع من الناس الذين بحكم ثرواتهم رغبوا في هوى الناس، وبالتالي يقسمون بني الإنسان إلى فرق وأحزاب وشيع يحتدم العداء بينهم ويصبحون عرضة للاقتتال بدلا من التعاون لتحقيق مصالحهم المشتركة.
إنّ ميل فطرة الإنسان للتحاسد قوية لدرجة أنه ما إن تأتي مناسبة تظهر فيها الفروق الشكلية، حتى تتبدى فيها جاهليات النزاع والحقد. وعلى كل حال، فقد بقي تنوع طرق اقتناء الممتلكات وعدم المساواة في طريقة توزيعها أهمّ سبب للطائفية. الجماعات التي تمتلك الميزات والجماعات المعوزة أصبحت تشكل قطبين في المجتمع. الدائنون والمدينون أصبحوا في تمايز بيّن، مصالح أرباب العقارات ومصالح أرباب الصناعات، ومصالح التجار، كلها برزت استجابة لحاجيات المجتمعات المتحضرة، لكنها قسمت هذه المجتمعات إلى طبقات اجتماعية، تشغلها مشاعر وأفكار متناقضة. إن تقنين هذه المصالح المتداخلة هو المقصد الأول للتشريع، ومواجهة نزعات التحزب والطائفية هي شغل الحكومة. يجب ألا يسمح لأحد أن يكون خصما وحكما في قضيته؛ لأنّ مصالحه سوف تحيّز حكمه، ولا غرابة في أن ذلك التصرف قد يشوه حكمته أيضا.
وبمنطق مساو، بل أقوى من ذلك وأعظم، نقول أنه لا يصح لمجموعة من الناس أن يكونوا خصما وقضاة في نفس الوقت. ومع ذلك ما هو أكثر ما يشغل التشريع؟ إنه ليس قضايا تمسّ حقوق الأفراد فقط، لكن حقوق جماعات من المواطنين. وكذلك من هم أصحاب التشريع؟ إنهم في الحقيقة أهل القضايا التي يشرعون فيها؛ إنهم إما من طبقة الدائنين الموسرين أو من طبقة المدينين المعدمين، يجب أن تكون العدالة القاسم المشترك بين الجانبين.
لكن يبدو أنّ الأطراف (أطراف القضية) هم دائما القضاة، والحال هي أن القضاء يحسم دائما للطرف الأقوى. فمثلا، مسألة هل يجب تشجيع الإنتاج القومي عن طريق تقييد المنتجات الأجنبية؟ إنها مسألة لن ينصف فيها أصحاب المصانع ولا أصحاب المتاجر ما دام المقصد هو العدالة والمصلحة العامة. ومسألة أخرى تتطلب العدالة بكل ثقلها هي كيفية جباية الضرائب من أصحاب الممتلكات، ومع ذلك ليست هناك قضية تشريعية معرضة لإساءات كل من هب ودبّ من أهل الميزة، أكثر من هذه القضية. إنّ أي درهم يزاد على الموجود، فهو درهم يربو في جيوبهم. ومن العبث القول بأنّ الإرشاد (مثلا التعليمات الدينية ) فقط ينفع في حل هذه النزاعات المصلحية وتوجيهها لصالح المصلحة العامة. التعليمات الإرشادية وحدها لن تكفي. إنّ تغيير مثل هذه التصرفات لا يحدث بدون اعتبارات قد تكون بعيدة وغير مباشرة، وإشكالية الاعتبارات غير المباشرة أنها قد لا تكون قوية إذا قورنت بالمصالح المباشرة التي يبتغيها ناهبو حقوق الآخرين أو مستغلو مصالح الناس.
إذاً لقد توصلنا إلى الخلاصة الآتية: إنّ أسباب الطائفية لا يمكن استئصالها، وأنّ الحلّ الوحيد يكمن في الحد من تداعياتها. إذا كانت طائفية ما لا تمثل الأغلبية ( فلا حرج) فالعون موجود في النظام الجمهوري (نظام الفصل بين السلطات) حيث ستتمكن الأغلبية من استخدام آلية التصويت لهزيمة الأصوات الشريرة.
وقد تضطر الطائفة الخاسرة هذه إلى إعاقة إدارة الحكومة أو تشنيج المجتمع، لكنها لن تقدر على التستر أو الاختفاء في ظلّ الدستور. وحين تكون الطائفية هي الأغلبية (الحاكمة)، فإن نظام الحكومة القائمة على إرادة الشعب (الديمقراطية المباشرة)، سيضطرها إلى التقيد بالمبادئ أو المصالح إما مرتبطة بالمصلحة العامة أم راعية لحقوق المواطنين الآخرين.
إنّ الدفاع عن المصلحة العامة والمحافظة على حقوق الملكية الخاصة في ظل الطائفية مع المحافظة على روح الحرية في الحكومة القائمة على إرادة الشعب هو الهدف الأسمى في مساعينا. علاوة على ذلك ، فذلك هي السبيل الأمثل لنجدة الحكومة الديمقراطية من المهزلة إلى المنزلة اللائقة لبني الإنسان.
بأية وسيلة يمكن بلوغ هذا الهدف؟ من الواضح أنه يمكن عن طريق سبيل واحد أو سبيلان: إما بمنع تراكم نفس العاطفة السياسية لدى الأغلبية حتى لا تقهر الأقلية؛ وإذا وجدت مثل هذه الأغلبية، يجب تفتيتها بوضع عراقيل عددية أو جغرافية لمنعها من تجاهل رغبة الأقلية.
إنه يجب أن ندرك طبيعة البشر: إن شهوتهم الفطرية إذا تصادفت مع الفرصة السانحة فلن تقدر على تقييدها تعاليم الدين. والمبادئ الأخلاقية لم تكن أبدا كافية لردع شهوة الإنسان حين تهيج الهوى وتتوفر أسباب خرق مبادئ العدالة أو إلحاق الظلم بالآخرين. أقصد أن دوافع التدين والمبادئ الأخلاقية تضعف إذا قورنت بشهية الهوى وغرور الانتهازية لدى الإنسان.
ومن هذا المنطلق، يصح استنباط القول بأنه في ظل النظام الديمقراطي (يقصد هنا الديمقراطية المباشرة)، حيث يشارك كل مواطن في شئون إدارة الحكومة، فلن نجد لنا دواء لداء الطائفية؛ لأنه ستظهر أغلبية من السّكان ذات قاعدة عاطفية مشتركة، وستكون لها كلمة في مسار الحكومة/ الحكم، وليس هناك من يردعها من المساس بحقوق الأقلية والأفراد. لذا سرعان ما تكون هذه الأنظمة الديمقراطية ساحة للنزاع والشغب، وسرعان ما تقصّر في المحافظة على حقوق وسلامة الأفراد. وكانت بصورة عامة قصيرة العمر، كما ظلت تواجه العنف عند موتها.
وقد كان المنظرون السياسيون يظنون خطأ أنه بإخضاع الناس جميعاً إلى مساواة كاملة في الحقوق السياسية للأفراد سينحو الناس فطريا إلى موازين العدل والمساواة في اقتنائهم للخيرات، و في أفكارهم وأهوائهم. الحكم الجمهوري القائم على الفصل بين السلطات والتمثيل سيفتح آفاقا جديدة وحلولا لمشاكلنا. سنناقش الفرق بين هذا النظام والنظام الديمقراطي البحت، ولنفهم طبيعة الحل، والفعاليات التي سيأتي بها النظام الجديد.
هناك فرقان بائنان بين النظام الديمقراطي البحت والنظام الجمهوري: أولا، أنّ النظام الثاني قائم على النيابة حيث يمثل المواطنين عدد قليل من المنتخبين؛ إنّ هذا التمثيل نسبي وشامل لكل المواطنين وفي كل بقاع البلاد.
وميزة الفرق الأول هي أنه يلتقط ويوسع وينقح في نفس الوقت آراء العامة قبل تقديمها إلى مجالس الشعب. وهذا يتم عبر نظام التمثيل حيث أن الممثل هو حكيم ناخبيه من المواطنين، مدرك لمصالحهم وفوق مستوى الدهماء، ويتوقع من ولائه للعدالة والمصلحة العامة أن تطفو على مصالحه الخاصة. حكمة ممثلي الشعب أقرب إلى المصلحة العامة ممّا لو كانت الحكمة تأتي من الشعب مباشرة. من جانب آخر، هناك احتمال سلبي أيضا في هذا النظام التمثيلي، وهو أن يتربص رجال المصالح والنفوذ وسيئو النوايا بالنظام الانتخابي، فيُعينون خطأ ممثلين للشعب، ومن هنا سيسيئون استخدام النظام.
ومن هنا يأتي السؤال: هل أحسن للنظام الجمهوري أن يوسع التمثيل الشعبي أم أن يضيقه وينقّحه؟ ويبدو لي أن النهج الأخير أحسن لسببين:
السبب الأول: هو أنّ الجمهورية مهما صغر حجمها ستحتاج إلى عدد ما من ممثلي الشعب المسئولين عن مراقبة عصبية الجماعات، وإن قلوا، وكذلك الجمهورية مهما كبر حجمها، سيكون هناك حد لعدد ممثلي الشعب المسئولين عن مراقبة شغب المشاغبين، وإن كثروا.
يبدو جليا في الحالتين السابقتين أنّ عدد الممثلين في كلتا الحالتين لن يكون متناسبا مع العدد الكلي للسكان؛ ففي الجمهورية الصغيرة يبدو عدد الممثلين دائما كبيرا بالمقارنة مع عدد السكان الكلي. وهذا يعني أنّ إشكالية التناسب التمثيلي بين حجم الجمهورية وعدد الممثلين للسكان فيه تكون أكبر في الجمهورية الصغيرة منها في الجمهورية الكبيرة.
ومن ناحية أخرى، بما أنّ عدد المواطنين الذين سيشاركون في انتخاب ممثل ما في الجمهورية الكبيرة سيكون أكبر من مثيله في الجمهورية الصغيرة، فاحتمال فوز سياسي جائر متستر بحبّ العدالة في الجمهورية الكبيرة يكون أقلّ، وحيث يتوفر جوّ الحريّة في هذه الانتخابات، فإنّ جمهور ناخبي الجمهورية الكبيرة ، بحكم كثرة عددهم، سيضطرون إلى تنقية الرجال واصطفائهم وفق قيم الكفاءة والأخلاق السامية.
ويجب أيضا أن نعترف بأن القصور موجود في كلتي الحالتين؛ فمثلا، حين يكون جمهور الناخبين عريضا للغاية، يصعب على المنتخب الممثل الإلمام بكل شئون ناخبيه أو حتى القدرة على الاهتمام بهم جميعا؛ والعكس أيضا صحيح، فحين يكون جمهور الناخبين صغيرا للغاية، سيفرط ممثلهم المنتخب في التركيز على شؤونهم، وقد يؤثر هذا في قدرته على الاهتمام بشئون الدولة الأخرى.
إذاً دستور النظام الفدرالي هو الأقدر على لمّ هذه المصالح المشتتة، سواء الوطنية، أو المحلية أو الخاصة بالمجالس التشريعية في الولايات.
وهناك فرق آخر بين النظام الجمهوري الفيدرالي والنظام الديمقراطي الاتحادي يكمن في تفوق الأول في استقطاب عدد أكبر من المواطنين وضمّ مساحات أوسع من الأراضي، وهذا الأخير يجعل قدرة النظام الجمهوري على التصدّي لفتنة الطائفية أكثر فعالية من غيرها. المجتمع الصغير الحجم يحدد فرص الأحزاب والطوائف التي تشكله، وإن سهل فيه البتّ في المؤامرات التي تحاك ضدّ المجتمع، بينما المجتمع العريض في عدده يتمكن من تحمل ضروب الحزبية وجماعات المصالح الطائفيّة.
وفي هذه الحالة الأخيرة يصعب ظهور أغلبية طائفية تسيطر على السلطة وتضطهد باقي المواطنين، وحتى لو تجمعت أغلبية طائفية حول هدف واحد، سيصعب عليهم الموافقة على نقاط قوتهم. وبجانب هذا العائق، تجدر الإشارة إلى أنه حين تفتقد الثقة بين أعضاء جماعة ما، تكون الموافقة على أية خطة تتمّ عبر أعيان القوم وهذا يصعِّب تآمر الأغلبية.
هنا يصح القول بأنّ أفضلية النظام الجمهوري (نظام الفصل بين السلطات) على النظام الديمقراطي (الديمقراطية المباشرة) تكمن في الحد من فتنة الطائفية؛ هذه هي نفس الميزة التي تجعل الكيانات الكبيرة أحسن من الكيانات الصغيرة، مثل أفضليّة نظام الاتحاد (الفدرالي) على نظام الولايات المكونة للاتحاد.
هل تعكس هذه الميزات أفضلية ممثلي النظم الكبيرة لأجل سعة أفقهم وتعاليهم على المصالح المحلية الضيقة؟ مهما يكن الجواب، يجب ألاّ نرفض القول بأن ممثلي الاتحاد يصح عليهم هذا التكهن.
هل ستعكس هذه الميزة حسّ الأحزاب والجماعات بالأمان الذي يأتي من إلمامها باستحالة تستر جماعة ما بالحكم لاضطهاد باقي الجماعات؟ هذا يجعلنا نتساءل: ربّما كثرة الأحزاب و الطوائف في الاتحاد (الفدرالي) هو مصدر أمان وضمان للجميع؟ وكذلك، هل هذه الميزة ترجع إلى كون هذا النظام ضمانا ضدّ إمكانية تستر الأغلبية الطائفيّة بالحكم؟ الردّ هنا أيضا سيكون في صالح النظام الاتحادي.
نعم، قد تشعل فتنة الطائفية نارها في الولايات التي تقطن فيها، ولكنها لن تقدر على إشعال نار الفتنة في كل ولايات الاتحاد. فمثلا قد يطغى اتجاه ديني على مذهب سياسي أو حزب ما في ولاية ما، لكن وجود اتجاهات ومذاهب أخرى في مناطق أخرى من الاتحاد يجب أن يضمن لمجالس التشريع الحدّ من مصائب هيمنة مذهب واحد على الآخرين. فمثلا: غضب جهة أو جماعة ما لصالح صكّ أوراق مالية، أو إلغاء الديون، أو مساواة في توزيع الممتلكات أو غيرها من المشاريع لن يتمكن من أن يكون الشغل الشاغل لكل الاتحاد، لأنه سيكون مسألة جزئية. و مثل هذا كمثل القول بأنه أن تصيب بالداء بلدة واحدة هو أسهل من أن تصيب بالداء كل البلاد.
وخلاصة القول أنه في صدد البحث عن أحسن نظام سياسي للمحافظة على الاتحاد بين الولايات، سنوصي بنظام الجمهورية لأنّه سوف يطرح علاجاً جمهورياً أيضاً للأمراض الأكثر ملازمة للحكم الجمهوري.
وعلى قدر درجة الغبطة والعزة التي نستشعرها في كوننا جمهوريين يجب أن تكون حماستنا في تغذية روح دعاة الفدرالية وتأييد ممثليهم.
***
Mbaye Lo [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.