إن من أخطر المراحل التي تمر على الأمم والشعوب أن تصل حداً لا تستعجب مما هو عجيب، ولا تستنكر ما هو منكر، فحينئذ يكون هذا الشعب أو هذه الامة قد دجنت على أمر الاصل أنه غير مقبول، عند هذه المرحلة يمكن ان يمر على الامة اي مخطط من المخططات؛ حتى التي تؤدي الى فنائها وزوالها من الوجود. إن العجائب التي مرت علينا في السودان كثيرة كثرة السنين التي عشناها، ونذكر منها: تفريط الدولة في ثلث البلد؛ والذي ظل أهل السودان يقاتلون من أجل الحفاظ عليه لمدة اكثر من نصف قرن، استشهد فيه مئات الالوف من خيرة ابناء الشعب، ومع ذلك ظل الناس ينظرون الى هذا الامر وكأنه يحدث في بلاد الواق الواق!! وكذلك نجد الناس يصطفون في دواوين الحكومة من اجل دفع رسوم لخدمة معينة تؤديها لهم الحكومة، ويتعرضون لأذى من بعض الموظفين وهم ساكتون مع انهم هم الذين يدفعون أثمان هذه الخدمات اي هم اليد العليا، مع العلم ان من حقهم ان يحصلوا على هذه الخدمات من غير اي مقابل، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "...الإمَامُ رَاعٍ وَمَسؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ..." [رياض الصالحين ]. والقائمة تطول، ولكن آخر هذه العجائب هي اني اطلعت على خبر في الصحف يتحدث عن الازمة التي تعاني منها ولاية القضارف ( وما أدراك ما وية القضارف)، حيث لا يوجد دقيق ولا سكر ولا مواد بترولية وخاصة الجازولين؛ والذي هو روح الحياة في هذه الولاية. فالناس مقبلون في هذه الايام على موسم الزراعة؛ والتي هي شريان الحياة الرئيس لسكان هذه الولاية، بل لكل السودان، فكيف لولاية القضارف ان يصطف اهلها للحصول على الدقيق!! سوف نسيح في ولاية القضارف قليلاً حتى ندرك بعض الامكانات الموجودة فيها، والواعدة اذا ما اتبعت سياسة زراعية راشدة. فالولاية تتمتع بحوالي 10.5 مليون فداناً من الأراضي القابلة للزراعة تغطي مشاريع الزراعة الآلية المطرية أكثر من 8.5 مليون بينما تغطي المشاريع البستانية المروية 40 الف فداناً من اصل 200 الف فداناً، وتشمل المحاصيل التي ينتجها القطاع الزراعي الذرة والسمسم والدخن وزهرة الشمس، كما ان تربية المواشي تضم حوالي "5.2" مليون رأساً من المواشي تشمل الضأن والماعز والجمال. فاذا ركزنا حديثنا فقط على موضوع الزراعة لوحده وبالتحديد زراعة الذرة، فجمهورية مصر وهي اقرب البلاد الى السودان يزرع فيها حوالي "400" الف فدان ذرة وينتج الفدان 17.5 أردباً اي 35 جوالاً، ففي العام 2000م تمت زراعة 376 الف فداناً كان ناتجها الاجمالي 6.6 مليون اردباً اي 13.2 مليون جوالاً. وذلك لأنهم يهتمون بأمر التقاوي فيحرصون على الزراعة بأفضل التقاوي المحسنة كما يهتمون بالحزم التقنية في الزراعة فإذا ما طبق هذه الامر فقط في ولاية القضارف فإننا سوف نزرع 10 مليون فداناً بواقع 35 جوالاً للفدان، وبعملية حسابية بسيطة نحصل على 350 مليون جوال ذرة، اي سيكون نصيب الفرد في السودان؛ صغيرهم وكبيرهم، ذكورهم وانثاهم حوالى 10 جوالات، ويتبقى لنا 50 مليون جوالاً للتصدير. فهل تحتاج ولاية القضارف الى من يغيثها ام ان لها القدرة لأن تغيث السودان بأسره!! ولكن ما الذي يمنعنا من ذلك؟ ان الذي نفتقر اليه هو العقلية الرعوية، تلك العقلية التي تفكر في ان ترعى شؤون الناس كالتي يتمتع بها عمر بن عبد العزيز، فحينما دخلت عليه زوجته وهو جالس في مصلاه واضعاً خده على يده ودموعه تسيل قالت له: ما يبتليك فقال: ويحك يا فاطمة قد وليت من امر هذه الامة فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع والعاري واليتيم المكسور، والارملة الوحيدة والمظلوم المقهور، والغريب والأسير، والشيخ الكبير وذي العيال الكثير والمال القليل وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد فعلمت ان ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة، وان خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم فخشيت ان لا يثبت لي حجة عند خصومته فرحمت نفسي فبكيت. نعم ان هذه العقلية التي دفعت بالخليفة عمر بن عبد العزيز حينما أخذ اموال حكام بني امية، وبدا بماله ووجه هذه الاموال الى البنى التحتية للزراعة، فحرث الارض وشق القنوات وأقرض من يريد مالاً – قرضاً حسناً وليس ربوياً – وأعطى اصحاب الحاجة فماذا كانت النتيجة؟ ان جاب عماله بالزكاة في نهاية العام، جابوا الامصار فلم يجدوا من يأخذ اموال الزكاة. نعم هذه هي العقلية التي نريدها وليست تلك العقلية التي تفكر في المصلحة والاستمرار في الحكم. فبدلاً من أن تجمع مياه الامطار ويحمّل بها الموسم الزراعي الذي ظل يتأثر وبشكل ثابت وعلى مدى عدة اعوام متتالية يتأثر بإنقطاع الامطار فنفقد اكثر من بين 50 الى70 % من انتاج المحاصيل بدلاً من ذلك ترا نا نفكر في بناء الجسور مثل جسر توتي – شمبات جسر الدباسين – جسر سوبا وهكذا!! فما هكذا تورد الابل يا سعد، انما تورد كما كان يوردها عمر بن عبد العزيز الذي جعل الاسلام رحى افكاره، ورعاية الشؤون أكبر همه. والله من وراء القصد. spokman .sd [[email protected]]