من العبارات العسكرية العتيقة (الموية ما بْتطْلع العالي) وهي تعني أنَّ التعليمات لا يُمكن أن تصدر من رتبة دُنيا إلى رتبة أعلى منها ، أو بمعنى آخر أن الرتبة العليا دائماً في مأمن من الأدنى منها ..ومن الطبيعة العسكرية أنَّ الجندي لا يستطيع مخالفة الأوامر وإن كانت مستحيلة فمثلاً إذا أُمر جنديٌّ كيِّسٌ فطنٌ أن يدفع الجبلَ بيدَيْهِ مثل عربة الموز لا يقول : هذا مستحيل ..إنَّما يندفع نحو الجبل بهمَّة عالية وصياح هادر يتجشَّأه الجبلُ صدىً ، ثم يضع يديَه متظاهراً بدفع الجبل بكُلِّ ما أوتِىَ مِن قوَّة ،وبهذه الحيلة البسيطة يكون قد نفَّذ الأمرَ ، فهذا كلِّ ما في الأمر ! أمَّا إذا اعترض مسارَ طابور عسكري نهرٌ أو بحرٌ أو محيط حتى ؛ فليس على هذا الطابور سوى مواصلة رفع أرجله ووضعها على الشاطئ دون أن يتقدَّم خطوةً واحدة مع تأرجح الأيادي (خطوات تنظيم) وبهذا يكون قد نفَّذ الأمر وفي الوقت ذاتِه لم يُلْقِ بنفسه إلى التهلُكة .. ومن الحيل الطريفة التي كان يستخدمها أحد الفصائل التي كانت تُقاتل إلى جانب الحكومة ضدَّ المتمردين ، وقد جيئ بهم مُنهكين من العمليَّات إلى مركز التدريب الموحَّد لتلقِّي المزيد من التدريبات والنظم العسكريَّة ، وكانوا يمنحونهم (بصلةً) كاملة الدَّسَم عقب كلِّ وجبةٍ تداوياً من العمى الليلي .. وكانوا يسيرون إلى المطبخ مستمسكين ب (قناية ) طويلة يُمسك برأسها أفضلهم نظراً (الطشاش في بلد العمى شوف ) .. وهم مع كلِّ ذلك ما كانت تُرهقهم حصَّة ( البيادة ) أو السلاح ، إنَّما حيلتهم الذكيَّة كانت للتهرب من حصَّة التربية إذ لا طاقة لهم للجري مسافاتٍ طويلة ، فكانوا إذا ما انتظم المعسكر لحصة الجري الصباحية ؛ يُشهرون أصواتهم عاليةً هادرين : ( حماس : موجود ، لياقة : مافي )! إنَّ الذي دفعني إلى كلِّ هذا التداعي هو خبرٌ صغيرٌ في صياغته كبيرٌ فيما سيترتَّب عليه أوردته صحيفة الرأي العام الأحد الماضي 1/7/2012م يقول : (علمتْ الرأي العام من مصادرها إنَّ شركة تعمل في مجال البترول استغنت نهاية الإسبوع الماضي عن (267) من عامليها وسلَّمتهم خطاباتهم وحسب المصادر أنَّ أغلب العاملين يتبعون لشركة أُخرى تعمل لصالح الشركة الأولى بتوفير العمالة من فنيين وسائقين وغيرها ، ويتوقَّع أن تقوم الشركة بعمل مماثل ما لم تكن هناك معالجات واتفاق بين دولتَى السودان وجنوب السودان في مجال تصدير النفط وأبانت المصادر أنَّ نشاط الشركة انحسر وبصورة كبيرة بعد قفل أنابيب الصادر من قبل دولة الجنوب ) انتهى . رغم أنَّ الصحيفة لم تُسمِّ الشركة المعنيَّة (بترودار )باسمها أو الشركة الأخرى التي تعمل لصالحها (بترونيدز) ولكن دون شك أنَّ هؤلاء العاملين يندرجون تحت نظام التشغيل التعاقدي الذي يخوِّل لتلك الشركة المستخدِمة للعاملين أخذ ما يقارب ال 70% من مرتَّباتهم المدفوعة من قِبَل الشركة الأم .. لا لشئ ، فقط لأنَّها استخدمتهم ! هذا إذا تجاوزنا إهدار السنين ومعضلة فوائد ما بعد الخدمة والتي لا تعدو أن تكون (غمتة مُزيِّن) ! نوقن تماماً أنَّه لا بدَّ من الاستغناء عن خدمات الموظَّفين والعاملين من أيِّ مؤسَّسة في الدنيا إذا ما فقدتْ هذه المؤسَّسة إنتاجها ، فهذا أمرٌ معلوم مع إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه وفق قوانين العمل ..ولكن ما دام المقياس اقتصاديَّاً استناداً إلى تعثر الانتاج فقد تساوت أهميَّة الوظائف ..فلماذا لا تبدأ هذه الشركة بكبار موظَّفيها من الشركة الأم تيمُّناً بالسياسات الاقتصادية التي استنَّتْها الحكومة برغم تلكُّأها في تخفيض الأجهزة التنفيذيَّة وحلَّ الحكومة واستبدالها بأخرى رشيقة ونشيطة وخفيفة ، رغم ذلك فقد بدأت بإقالة مستشاري الرئيس ..فماذا لو أنَّ هذه الشركة أخذت منحى الوجهة العامة للبلد وبدأت بالاستغناء عن ثلاثة أو أربعة فقط من كبار منسوبيها ؛ إذن لرجَّحتْ كفَّة ما يتقاضونه شهريَّاً برواتب هؤلاء ال (267) عامل مجتمعة ! هذا إذا أخذنا في الاعتبار التردِّي الاقتصادي الهائل والغلاء الطاحن تعاطفاً مع هؤلاء العاملين وأسرهم .. فعلى أقلَّ تقدير أنَّ موظفِّي الشركة الأم – ما شاء الله تبارك الله – أوضاعهم غير و أحوالهم مستورة ممَّا كسبوا من هذه الشركة قبل أن توصد دونها أبواب الاستثمار من قبل دولة جنوب السودان إذ أنَّ كلَّ حقولها تقع داخل حدود الجنوب وهذا حقُّها .. فهم بلا شك يسكنون الدور الفاخرة ..ويمتطون الفارهات وفوق كلِّ ذلك محصَّنون بما اكتسبوه من خبرة وتأهيل كلٌّ في مجاله ،على غير المستخدَمين المساكين طبعاً ..فماذا لو بدأتْ الخصخصة أو قُل الاستغناء عن الخدمات بالرؤوس الكبيرة بدلاً من صغار العاملين ..حتى تحذو ذلك بقيَّة شركات النفط التي لا محالة واردةً هذا المورد .. تُرى ما هي الحكمة من تشريد (267) أسرة لا يملك عائلوها شروى نقير وإنْ اقترنت أسماؤهم بمحاسيب شركة البترول ؟هل استخدمت الشركة سياسة (كتلوك ولا جوك جوك ) أم أنَّ الموية عندها أيضاً لا تطلع العالي ؟!