عندما استيقظت من النوم في الهزيع الأخير من الليل، وجدت نفسي مستلقيا على قفاي، أحدّق في قبّة السماء الهائلة المُرصّعة، من اقصاها إلى أقصاها، بملايين من النجوم، تلتمع مثل كرات من الفضة المُذابة تتفاوت في الحجم والتوهج. أدركت على الفور أن هذه هي سماء قريتي نوري، كما لاحظت أن قبّة السماء قد تحوّلت بضعة درجات عن مكانها منذ آويت إلى فراشي في بداية الليل، مستندا على معرفتي المحدودة المستمدّة من دروس علم الفلك الشعبي (العنقريب والتريا واخوتها) التي تلقيتها في طفولتي الباكرة من (الحبوبات) تحت نفس القبّة الهائلة، ممزوجة بالأحاجي التي كانت خير معين على النوم (هي وساعات طوال من السباحة في النيل). يلف القرية في الثلث الأخير من الليل سكون اسطوري لا يعكر صفحته إلا وشوشة جريد النخل الذي يُحيط بالمنزل والقرية، ونباح كلاب بعيدة، والهدير الخافت لطائرة نفاثة على ارتفاع آلاف الامتار فوق القرية التي تغط في سبات عميق. وشعرت، وأنا في حضن الوهج الباهت للنجوم، وفي عمق هذا الصمت السرمدي، أن جذوري ضاربة في أرض القرية، وأنني راسخ كالطود، وأنني آمن مطمئن في عالم قلق مضطرب. ولِمَ لا وأنا أرقد في نفس البقعة التي ولدت فيها قبل أكثر من ستة عقود، في نفس المنزل الذي خطوت على أرضه أولى خطواتي، ونطقت فيه أولى كلماتي؛ في نفس القرية التي أمضيت فيها سني طفولتي الباكرة، ينام حولي في جميع الاتجاهات مئات من الأقارب من أبناء وبنات العمومة والخؤولة وأبناءهم وبناتهم وأحفادهم، وبضعة أعمام وعمات وخؤولة وخالات ظلّوا على قيد الحياة رغم شظف العيش، ومشقة العمل، ولؤم الحكومات واهمالها، وعوادي الطبيعة والمرض، والتغييرات المذهلة في الدنيا من حولهم. وبين كل هؤلاء، هناك عشرات من أترابي وأقراني الذين لم يغادروا القرية كما فعلنا، بل ظلّوا فيها يفلحون الأرض ويُنشئون أسرا كبيرة العدد. وحين ألقاهم ، بأكفهم وأقدامهم الكبيرة الخشنة، ووجوههم التي حفرتها تجاعيد الزمان ومشقة العمل، وتجاعيد الضحك الصافي حول الفم والعينين، وأعانقهم، واضم أجسادهم المعروقة الناحلة، احس بدفء مودتهم الصادقة تنقلني كلمح البصر عشرات السنين إلى أزمان أطيب وأبسط وأجمل. يدكرونني ببعض الفواكه الإستوائية: خشنة الملمس والمظهر من الخارج ولكن باطنها بهيج اللون، حلو المذاق. ولماذا أذهب بعيدا - بل يذكرونني بأشجار النخل التي تبدو وكأنها تُثبت القرية بأكملها في الترية الغنيّة على ضفاف النيل: تعلو جذوعها اليابسة الخشنة هامات من الجريد الأخضر الزاهي وسبائط زهور النخل الفواحة التي تنقلب "تُماماً" ثم "دفيقاً" ثم رطبًاً جنيّاً، ثم تمراً نهفو إليه أينما كنا. أشعر وانا بينهم بالرضى والاكتمال، وأن الدنيا بخير، وان الإنسان والعلائق الإنسانية هي الباقية، وما عداها زبد يذهب جفاء. نوري بالنسبة لي كغرف استعادة توازن الضغط الجوي لغواصي الأعماق السحيقة في البحار: فيها أستعيد توازني، واشحن خزائن طاقتي، وأملأ رئتيّ بالأكسجين وقلبي بالمودة الصافية، وارتّق دروعي، وأشعر بالتناغم مع الكون، وأعود إلى المدينة وأنا أكثر استعدادا لمجابهة ما يرزينا به هذا الرمن الردئ.