أثارت مقالات د. سلمان محمد أحمد سلمان عن "مسئولية انفصال جنوب السودان" اهتماما كبيرا وفتحت نقاشا ثرّا نتمنى أن يتواصل ، وخاصة أن القرار الإجماعي لأهل جنوب السودان بالاستقلال عن شماله يشكّل أكبر صدمة لأهل شمال السودان في تاريخنا المعاصر منذ الاستقلال ونقطة تحوّل فارقة من المرجّح أن تكون ذات أثر ذي شأن في تشكيل مستقبل شمال السودان الذي ربما ينتهي به الحال لمزيد من التفتت . ومقالات د. سلمان وهي تأتي في هذا الوقت وبعد عام من استقلال جنوب السودان تكتسب أهمية كبيرة لسببين . السبب الأول أشار له من سبقوني للكتابة عن المقالات وهو جانب التوثيق الحي ، وخاصة أننا في السودان لا نهتم اهتماما كبيرا بالتوثيق . ولقد أسدى إلينا د. سلمان خدمة كبيرة بحرصه على المبادرة بالتوثيق المبكّر وإلقاء الضوء الكاشف على التطورات الأخيرة منذ استلاب الإسلاميين للسلطة والتي أدّت لانقسام السودان . ولقد قام د. سلمان بذلك بدأبه المعروف عنه من المثابرة والدقة والحرص الشديد الذي لا يألو جهدا في جمع كل الخيوط . أما السبب الثاني فيتعلّق بالارتباط الوثيق بما ظلّ يحدث منذ اندلاع الحرب الأهلية الثانية بين الجنوب والشمال وما سيدخل كتب التاريخ وذاكرته وبالتالي يساهم (مع باقي مراحل تاريخنا المعاصر) مساهمة فاعلة في تشكيل وعينا (وخاصة وعي ناشئة المستقبل) في شمال السودان وجنوبه. إن التاريخ كتعبير عن صراعات البشر لا يقدّم لنا "قصة" واحدة وإنما "قصصا" عديدة تتنافس فيما بينها وتتصارع وتتصادم ، وإن كنا نبحث عن الحقيقية (ولا شك أنه توجد حقيقة تاريخية) فإن التوثيق هو الخطوة الأولى التي لا غنى عنها . وما قام به د. سلمان مبادرة فتحت الباب ولابد أن تتواصل بعدها جهود التوثيق إن كنا نحرص حقا على امتلاك ذاكرتنا التاريخية واستنقاذها من التزييف والنسيان . [2] والواقع المباشر الذي تواجهنا به المقالات هو واقع الصراع بين صفوتين سياسيتين هما الصفوة الشمالية والصفوة الجنوبية وكيف نجحت الصفوة الجنوبية ، ممثلة في الحركة الشعبية وخاصة قائدها جون قرنق ، في تحقيق حلمها الأكبر وانتزاع مطلبها الأقصى وهو الانفصال عن الشمال والاستقلال عنه . وبقدرما مثّل ذلك انتصارا للصفوة الجنوبية وهزيمة سياسية وعسكرية للصفوة الشمالية ، إلا أن ما تمخّض عن اتفاقيات الصفوتين في الفترة الانتقالية التي سبقت الاستفتاء كشف عن أمر محزن وهو أن الصفوة الجنوبية تشارك الصفوة الشمالية شيئا من إفلاسها الأخلاقي . فرغم جرائم الصفوة الشمالية ضد المواطنين الجنوبيين منذ الخمسينات ورغم تكثيف نظام الإسلاميين لحربه "الجهادية" ضد الجنوبيين بدرجة لم تُسبق ورغم جرائم الجيش وميليشيات النظام ضد المواطنين الجنوبيين تقتيلا وتشريدا إلا أن الصفوة الجنوبية كانت على استعداد لتقاسم "الكعكة" مع الإسلاميين (ما سمي بتقاسم السلطة والثروة) وبالتالي "تطبيعهم" أمام العالم وإسباغ شيء من "المقبولية" عليهم . ولقد وصل هذا الإفلاس الأخلاقي بالصفوة الجنوبية حد التواطؤ مع النظام في حربه ضد أهل دارفور . وفي كل ذلك لم تميّز الصفوة الجنوبية بين شيئين : بين الوصول لاتفاق سلام يحقن دماء أبناء الوطن الواحد من جنوبيين وشماليين وبين المشاركة في السلطة مع نظام آثم مضرجة أعضاؤه بدماء كل أهل السودان . كان من الممكن للصفوة الجنوبية أن تميّز بين الأمرين وتفصل بينهما فتفاوض من أجل إيقاف الحرب وتلتزم باتفاق السلام وتلزم به النظام بالتنسيق مع حلفائها الغربيين الذين كان النظام (وما زال) يلهث لإرضائهم وكسب ودّهم . كان من الممكن للصفوة الجنوبية أن تفعل ذلك وتظل محتفظة بحقّها القانوني والأخلاقي في محاسبة النظام ومقاضاته ومقاضاة الجيش وميليشيات النظام على كل ما ارتكبوه من انتهاكات وجرائم . إلا أن الصفوة الجنوبية كشفت عن معدن أخلاقي فيه هشاشة وكان من السهل على النظام جرّها لمستنقعه . ونسارع بالقول إن ما قلناه لا ينفي أن الصفوة الجنوبية لم تكن قريبة من نبض المواطن الجنوبي العادي الذي ظل يعاني من عنف الحرب وقسوتها وعسفها على يد الشماليين كل الوقت وعلى يد بعض الجنوبيين بعض الوقت . كان هذا المواطن توّاقا للسلام وتوّاقا لحريته التي ستفكّه من أسر قهر الشمال وتوّاقا لوطن مستقل يكون فيه مواطنا من الدرجة الأولى . إن الصفوة الجنوبية التي حملت السلاح كانت دوما تعكس هذا التوق ، وهو توق ألجمته الحركة الشعبية بعض الوقت عندما استبدلت خطاب الانفصال والاستقلال بخطاب "السودان الجديد" . إلا أن التوق الأصيل ما لبث أن انبعث وعاد لمنطقة القلب عندما زالت الضغوط الموضوعية التي فرضت على الحركة الشعبية خطابها الوحدوي . وهكذا فإن ما يمكن أن يقال في صالح الصفوة الجنوبية هو انحيازها الكامل للحلم الأكبر للمواطن الجنوبي العادي إلا أن ما يمكن أن يقال ضدها هو أنها لم تُقِمْ وزنا حقيقيا للثمن الذي دفعه المواطن العادي عندما تحالفت مع النظام الحالي . إن التاريخ لن ينسى لصفوة الحركة الشعبية رفضها للمشاركة في العملية الديمقراطية عقب الإطاحة بنظام نميري مما ساهم في إضعاف الوضع الديمقراطي وضعضعته إذ جاءت الانتخابات بجمعية تأسيسية كسيحة غاب فيها صوت الجنوب ، ولن ينسى التاريخ لصفوة الحركة الشعبية أنها وبعد إدارتها لظهرها للعملية الديمقراطية شاركت في حكومة أكثر الأنظمة قهرا وسفكا لدماء أهل الجنوب والشمال وهي تتذرع بمغالطة أن هذه هي وسيلتها الوحيدة لتحقيق حلم الاستقلال . كان لابد للنظام أن يدفع ثمن اتفاق السلام (والنظام كان يحتاج للسلام حاجة حياة أو موت) وكان هذا الثمن هو الموافقة على حق أهل الجنوب في تقرير مصيرهم بحرية كاملة . ولقد كان هذا الاتفاق وليس مشاركة الحركة الشعبية في السلطة هو الذي مهّد الطريق وفتحه لاستقلال الجنوب . لم تكن مشاركة الحركة الشعبية شرطا ضروريا لقيام الاستفتاء ، ولم تكن هذه المشاركة في واقع الأمر حتى تدبيرا فطنا بميزان السياسة عندما تصبح فعلا "براجماتيا" لا علاقة له باعتبارات الأخلاق والقيم، إذ أن الحركة الشعبية لم تنجُ من مصير باقي من تحالفوا مع النظام الحالي وأصبحت مثلها ومثل الآخرين مجرد رقم هامشي وفارغ لا يحمل وزنا حقيقيا . استطاعت الصفوة الجنوبية الوصول لاتفاق سلام أعطى المواطنين الجنوبيين ولأول مرة في تاريخ السودان المعاصر حقهم في تقرير مصيرهم وكان هذا هو إنجازها السياسي التاريخي والأكبر . ورغم أن الصفوة انخرطت في نظام الإسلاميين ولم تطالب بمحاسبته على جرائمه أو باعتذاره عنها ، إلا أن المواطنين الجنوبيين العاديين هم الذين حاسبوا الصفوة الشمالية على جرائمها بوسيلتهم التاريخية البليغة والماضية عندما أجمعوا إجماعهم التاريخي على قطع الحبل السُّري الذي يربطهم بالشمال وحققوا إقامة وطنهم المستقل ، وشاءت المفارقة التاريخية أن يتم ذلك بعد أطول حرب أهلية عبر أكثر الوسائل سلمية ، وسيلة الاستفتاء الشعبي الحر . [3] إن التاريخ الذي سيكتبه الجنوبيون والذي سيحرصون على أن تعيه أجيال نشئهم في المستقبل هو تاريخ حربهم وما عانوه من استعباد واستغلال وعنف وتهميش على أيدي أفارقة آخرين كانوا يوما بني وطنهم إلا أنهم تعالوا عليهم بدواعي إسلامهم واستعرابهم . ولكن ثمة تحديات ستواجه من يكتبون هذا التاريخ من الجنوبيين إن أرادوا أن يكونوا صادقين كل الصدق . لا نستطيع أن نتحدث عن كل التحديات ولكننا سنقتصر على إبراز تحديين اثنين . التحدي الأول هو تحدي الكتابة الأمينة عن مشاركة الحركة الشعبية للإسلاميين في السلطة (وقبلهم بالطبع مشاركة صفوة الانيانيا في سلطة نميري) وبالتالي تواطؤهم الفعلي في قمع مجموع الشعب السوداني وتخليهم عن حقهم في محاسبة النظام ومقاضاته على جرائمه التي ارتكبها في حق المواطنين الجنوبيين (وباقي أهل السودان) . أما التحدي الثاني الذي نودّ إبرازه فهو تحدي كتابة الجنوبيين عن مجموعة غير جنوبية متميزة شاركت الحركة الشعبية حربها وانضمت لصفوفها ، وهي مجموعة أبناء وبنات المناطق المهمشة وأبناء وبنات الشمال الذين انحازوا لحلم "السودان الجديد" ووقفوا مع الحركة الشعبية في خندق واحد لتحقيقه . وماذا عن التاريخ الذي سيكتبه الشماليون؟ سيواجه المؤرخون الشماليون تحديات أكبر من التحديات التي سيواجهها المؤرخون الجنوبيون . لن يستطيع المؤرخون الشماليون ، وخاصة من يكتبون المقررات المدرسية ، أن يهملوا الجنوب كما فعلوا في الماضي . إلا أن الخوف الكبير هو أن يهرب الشماليون من التاريخ الحقيقي لعلاقتهم بأهل الجنوب وأن يفشلوا في إدراك المسئولية الكبرى التي يتحملونها في انقسام وطنهم ويكتبوا التاريخ وكأنه مجرد مؤامرة كبرى ضد وحدة السودان . وسؤالنا عن التاريخ الذي سيكتبه الشماليون يجب أن يكون مدخلا لسؤال آخر وهو هل نستطيع نحن أهل الشمال أن نفعل الآن شيئا بإزاء هذا التاريخ ؟ إن صدمة انقسام الوطن الذي عرفناه وألفناه قد جعلت البعض يحسّ وكأن ما حدث هو مجرد كابوس مفزع سينجلي حال انجلاء البلاء المتمثّل في نظام الإسلاميين . وهذا بالطبع مجرد حلم ساذج يجب أن يُنفض . صحيح أننا في الشمال لا نستطيع إعادة العجلة للوراء إلا أننا نستطيع أن نبذر بذرة من الممكن أن تكون ثمرتها في المستقبل علاقات أكثر سلاما وتواؤما بين أهل الجنوب وأهل الشمال . وهذه البذرة تبدأ في تقديري بخطوتين . الخطوة الأولى هي الاعتذار لأهل الجنوب عن كل ما حاق بهم من ظلم تاريخي على يد الشمال . أما الخطوة الثانية فهي تكوين لجنة تحقيق عليا تحقّق في كل جرائم القوات المسلحة والميليشيات ضد المواطنين الجنوبيين منذ بدء الحرب الأهلية . إن الاعتذار والاعتراف بكل الجرائم التي تم ارتكابها في أطول حرب أهلية في العالم أمران في غاية الأهمية إن أردنا تعديل مسارنا التاريخي كشعب والتعبير عن إرادة حقيقية لتغيير أنفسنا وواقعنا . ونحن بالطبع لا نتوقع أن يتم الاعتذار لأهل الجنوب أو يشرع الشمال في التحقيق في جرائم قواته المسلحة وميليشياته قبل ذهاب نظام الإسلاميين . إن قصارى ما نأمله في هذه المرحلة هو أن تضع قوى التغيير هذين المطلبين في قلب مطالبها وأن نفتح الحوار واسعا على مصراعيه حول مسائل طالما تهرّب الناس في الشمال من الخوض فيها . [email protected]