[email protected] ... في بلاد الغربة و الشتات كثيرا ما تتواتر الحكايات عن الوطن الحبيب. و كثيرا ما يتجاذب المثقفون أطراف الحديث عن الوطن المأمول. لدي صديق و زميل مقرب دوماً يتحدث عن السودان بشفافية متناهية. فقد هجر السودان كغيره من الملايين ليس بسبب المال وحسب. و لكن كانت هنالك دوافع و قناعات سياسية و ثقافية. عندما يتحدث عن الفشل الذي أصاب و يصيب مفاصل الدولة و المجتمع ,تحس بألم و حسرة. كغيره ممن حاول أن يسهم في بناء السودان بعلمه و حسه و وجدانه. و لكن هيهات فقد أدرك بعد طول انتظار ان الوطن ينقصه الكثير. فهرب بعدما حاصرته الظنون و المشاكل الاقتصادية و الاجتماعية. ... هذه رواية المواطن السوداني ببساطة, إما أن يهرب و ينجو بجِلده أو يتفاعل مع الوضع الراهن فيصبح أداة من أدوات الفشل المزمن. في كثير من مجالس المثقفين و من تحت الطاولة يناقش فشل الطبقة المثقفة. هل المثقف السوداني فيلسوف أكثر من اللازم؟ هل ينأى بثقافته عن الواقع؟ و هل يصنف نفسه من الصفوة؟ أم يمارس التكبر على طائفة من الطوائف السياسية أو الثقافية أو الإجتماعية؟ أم يصنف نفسه صاحب الوجدان السوداني الفريد؟ قد يختلط الحابل بالنابل فيسقط من جراء الحرب الجائرة الكثير. حتى أصبحت عقدة الثقافة و السياسة متلازمات سودانية كحرب داحس و الغبراء و التي دامت أربعين عام. كدلالة على ترف فروسي (إن صح التعبير) و التي كانت في جاهلية العرب في نجد بين فرعين من قبيلة غطفان و هما (عبس) و(ذبيان) و مثلها حروب البسوس والفجار و بعاث. كل هذه الحروب بين أحياء العرب و التي كانت تربطهم الوشائج و الروابط الإجتماعية. فهل متلازمات السودان الثقافية منحدرة من جاهلية العرب إلى مروج أفريقيا السمراء؟ ... و هل حالنا في السودان غير ذلك؟ فشل عريض مداه 56 عام منذ الاستقلال. إما أن المؤسسات السودانية الثقافية و السياسية لا تدرك ما تريد, أم انها تنم عن طموح ساذج, أو انها تطغى عليها الروح و الوجدان و التصوف مما جعلها تنأى عن الواقع المعاش. فمتلازمة الفشل الإقتصادي في بلد يعد هو الأغنى من بين بلدان العالم من حيث الزراعة و الأراضي الخصبة و المعادن و المياه, تحط رحالها تحت أجنحة الساسة الذين يبتعدون بوطنهم عن متطلباته الحقيقية فيطلبون جرعات زائدة من التصوف في الفكر. فحل المشكلة الاقتصادية ببساطة عملية حسابية بسيطة يحلها أي طفل عادي في المدرسة. و لكن عندما تغول عليها الفكر الخرافي أصبحت المشكلة الاقتصادية السودانية خرافية. المثقف السوداني أو السياسي السوداني اذا تحول الى حاكم يحمل معه كل تبعات خصوصية الفكر الصفوي. فينحدر من الخطاب الملتهب بدلا من أن يحمل صورة الرجل البسيط الذي هو أبوه و خاله و عمه و أخوه أو المرأة البسيطة و التي هي أمه و خالته و عمته و أخته. ...جدل طويل و مستمر لم ندرك له حل, خيال لم يوافقه التوفيق في أرض الواقع. و لكن يبدو أن عقدة الجاهلية التي اثمرت عنها تلك الحروب الطويلة و الساذجة هي المعضلة. التفكير الصفوي, التمييز العرقي, حرق الآخر تماماً كل هذه المتلازمات الثقافية و السياسية هي أس البلاء في السودان. حتى الجماعات الإسلامية التي منوط بها تلمس خطى الدين الإسلامي سقطت في فخ المتلازمات السودانية. بل و تعمقت في الفصل بين جماعات الوطن الواحد في الدين و العرق و الاعتقاد و الفكر السياسي. و بذلك تكون قد أثارت النقع فوق الرؤوس. فأصبحت عقدة السودان واضحة و لكن حل العقدة هو اللغز المحير. و هل يا ترى من ثورة ثقافية اجتماعية تزيل كل الغبن عن المغبونين؟ و هل من تصالح اجتماعي يحل عقدة الذات؟ فالناس في السودان حكام و محكومين لا يعرفون ما معنى مصالحهم و ما معنى عمارة الوطن. فتستمر رواية الوطن و حكايته الحزينة ما دام الوضع هكذا. فليس هنالك حل غير الواقع الحقيقي و مجافاة الخيال الفكري.فلا يهمنا أي منهج يطبق و لكن يهمنا أي جماعة تحكم, ان كانت واعية لمتطلبات السودان و شعبه و انحازت للشعب ككل فذلك هو النجاح و غير ذلك فهو الفشل بعينه.