بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى: (هَذَا بَلاغٌ لِلْنَّاس وَلِيُنْذَرُوْا بِه وَلِيَعْلَمُوَا أَنَّمَا هُو إِلَهٌ وَاحِد وَلِيَذَّكَّر أُوْلُو الألْبَابْ) .. الآية هذا بلاغ للناس توطئة: ما دفعني للكتابة اليوم هو سائق التاكسي "قرعم" وهذا والله اسمه كما ذكره لي في زهوٍ ، عندما سألته من باب التعارف من أجل أن أفتح معه حوار لتقصير المسافة وقتل الملل إلى أن أصل لوجهتي خاصة أنها طويلة نسبياً فمن قلب العاصمة الخرطوم إلى الثورة الحارة (26)، وقرعم منظره مرعب فهو أصلع الرأس مفتول العضلات وعاتي الجسم فقد وهبه الله وفرة في الجسد ومهابة حتى حد الفزع، وكأنه من مصارعي السومو، يعني أنا بالنسبة له أعتبر قزم الأقزام ، ولله في خلقه شئون!!. عندما ركبت معه كان الوقت مبكراً والشوارع شبه خالية من السيارات إلا من بعض المارة تحسبهم على أصابع اليد ،أما في الاتجاه المقال فلا توجد غير سيارة تاكسي" مهكعة" تمشي في دلً واختيال الهوينا في الاتجاه المقابل ، فإذا بهذا "القرعم" يستعمل آلة التنبيه ( البوري) في ذاك الصباح الباكر، فى نوبة طويلة مما دفعني لسؤاله : إنشاء الله خير يا قرعم ، إذ كان الشارع خالياً تماماً فاعتقدت أن الرجل مرفوع عنه الحجاب ويستطيع ربما أن يرى الجن ممن يعبر أمامه وخاف أن يدهس أحد أبنائه ولذلك استعمل آلة التنبيه ليلفت نظره بأن يطير بعيد في الفضاء حتى لا يجيب له مصيبة مع قبيلة الجن ويدخل في إشكالية ثأر بين الإنس والجن!!، ولكن هالني عندما سألته: إنشاء الله خير مالك دقيت بوري والشارع فاضي؟!!، وببساطة أجاب بأن سائق التاكسي الذي كان في الاتجاه المقابل هو صديقه (فكلمه وسلم عليه بالبوري!!) وذلك على حد تعبيره، وأقسم أن صوت آلة التنبيه كان حاداً لدرجة أني خفت على طبلة الأذن أو أن أصاب ، يعني ( خرم أضاني عديل) وهذا يعني أن السلام كان حار جداً!!، وحمدت وشكرت الله على نعمائه بأن لدينا من الجهابذة الذين يفهمون لغة الطير ولغة الكلام بآلة التنبيه ويستطيعون أن يجعلوا آلة التنبيه تتكلم وتسلم!! المتن: أذكر أنه كان في الزمن الجميل حينما يغتني أحدهم سيارة يقسم أنه لا يعرف أين زر آلة التنبيه في سيارته، إذ أن الثقافة التي كانت سائدة في ذاك الوقت الالتزام التام بأن جهاز التنبيه هو وسيلة تحذير في الحالات الطارئة ولا يجوز استعماله إلا في الضرورة القصوى، والناس كانت ملتزمة بأدبيات المرور وقواعد قيادة السيارات وكان الاحترام متبادل بين المشاة وسائقي المركبات كلٌ يعرف ما له وما عليه، أما اليوم فعينك ما تشوف إلا النور، وأذنك لا تسمع غير التلوث السمعي صادرٌ من أصوات الآت التنبيه أو من أفواه السائقين ، أي لم نكتفِ بتلوث الماء والهواء بل رأينا أن نتعدى ذلك لنتميز، وبذلك فُتح باب رزق لأطباء الأذن والأنف والحنجرة جرّاء ما نجنيه على أنفسنا من الكلام والسلام وزفة العرس بالسيارات وتسخير الآت تنبيهها للتعبير عن الفرحة ومشاطرة العروسين الأفراح!! المرضى وكبار السن والمصلين الذين هم في صلاتهم خاشعون، والطلاب الذين يستذكرون دروسهم فليذهبوا إلى الجحيم!! أرزاق يا عم والخالق مقسمها.. سبحان الله مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد اللهم لا حسد!! نرجع لمرجوعنا والأخ قرعم ، بالطبع أنا لم أتهور ولم أتجرأ في لوم أو معاتبة الأخ " قرعم" إذ آثرت السلامة حتى لا يقوم بالسلام عليّ بقبضة يده فالرجل يبدو أنه متعود يسخر كل الأدوات والآلات والأعضاء التي وهبها الله له المتوفرة والمتاحة إليه ولديه للسلام فماذا سيكون الحال والمآل إذا ما تهورت وأبديت امتعاضي سواء الإيماء أو القول؟!! ، ولأنني أيضاً أدرك حال أحوال أقسام الحوادث والطوارئ في مستشفياتنا!! الحاشية: الحمد لله فنحن حينما نمسك بالمجد من أطرافه، فما في واحد بيلحقنا، وهذا يعني أن لنا القدح المعلى في كل ما يحير ويدعو للدهشة، فغير التلوث السمعي ، فنحن بلا فخر رواد التلوث النظري مثلما هو حالنا مع الهواء والماء إذ نقوم بقطع الأشجار والنجيلة والأزهار من الحدائق، إضافةً للمساهمة الفاعلة في انبعاث الغازات السامة من المصانع والمركبات ومن صرف مواد النفايات السامة من المصانع مباشرة إلى النيل وكذلك اختلاط مياه الشرب مع الصرف الصحي شراب كوكتيل يعني!!... وده كلو كوم والنفايات الطبية كوم آخر فحتى تؤكد لك إدارة المشفى أنك أمام مشفى فلا بد أن تجدها ملقاة أمام مداخل المشفى الذي يبيع لنا الطبابة وكأنها تطبق المثل القائل: أن فاقد الشيء لا يعطيه!! من المشاهد ربما المألوفة التي شاهدتها وشاهدها غيري، منظر أكياس النفايات الملقاة على قارعة الطريق حتى في أرصفة أرقى الشوارع والأحياء، إذ أصبحت بحد ذاتها موضوع اقتتال عنيف وساحة معارك وكأنها داحس والغرباء القرن الواحد والعشرون، نشهدها في عرض مباشر " لآيف" بين الكلاب والكدايس من أجل استئثار كلٌ منهما بنصيب الأسد، ناهيك عن منظر آثار المعركة التي تسوء الناظرين دعك عن روائحها الكريهة التي تفوح وتزكم الأنوف ولكن ربما لأني أتردد على الوطن على فترات متقطعة لذلك فالمنظر بالنسبة لي مدعاة للاستنكار، ولكن العجيب أن جميع من رأيتهم من المارة كانوا يبتسمون وهم يشاهدون المعارك التي تدور بين الهوام على الهواء ، وأجمل تعليق سمعنه من أحد المارة حين ذكر الآية الكريمة "رزقكم في السماء وما توعدون!!" وهو يعلق ً على مشهد موقعة الكلاب والكدايس حول أكياس النفايات التي بُقرت بطونها !! الهامش: منظمة العلوم والتربية والثقافة هي إحدى منظمات الأممالمتحدة والمعروفة اختصاراً ب (اليونسكو) تصنف العواصم حسب حالة النظافة وصحة البيئة، ولا أدري في أي مرتبة تم تصنيف الخرطوم ولكن حسب علمي أن عاصمة عربية عريقة – لا داعي لذكر اسمها – تميزت تصدرت القائمة وحازت على المرتبة الثالثة من بين أكثر العواصم قذارةً ولأنها ملآى بالنفايات ، فهل كلفت صحة البيئة في الدولة السنية الدخول لموقع اليونسكو لمعرفة مرتبة الخرطوم كعاصمة احتلت أي مرتبة أو حتى مخدة؟!!.. بالطبع، طناش.. وطناش متعمد كمان!!، لأن ديننا أمرنا بستر العورة!! من يمشي في حواري الخرطوم وأدرمان وبحري وخاصة الأحياء الطرفية يتمنى لو أنه لم يجرب يوما الدخول في أحد هذه الشوارع الجانبية، أولاً، لا مناص من أن تتوه رغم أنك تعرف وجهتك، تتهوه فيها كما يتوه اخرون أغراب إذ تقوم دوائرها الخدمية بحفر شوارعها ومجاري سيولها وتترك الأنقاض و النفايات ومصارف السيول دون تغطيتها وتذهب في حال سبيلها وتتركها على حالها من غير معالجة ، بحيث يحار الناس كيف يسيرون فيها، لا سيما اذا كانت ملآى بالمياه الآسنة علاوة على البعوض والذباب ، والعجيبة تُحار عن كيفية تجاوز المركبات التعرجات والتحويلات والحفر الموجودة فيها.. طبعاً مهارات سواقة مكتسبة عملاً بفقه " المضطر يركب الصعب"!! زرت ذات يومٍ تونس العاصمة فكدت أحار إن كنت في عاصمة عربية أو عاصمة أوروبية، انظروا، هل تجدون ولو (شبح) حفرة في احد شوارعها ؟ طبعا ، لن تجدوا ، فهي مكسوة تماما ، بأجود انواع الاسفلت ، فضلاً عن اهتمام إدارة العاصمة بكل شاردة وواردة في الشوارع ، لكي تضمن راحة المواطن . انظروا، هل تجدون طفحاً في مياه المجاري صيفاً او شتاء ً؟ ..هل تجدون شوارعها تغرق تحت مياه الامطار خريفاً؟!، أو تغطى بأكوام.....؟! طبعا لن تجدوا ، فكل شبكات تصريف المياه قد شملتها الصيانة في توقيتات معينة لضمان جاهزيتها قبل موسم الشتاء، وربما يمكننا أن نقول أن ما نشهده في عاصمتنا هو في الحقيقة افضل بكثير من حال شبكات التصريف في عواصم ولاياتٍ أخرى إن كانت بها شبكات ناهيك عن مدن وقرى تلك الولايات!!. في النصف الثاني من عقد الثمانينيات من القرن الماضي عندما زرت تونس كانت كل الشوارع في تونس العاصمة نظيفة بحيث اذا امطرت السماء صارت مرايا اكثر صقلاً .. يومها كان يرافقني صديق شعر بالحزن لأننا نتمشى كثيراً على الأقدام يومياً في شوارع تونس العاصمة وانتابه الشك في أنه في عاصمة عربية لنظافة شوارعها، وتأكد له أنه شارع نظيف تماماً. سار معي حتى نهاية الشارع ولم ير عقب سيجارة او حتى عوداً لتنظيف الأسنان. كانت صورة واقعية بشكل مؤلم بالنسبة له ، لأنه على خلفية الصورة عن (استحقاق) مستوى صحة البيئة بالخرطوم ، والذي أقل ما يقال عنه أنه مأساوي، ما كان يمكن لصديقي أن يحلم برؤية شارع مشابه في العاصمة المثلثة ، دعك عن أي مدينة سودانية أخرى. فصور النفايات هي الأصل، ومشهد الوجوه الكالحة والبنايات الكالحة هو الأصل، مشهد الخرائب والفساد والعتمة والكآبة واليأس من المستقبل هو الأصل، فهو مناسب لتراجيديا واقعنا القدري!! .. فقلت له: لا تبتئس، فنحن نعيش عصر رفاه الديمقراطية الثالثة يا صديقي!!.. و أرجوك لا تحدثني عن النظافة فالناس يا أخي لا تجد ما تأكله وهو الأولى !!. يا أخي حتى تكون سودانياً ومتوافقاً مع وطنك فعليك أن تكون على هامش الحياة التي يحياها باقي البشر!!. قصاصة: همس في أذني صديقي يومها ونحن نتجول في شوارع تونس العاصمة بعد أن أخذ لبه مستوى النظافة فقال لي يعني : اذا ضحكت ثلاث مرات في اليوم وأنت في الخرطوم فعليك ان تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فهناك ربما عقاب سريع ربما يأتيك من حيث لا تدري جزاءً لك على الضحك، واذا تزوجت من زوجةً طيبة، أو حصلت قوت يومك من سكر وخبز بلا عناء ، أو جالون وقود لسيارتك ، أو عثرت على مسكن معقول الكروة، أو رزقت بمرتب جيد، ورأيت نفسك بصحة جيدة، فليس عليك أن تستمتع، فعليك ان تعيش قلقاً متصلاً بأن كل هذا سيغادرك في لحظة قاسية!!، لأن كل هذه السعادة جاءت بطريق الخطأ ربما، او من أجل أن تتعذب لاحقاً بفقدان أسبابها،. كلنا في واقع الحال يا أخي نعمل في مؤسسة التراجيديا والدوامة السودانية الدائمة، على الأقل لأننا لا نعترض على صورتها الشبحية الجاثمة على حياتنا وحياة آبائنا وأحفادنا وأحفاد أحفادنا. لأننا ربما لا نسهم بوضوح في إعادة وطننا الى الأرض كي يكون بلداً، مجرد بلد آخر في قائمة بلدان العالم...قلت له: عليك بالدعاء .. الدعاء، الدعاء بإصلاح الحال، وإصلاح الحال ربما هو ليس من المحال!! عوافي على شنو ما عارف!! .. لكن عموماً عوافي!! Abubakr Yousif Ibrahim [[email protected]]