تعتبر علاقات الجوار من أعقد ملفات السياسة الخارجية لأي دولة من الدول ، فهذه العلاقات توصف بالأزلية إذ أن الدول ليس بإمكانها تغيير جيرانها. لذلك فإن العلاقات بين أي دولتي جوار تنشأ عادة منذ ظهورهما للوجود وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. والحالة الوحيدة التي تتغير فيها طبيعة هذه العلاقة هي عندما تختفي إحدى الدولتين عن الوجود لأي سبب من الأسباب كالاندماج في الدولة الأخرى مثلاً. وفي السياسة الدولية هناك ما يعرف بمتلازمة الدولة الأصغر والدولة الأكبر ، وذلك عندما يشاء حظ دولة ما أن يجعلها في جوار دولة مهيمنة في الاقليم أو على المستوى الدولي كما هو الحال بالنسبة للمكسيك وكندا أو دول الحزام الآسيوي جنوبروسيا. ولا أظننا نجافي الواقع إذا ما وضعنا العلاقات السودانية المصرية تحت ظل هذه المتلازمة ، فطبيعة هذه العلاقات تعكس كل ظواهرها باعتبار أن السودان هو الدولة الأصغر بالرغم من مساحته الأوسع حتى بعد انفصال الجنوب. عليه ، فإن العلاقات السودانية المصرية تمثل أحد أهم قضايا السياسة الخارجية في السودان منذ استقلال البلاد في عام 1956. وقد انقسم الرأي العام السوداني والحركة السياسية الحديثة إلى عدة اتجاهات حيال قضية الوحدة أو التكامل بين البلدين. ولعل أكثر ما يعبر عن الاتجاهين الأكثر تطرفاً حول الموضوع تلك الطرفة التي تحكي عن السياسي السوداني المتحمس لفكرة الوحدة الاندماجية الكاملة والذي سأل في نهاية خطابه الجماهيري عما يحدث إذا ما قام الإنسان بإزالة الحائط الحاجز بينه وبين جاره ، متوقعاً رداً يؤيد وجهة نظره ويؤكد فهم الحاضرين لرسالته. جاء الرد المفاجئ على لسان مواطن بسيط كان بين الجمع الذي يستمع للسياسي ؛ صاح المواطن قائلاً: "حيكون خراب بيوت". وبين مؤيدي الاندماج التام والمتخوفين من "خراب البيوت" تباينت بصورة واضحة مواقف القوى السياسية السودانية بمختلف ألوان طيفها حيال قضية الاتحاد أو التكامل مع مصر. ويبدو أن في مصر أيضاً مؤيدون لفكرة الاندماج إذ لا زال هناك من يرى في استقلال السودان "انفصالاً" ويعتبره من أكبر "خطايا" ثورة يوليو. لن نحاول في هذا المقال تناول مزايا أو مشاكل الوحدة أو التكامل بين السودان ومصر ، ولكننا سنتحدث عن جزئية صغيرة تتعلق باستقلال جنوب السودان في يوليو من العام الماضي وانعكاس ذلك على الجدل الدائر حول موضوع وحدة وادي النيل كما يروق للبعض أن يسميها. ومع اعتقادنا أن الغالبية العظمى من المواطنين السودانيين بمختلف طبقاتهم تفضل نوعاً من التعاون والتنسيق الذي يقوم على الندية بين البلدين ، إلا أنهم ينظرون لذلك من منطلقات اقتصادية وثقافية في المقام الأول. غير أن هناك مجموعتان على طرفي النقيض إحداهما ترى أن الوحدة الشاملة هي الأنسب بالنسبة للبلدين وهم من أشرنا لهم في عنوان هذا المقال باسم "الإندماجيين الجدد" ، والأخرى ترفض أي نوع من التكامل أو الوحدة مع مصر. ومجموعة الاندماجيين جدداً كانوا أو قدامى تضم في داخلها عدة اتجاهات تنطلق من منطلقات متباينة. ولا يربط بين أعضاء هذه المجموعة رباط فكري واحد فقد كان فيهم اليساريون من القوميين العرب ، ودعاة وحدة الأمة الإسلامية وغيرهم. ظلت مشكلة الحرب في جنوب السودان تنعكس بصورة أو أخرى على جهود الحكومات السودانية المتعاقبة في اتجاه توثيق العرى مع مصر. لم تكن طبيعة الأوضاع السياسية في البلاد تتيح للجنوبيين التاثير بصورة مباشرة على الخط السياسي العام العام حول قضية الوحدة مع مصر وذلك لأن السودان كان ومنذ الاستقلال يرزح تحت ظل حكومات متسلطة لا تسمح بالرأي الآخر إلا في حدود ضيقة للغاية. غير أنه لم يكن بإمكان أي حكومة في الخرطوم ، مهما كانت درجة تسلطها ، أن تهمل أثر الأحداث في الجنوب على تحركاتها في الساحتين الدولية والإقليمية. لذلك فإن أحداث الجنوب كانت في مناسبتين على الأقل سبباً في إنقاذ السودان من وحدة غير مدروسة مع مصر ، أو إضاعة فرصة تاريخية لتحقيق الوحدة مع الجارة الشمالية حسب الزاوية التي ينظر منها المراقب للأمر. كانت المرة الأولى في عام 1954 عندما أعلنت الحكومة الانتقالية عن إلغاء الاستفتاء الذي كان مزمعاً إجراؤه حول وحدة وادي النيل ، والثانية هي انسحاب السودان من مشروع اتحاد الجمهوريات العربية في مطلع السبعينات من القرن الماضي. كان الاتحاديون ومن بينهم "الاندماجيون" قد رفعوا شعار "وحدة وادي النيل" عندما كانت البلاد تسير بخطى حثيثة نحو الاستقلال ، وقد خاض الاتحاديون انتخابات عام 1953 على هذا الأساس وحصلوا على غالبية المقاعد في البرلمان وتمكنوا من تكوين الحكومة التي كانت تعمل على إعداد البلاد للاستقلال. اكتنفت مسألة "وحدة وادي النيل" كشعار للحركة الاتحادية خلال انتخابات عام 1953 الكثير من التأويلات ، خاصة وأن الحزب الوطني الاتحادي الممثل الأكبر لهذا التيار تنازل عن الشعار ووقف إلى جانب خيار الاستقلال التام. ومع أن المؤرخين يربطون بين إلغاء الاستفتاء حول وحدة وادي النيل الذي كان مزمعاً إجراؤه وبين التطورات على الساحة السياسية في شمال السودان ، إلا أن ذلك القرار الذي اتخذ قبل وقوع تمرد الفرقة الجنوبية في توريت وجد ارتياحاً في الكثير من الأوساط الشعبية بالنظر للتوتر الذي كان سائداً بين شقي الوطن ، فقد كان الجنوبيون بالرغم من ضعف تمثيلهم في مؤسسات الدولة الجديدة يرفضون تماماً التقارب مع مصر ولم تجد محاولات الصاغ صلاح سالم لاستمالتهم لهذا الخيار. والمطلع على ما ورد بصحيفة "الأيام" الصادرة في الخرطوم بتاريخ 18 سبتمبر 1954 يدرك مدى الترابط بين الأوضاع التي كانت سائدة في جنوب الوطن وأي قرار بشأن وحدة وادي النيل ، حيث رحبت الصحيفة في مقال بقلم رئيس تحريرها الأستاذ بشير محمد سعيد بإلغاء الاستفتاء وأشادت بحكمة الحكومة مشيرة إلى أن القرار" يضع حداً للتوتر السائد بين الشمال والجنوب". أما بالنسبة لما يتعلق بانسحاب السودان من اتحاد الجمهوريات العربية المتحدة ، فقد بدأت الخلاقات حول فكرة الوحدة الاندماجية بين مصر والسودان وليبيا منذ المحادثات الثلاثية التي انتهت بميثاق طرابلس. كان الزعيم الليبي معمر القذافي يبدي حماساً بالغاً للوحدة التامة بين الدول الثلاث بدعوى أن مقومات الوحدة على المستوى الجماهيري متوفرة ، وأن تقاعس القيادات العربية هو الذي يقف حائلاً دونها. أما السودان فقد كان متردداً لصعوبة الاندفاع في مشروع للوحدة العربية في الوقت الذي لم تتحق فيه الوحدة الوطنية داخل البلد نفسها ، حيث كانت حرب الجنوب مستعرة في ذلك الوقت. لذلك فقد كان من الطبيعي أن ينسحب السودان من مشروع الجمهوريات العربية المتحدة ، خاصة وأن التوقيع عليه جاء في الوقت الذي كان يشهد الاتصالات الأولية بشأن محادثات السلام بين الحكومة وحركة تحرير جنوب السودان والتي انتهت بتوقيع اتفاق أديس أبابا ، وذلك موضوع آخر قد نفرد له مقالاً يتناول بصورة خاصة أثره على توجهات السودان العروبية. رأى الاندماجيون الجدد في ذهاب الجنوب إلى غير رجعة في يوليو 2011 فرصة سانحة لإعادة الحديث عن وحدة وادي النيل ، غير أنه تواجه هؤلاء مشكلة أساسية وهي أن السودان لا زال دولة متعددة الأعراق والثقافات حتى بعد ذهاب الجنوب. ينكر غلاة الإندماجيين بالطبع هذه الحقيقة باعتبار أن 99% من سكان السودان هم الآن من المسلمين. بل يذهب بعضهم ، كما فعل الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي ، لاختراع أصول عربية للعديد من القبائل السودانية الأفريقية. وهؤلاء بالطبع ممن لا زالوا يتمسكون بالنظريات التي عفا عليها الزمن حول بناء الأمم والتي كانت سائدة في ستينات القرن الماضي وكانت ترى في التنوع الثقافي والعرقي عائقاً أمام تحقيق الوحدة الوطنية. ويمضي بعض هؤلاء للقول بضرورة تعريب السودان قسراً وذلك بفتح باب الهجرة أمام ملايين الراغبين من الدول العربية وتوطينهم في السودان في محاولة لقلب المعادلة التي ساهم في خلق جانب منها الاستعمار الانجليزي. ولا يدرك هؤلاء فيما يبدو أن النظريات الحديثة في بناء الأمم ترى أن التنوع الثقافي والعرقي يمثل عامل قوة وليس عامل ضعف بالنسبة للدولة القومية ، وأنه من بين مائتي دولة أو يزيد في العالم اليوم ليس هناك إلا دولاً تعد على أصابع اليدين يمكن القول بأنها موحدة ثقافياً وعرقياً. وقد يتجاهل هؤلاء حقيقة مهمة يؤكدها الكثير من علماء السياسة وهي أن دولة مثل كندا لم يكن بإمكانها أن تصمد أمام الضغوط السياسية والثقافية الهائلة للذوبان في جارتها الكبرى على أيام توسعها لولا وجود ولاية كيبيك التي تصر على الاحتفاظ بلغتها وثقافتها الفرنسية. تكمن قوة كندا كما هو معلوم في مقدرتها على إدارة تنوعها الثقافي ، سواء أن كان ذلك في مواجهة جارتها الكبرى أو على الساحة الدولية عامة. لا نشك لحظة أن تياراً لا يمكن الاستهانة به وسط مواطنينا في الشمال يرى في انشطار البلاد وذهاب الجنوب نعمة منَّ الله بها على السودان ، وذلك لأنه قاد إلى وقف الحرب الطويلة التي كلفت البلاد الكثير ، وإن كانت الأحداث التي أعقبت الانفصال قد ألقت بظلال كثيفة على هذا الاعتقاد. ومع أننا لا ننكر أهمية وقف الحرب التي كانت تستنزف موارد البلاد ، إلا أن انشطار السودان لن يكون إضافة إيجابية على المدى الطويل ، بل سيشكل في اعتقادنا خصماً على قوة وإمكانيات السودان كدولة قومية. ونرى اليوم واقعاً ماثلاً أمام أعيننا وهو أن ذهاب الجنوب كان سبباً في ضعف ما تبقى من السودان مما جعل بعض أبنائه يحسون بعدم الاطمئنان ويبحثون عن القوة عن طريق الذوبان في وحدات قومية أقوى. ولعله مما يثير الأسف أنه بينما كان الاندماجيون القدامي يبنون مواقفهم على أسس رومانسية وانبهاراً بمصر ومقدراتهاالاقتصادية والسياسية والثقافية ، فإن الاندماجيين الجدد يبنون مواقفهم على أسس عنصرية بحتة. Mahjoub Basha [[email protected]]