التاريخ لا يذكر (ميسون ابنة بحدل الكلبية) بحماسة،لأنها أم خليفة وزوجة خليفة .. كلا .. البتة .. ف ما أن حملت بابنها (يزيد) حتى سيرها الخليفة الأموي (معاوية بن أبي سفيان) إلى ديار أهلها في نجد، بعد أن طلقها ثلاثاً، إثر ضبطه إياها (متلبسة) بالتعبير عن تعاستها من حياة العز والقصور (لبيت تخفق الأرواح فيه أحب إلىَّ من قصر منيف .. وأكل كسيرة في صحن بيتي، أحب إلىَّ من أكل الرغيف) ! .. ما الذي فعلته (ميسون) حتى يذكرها التاريخ بدهشة متجددة طيلة هذه القرون من الزمان ؟! .. رفضت العز والجاه وحنت إلى حياة الفقر .. وعندما عادت إلى فقرها لم تندم .. ولم تحاول استرجاع حياة العز والثراء (الحلال) .. لأنها ببساطة تفضل حياة الفقر بشروطها هي، على حياة الغنى بشروط (معاوية) ! .. إنما ظلت حكاية رفضها للمال تستوقف الناس على مر العصور وتجدد دهشة الإنسان من فكرة القناعة بالقليل مع كون (الكثير) فرصة سانحة .. إلى درجة أن (ميسون) أصبحت رمزاً لقيمة إنسانية مفادها أن المال ليس الوجه الآخر للسعادة ! .. (2) (ميسون) مصر التي يتداول الرأي العام في مصر حكاية رفضها المال (الحرام) وتفضيلها الفقر على الغنى، وكأن حكايتها أحيت ذات الفكرة بتصرف فكرة الدهشة من وقوع فعل الرفض كموقف/مبدأ/مثال هي مهندسة معمارية اسمها (منال السيد)، رفضت قبول رشوة، قدرها اثنان مليون جنيه مصري، مع أنها تتقاضى رابتاً شهرياً قدره خمسمائة جنيه فقط ! .. فتم اختيارها شخصية العام في مصر لمحاربة الفساد .. ولئن سألتم عن الأيقونة الرمزية للتكريم فهي عبارة عن (قلة) من الفخار غطاؤها على شكل (تمثال نهضة مصر) .. وبعد تسلم (القلة) يقوم المكرم بكسرها (وراء الفساد) على الطريقة المصرية، ويبقى الغطاء فقط، في دلالة رمزية على أن جفاء الفساد يذهب، وتبقى نهضة مصر ! .. لاحظ أن عدم قبول الرشوة ينبغي أن يكون الأصل في سلوك صاحب الوظيفة العامة، وأن عدم استغلال الموظف العام لوظيفته من أجل مصالح خاصة هو الأصل، وأن قبول الرشوة (المال الحرام) هي المتغير ! .. لكن شيوع ثقافة الدهشة من رفض المال (الحرام) في هذا الزمان الرديء، والتي تمتد جذورها التاريخية إلى ما قبل قصة (ميسون الكلبية) رافضة المال (الحلال) بكثير شيوع هذا العرف الفاسد حوَّل قبول الرشوة كوسيلة لتغلب الموظف العام على أعباء الحياة إلى عرف فاسد (ثابت)، فأصبح (رفض الرشوة) هو المتغير، (المدهش) في شمال الوادي وجنوبه على حد سواء ! .. (3) غياب المؤسسية .. انعدام الشفافية .. المحاسبة .. ومساواة الجميع في الحريات .. ضبابية فصل السلطات .. القهر الوظيفي (تنمر الرئيس وخوف المرؤوس) .. وشمولية النظام في إدارة المؤسسات .. ضعف الوازع الديني والحس الوطني و شيوع ثقافة (الأنا ماليَّة) بين الناس، هي من (أهم) أسباب انتشار الفساد في السودان الذي تقول آخر تقارير (منظمة الشفافية الدولية) إنه في ذيل قائمتها ! .. (4) في الصين : العقوبة الرادعة لجرائم الفساد استغلال المناصب العامة لتحقيق مكاسب شخصية، وقبول الرشاوي .. إلخ .. هي الإعدام (وليس الأبعاد، وفي رواية : تغير المناصب) ! .. (الفساد المالي) يدخل في قبيل الفساد في الأرض .. وعليه ف الحل الناجع في تقديري ليس في إتباع سياسة (كسر القلة) على الطريقة المصرية، بل في تطبيق عقوبة (كسر الرقبة) على الطريقة الصينية ! منى أبو زيد [email protected]