الدكتور طبيب عبدالمنعم عبدالمحمود العربي . لندن رحيق الأمكنة يظل دوماً هو عطر الحنين الذي لا يفارقنا مهما بعدت بنا المسافات أو مساحات الزمن المتسارع نحو الخسران ويظل دوماً يشحذ قوافل الشجن التي تحملنا لتقربنا الي تلك المحطات الجميلة في رحلة الحياة بكل ما كانت تتنوع به من ألوان الطيف الاجتماعية والعاطفية والحياتية. كاتب سويدي مشهور من اصل إغريقي عاش السنوات الطوال في بلاد الشمال الباردة وكتب باللغة السويدية من الأدب الرائع مثل ما كتب بالعربية الأديب الرائع الطيب صالح فكان الحنين الي مرتع الطفولة باستمرار يسيطر علي حياته تلك الرغدة التي يعيشها في السويد فقرر الرجوع الي بلدته في اليونان وكان ذالك خلال التسعينات عندما كنت اعمل في السويد. شاهدته في مقابلة تلفزيونية وكانت عن تجربته حيث عاد الي السويد بعد ان سافر نهائيا الي اليونان مشحوناً بالحنين والعواطف الي مرابع اهله وصحاب الطفولة ولكنه عاد الي السويد مقهورا حزيناً حيث لم يعد يتعرف علي تلك الأزقة والحارات التي كانت مرتع طفولته فوجد معمارا مختلفاً ولافتات محلات جديدة ووجوه أناس لا يعرفها وحتي الوجوه القليلة الباقية من قدامي أهله وأصدقائه قد أحبط بما قد رآه من ما فعل بها الزمن من تغيرات وقبح فلم يجد حتي تلك الاريحية التي كان قد عهدها و يحن إليها ووجد فتورا في العلاقات الاجتماعية فقرر الهرب عائداً الي السويد قبل ان يقتله الإحباط. هذه المقدمة تقديم لتجربة شخصي الضعيف (شبه المماثلة نوعاً ما) التي اظل اعيشها للأسف بعد ان خرجت من السودان خروجاً كان لازما منذ العام 1979 بعد انتهائي من تدريب الامتياز ........ الخ ، هجرة كانت في سبيل الترتيب لدراسات عليا وتحسين كسب العيش والتي استمرت متواصلة حتي يومنا هذا. وكغيري من السودانيين الذين تبعثروا بل حتي وتعثروا خارج الوطن يظل الحنين وماضي الذكريات الجميلة يشدني ويناشدني الي عودة لتلك الديار والأمكنة العتيقة والي وجوه سمراء نشتاق الي رؤياها ومجالستها والي دعاشات الخريف ونخيلات الفريق الحنونة ولكن نجد ان الخوف والتردد دائماً ما يحولان بين المرء واتخاذ قرار جازم كما مثلاً في الخوف ان يعود الحبيب المنتظر الي الديار ديار سلمي فلا يجد من محبوبته أثراً أو خبراً. وفي مرة من المرات في ليلة شتاء قارس غلبني الحنين الي الامكنة والوجوه الحبيبة في السودان فحزمت حقائبي ومسكت قلمي مسافراً الي الوطن بهذه القصيدة : أعود إليك يا وطنى وقد بعدت مسافات أسافرها سنوات أكابدها فحمل الشوق يضنينى هناك فى الخرطوم من محطتها قطار كريمة الفيحاء يحملنى ينقلنى "يودينى" إلى أهلي إلى بربر الشمَّاء إلى محطتها واقفة صامدة صابرة كعادتها لهيب الشمس يحرقها تشكو حرقتها لمختار ويس برغم الحال تكسياتها العرجاء واقفة يسوقها "الحجاز" عبدالكريم و"دهنش" وأخرون ذوا أفانين يقلوك بالترحاب والحاضر وان قل ولا بأس حتى بالدين فالكل تعرفهم والكل تذكرهم فى الحل والترحال دوماً ومن حين إلى حين هناك فى بربر كانت جدتى أمنة تؤنسنى فى الليلة الظلماء دوماً تلاطفني تحجينى " تلولينى" من قارس البرد عند النوم تدثرني تحصننى بيس وتغطيني بجناح جبرين حنينى إليك يا بربر يا كبدى يقربنى إليك رغم البعد إليك يدنينى وإلى أمى المشتاقة هناك بالأحضان تطوينى مزغردة مرحبة تحينى والوالد المرموق فى القدواب جذلاناً يصافحنى إلى صدره الواسع يقربنى والفرحة الكبرى على خديه لها نور تهز مشاعرى الجَمَّة تسيل دموعى الحَرَّى فالأشواق تشجونى وتشجونى تؤرقنى تعذبنى بنار تحرق القلب لا بحر يطفؤها ولا غيث يخمدها فدمع العين اليوم يكفينى أعود إليك ياسودان يا خرطوم يا بربر يا قدواب يانقزو إلى أهل كرام يعزونى إلى شمس تزاورنى من المشرق الي المغرب إلى عصافير الجنة بالحب تناجينى وقد شاء الله ان أعود الي الخرطوم فتذكرت ذالك الكاتب السويدي اليوناني لانني اول ما فقدته هو محطة قطار الخرطوم العريقة وقباب القطاطي البيضاء الجميلة التي كانت تزين تلك المدينة الجميلة فوجدتها قد تحولت الي مساحات من الأسفلت القبيح لتكون موقفاً للمواصلات العامة في موقع لا يسمح لمثل هذا الكم الهائل من السيارات وجموع الركاب وفي سنتر مدينة تعاني من اختناقات مرور السيارات منذ بداية السبعينات خاصة عند ساعات الذروة.تذكرت تلك الأسر من عمال السكة الحديد التي كانت آمنة راضية تسكن في هذه القباب والتي منها تخرج من الشباب العلماء والمفكرون من السودانيين الأجلاء منهم من نعرف ومن لا نعرف. ذهبت فجر سبت لاستمتع بجلسة عند مقرن النيلين فوجدت غابة من الحديد تحيط به وماكينات ألعاب ضخمة قبيحة كرؤوس الشياطين قد حلت مكان الأشجار الباسقات والحدائق العائلية الجميلة التي كنا نحتفل فيها مع الأسر أو الأصدقاء ووجدت خفراً قال لي ممنوع الدخول المقرن صار مؤسسة حكومية وبه صالة أفراح للإيجار يمكنك الدخول ليلا وبفلوس بعد ان تتحصل علي إذن . عدت بخفي حنين. وفي مناسبة عزاء ذهبت فلم أتعرف علي الوجوه التي كنت اعرفها فقد غير الزمن تضاريسها وسحنتها حتي الأصوات لم تعد تلك التي قد ألفتها من قبل والكثير المثير من التغيرات الاجتماعية التي اعترف بانها غريبة وبعضها أبداً لا يليق بهذا المجتمع السوداني الرائع الذي اعرفه وأكن لك كل الحب . قلت في نفسي احكم علي نفسك بما تراه عند غيرك. ترحمت علي والدي وكل الذين قد رحلوا الي الابد وعلي السائقين عبدالكريم ودهنش وعلي محطة الخرطوم ومحطة بربر وغيرهن كثر وعدت حاملا حقائبي مرة أخري الي أروبا القارة الباردة البعيدة ويداي تلوح من شباك الطائرة وأنا أقول "سلام سلام إليك يا وطني ..... سلام سلام إليك يا نيل ...... وأشواق ليس لها حدود ..... تسابق مسافاتنا الطويلة ..... تسابق كل الأشياء " اللهم اجمع غربة كل مهاجر مع أهله ومحبيه وأناشد المسؤولين بالحفاظ بما تبقي من الإرث القديم من معمار وعادات لضمان حفظ الهوية السودانية الفريدة من نوعها ولتدم أيها الوطن عبدالمنعم عبدالمحمود العربي