بسم الله الرحمن الرحمن مركز الخرطوم الدولى لحقوق الانسان (KICHR) منشور المركز رقم (46) بتاريخ 13 فبراير 2013 حكومة التكنوقراط: سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء يرى البعض أن "حكومة التكنوقراط" هى الحل الأمثل للمشكل الذى يواجه الكثير من دول العالم الثالث . ولقد تم مؤخراً تداول تلك الفكرة فى تونس وفلسطين والسودان . وفى تقديرنا أن "حكومة التكنوقراط" هى سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء لأنها يمكن ان تكون اسواء من الحكومات الحزبية لأنه كما سبق أن أوضحنا فى مقال نشرناه بتاريخ الأول من ديسمبر 2012 بعنوان "الديمقراطية المباشرة وحقوق الإنسان لضبط جنوح النخب" أن المشكلة تكمن فى "جنوح" بعض النخب الحاكمة والمعارضة وليس فى النظام الحزبى نفسه . وفى منشورنا رقم (37) الصادر بتاريخ 20 يناير 2013 عرفنا "جنوح النخب" بانه الحب غير المشروع للمناصب والمال وعدم الاهتمام بمعاناة المواطن . وبما إن الضمير الذى يعصم من الجنوح لا يقتصر على التكنوقراط دون غيرهم من النخب ، فإنه من المتوقع ان يكون حكم التكنوقراط اكثر سوءاً من حكم الاحزاب ، لأنه بالاضافة الى عدم إنفراد التكنوقراط بعاصم اضافى يعصمهم من "الجنوح" فإنهم لا يحملون تفويضاً جماهيرياً كما هو حال ممثلى الأحزاب السياسية ، على الرغم من ضعف ذلك التفويض وانه يحتاج الى تقوية عن طريق "الديمقراطية المباشرة" على نحو ما أوضحنا فى مقالنا المشار اليه أعلاه . كما ان التكنوقراط ليست لديهم بنية حزبية تساعدهم فى تصريف شؤون الحكم . ولذلك فانهم يكونون عرضة للإستقطاب السياسى من قبل الأحزاب السياسية التى لديها كل الامكانات والخبرة لذلك . ولعل تجربة حكومة المرحوم سر الختم الخليفة التى شكلت عقب ثورة اكتوبر 1964 خير دليل على ما نزعم . ويمكن علاج "جنوح النخب" بإجراءين: اولهما هو أن نقرب الديمقراطية "التقليدية" الى اصولها عن طريق الاستماع الى رأى الجماهير نفسها قدر الامكان بديمقراطية مباشرة ، وعدم الاكفتاء بالتمثيل النيابى . ولا شك أن تلك "الديمقراطية المباشرة" تحتاج الى ترتيب عملى يمكن من الاستماع لآراء الجماهير ذات نفسها وليس لآراء النخب التى تمثل تلك الجماهير ، كما حدث فى تجربة اللجان الشعبية فى ليبيا ، والتى اختطفت تجربة "الديمقراطية المباشرة" . ولا شك أن تلك هى الصعوبة الأساسية التى تواجه "الديمقراطية المباشرة" ولابد من إيجاد حل عملى لها على نحو ما سوف نوضح لاحقاً . ولقد فطنت الدول الغربية التى أتت بمفهوم الديمقراطية "التقليدية" الى أهمية "الديمقراطية المباشرة" واشارت اليها بعبارات مختلفة مثل "سد الفجوة بين المواطنين والدولة" ، وهو أمر تناولته بشئ من الاسهاب مع موضوعات أخرى كثيرة ذات صلة فى كتابى الذى نشرته هيئة الأعمال الفكرية عام 2006 بعنوان "الحكم الرشيد فى التجربة الدولية" . ولأهمية الموضوع فإننى قد كتبت حوله مقالاً مؤخراً نشر فى موقع سودانايل يوم 2 نوفمبر 2012 بعنوان "سد الفجوة بين المواطن والدولة أحد أهم مطلوبات الإصلاح السياسى" . و"سد الفجوة" هو كذلك أحد أهم عناصر الحكم الرشيد ويماثل مفهوم "توسيع قاعدة المشاركة" . والذى هو أفضل بكثير فى تقديرى من "الديمقراطية التقليدية" لأنه يؤدى الى اشراك اكبر عدد ممكن من المواطنين وهو خطوة فى الاتجاه الصحيح ، ولكنه ليس الحل النهائى لأن المطلوب فى تقديرى هو المشاركة الكاملة أو "الديمقراطية المباشرة" ، بحيث يتم الاستماع لآراء كل المواطنين وليس اكبر عدد منهم ، على اساس أن تشكل تلك الآراء قيداً على النخب التى تمثل المواطنين فى الأجهزة التشريعية وتحول دون "جنوحها . ولتجاوز الصعوبة الأساسية التى تواجه "الديمقراطية المباشرة" والتى تتمثل فى استحالة جمع المواطنين فى مكان واحد ، كما أشرنا اعلاه ، فإنه لا بد من ترتيبات عملية مثل إستحداث مؤسسات مجتمعية وليست حزبية جديدة ذات انتشار قاعدى يغطى كل ارجاء الوطن تمكن من الاستماع الى آراء الجماهير ذات نفسها . وتنفيذاً لذلك التصور على أرض الواقع فإننا قد انشأنا مركز الخرطوم الدولى لحقوق الإنسان (KICHR) وثورة الحقوق عام 2005 . ولقد استقطبنا لذلك حتى الآن أكثر من 134,000 عضو وأكثر من 1350 فرع (برلمان جماهيرى) فى كافة بقاع السودان ومازال الانتساب للمركز ولثورة الحقوق مستمراً وبصورة يومية . ولقد سبق أن شرحت تلك التجربة فى مقال طويل نشر فى موقع سودانايل بتاريخ 25 سبتمبر 2012 بعنوان "دعوة مفتوحة لثورة حقوق إنسان فى السودان لترشيد الحراك السياسى ودعمه". وتمارس"الديمقراطية المباشرة" عملياً على أرض الواقع عبر فروع المركز وثورة الحقوق والتى تكون عبارة عن "برلمانات جماهيرية" يتكون كل منها من عدد لا يقل عن 40 عضواً ، بحيث تنتظم تلك البرلمانات كل بقاع السودان وتضم كل المواطنين الذين لهم الحق فى التصويت بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية او الدينية او العرقية أو خلافه . ويقتصر دور مدير الفرع أو رئيس البرلمان الجماهيرى على رفع مطالب الجماهير كما هى الى ممثلى تلك الجماهير فى الأجهزة السياسية والتنفيذية المختصة ، على اساس ان تكون تلك المطالب هى الاساس الذى يضبط "جنوح النخب". ويتم التصويت داخل تلك البرلمانات بالاجماع لأنها تضم كل المواطنين الموجودين بمنطقة البرلمان الجماهيرى على اختلاف انتماءاتهم السياسية والدينية والعرقية أو خلافها ، ولكن مازالت تلك البرلمانات ليست لها فاعلية بالدرجة المطلوبة لأن التجربة مازالت فى بدايتها ، ويتم كل ذلك وفق مرشد ثورة الحقوق الذى أصدرناه . أما الإجراء الثانى والأخير لعلاج "جنوح النخب" بالاضافة الى "الديمقراطية المباشرة" فهو أهمية إتفاق المواطنين على "ميثاق حد أدنى" حتى يتيسر تصويتهم بالاجماع فى برلماناتهم الجماهيرية . وذلك الميثاق متاح وموجود ولا يحتاج الى صياغة جديدة وهو مجموعة حقوق الإنسان التى وافقت عليها حكومة الأحزاب عام 1986 ووافقت عليها حكومة الانقاذ الوطنى فى دستور 2005 ، والتى وافق عليها المجتمع الدولى كذلك فى العهدين الدوليين . ولقد لخصناها فى قائمة تتكون من 37 حق أصبحت هى الميثاق الذى تعمل بموجبه البرلمانات الجماهيرية ، اما الحقوق الأخرى المختلف عليها فانها لا تدخل فى اختصاص البرلمان الجماهيرى . وفى الختام نلاحظ أنه وبسبب جنوح النخب فإن التوزيع العادل للسلطة والثروة لا يعنى بالضرورة ذهابهما الى المواطن المستهدف ، واتفاقيات نيفاشا لاقسام السلطة والثروة خير دليل على ذلك ، لأننا لا نعتقد أن المواطن فى جنوب السودان قد استفاد من السلطة والثروة التى منحت للنخب الحاكمة فى جنوب السودان بموجب اتفاقيات نيفاشا . ولذلك فإن الحل هو "ديمقراطية مباشرة" تمارسها الأحزاب السياسية مصحوبة ببرامج حقوق إنسان محددة توظف فيها السلطة والثروة لمصلحة الجماهير ، خلال إطار زمنى محدد وليس "حكومة تكنوقراط" ، ولا شك أن ذلك يتطلب وعياً جماهيرياً يحدث الضغط المطلوب لتغيير سلوك النخب الحاكمة ، أما تغيير النخب من خلال التداول السلمى للسلطة فإنه شأن سياسى تمارسه الأحزاب السياسية . صدر تحت توقيعى وختمى فى هذا اليوم الثالث عشر من شهر فبراير عام 2013 . د.أحمد المفتى المحامى مدير عام المركز ومؤسس ثورة الحقوق ومرجعيتها التاريخية