الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    المرِّيخ يَخسر (سُوء تَغذية).. الهِلال يَخسر (تَواطؤاً)!!    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دردشه فقهية: تعدد الزوجات .. بقلم: هشام آدم
نشر في سودانيل يوم 23 - 03 - 2013

قد يبدو الموضوع مُعادًا ومكرورًا للكثيرين، حتى أنَّي قاومتُ زهدي في طرحه كثيرًا، ولكن علِّي أُفلح، في هذا المقال، في تغطية الموضوع بصورةٍ أشمل، وأنجح في إضافة شيءٍ جديدً عليه، فالموضوع، رغم قِدمه واستهلاكه بكثرةٍ، إلا أنَّه يظل، على الدَّوام مُكتسبًا أهميته من ارتباطه الوثيق بقضيةٍ تمس العدالة الاجتماعية لفئةٍ وشريحةٍ في المجتمعات الإنسانيَّة، والتي رغم غالبيتها العددية، إلا أنَّها تُعامل معاملة الأقلية، وما ذاك إلا لأنَّ الأقلية العددية تُقدِّم نفسها، دائمًا كغالبيةٍ نوعيَّةٍ اكتسبت فاعليتها من ارتباطها التاريخي والأيديولوجي بالسُلطة القانونية والسُلطة الدينية، بشقيها: السِّياسي والشعبوي الثقافي، وإلا فلا وجود لفوارق نوعيَّة تذكر بين الجنسين. دعوني أبدأ المقال بتساؤلاتٍ مباشرة، ولنحاول الإجابة على هذين السؤالين:
1) هل أباح الإسلام، فعلًا، تعدد الزوجات؟
2) إذا وُجد التعدد في التشريع الإسلامي، فهل هو مُباحٌ أم مفروض أم مُستحب؟
وحتى يُمكننا الإجابة على هذه الأسئلة، فلابُد لنا من استحضار معارفٍ أساسيَّة، منها: القرآن، باعتباره مصدر الشريعة الأول والإطار النظري لها، والسُنَّة النبويَّة بأقسامها الثلاث المعروفة: القوليَّة والفعليَّة والتقريرية، باعتبار أنَّ السُنَّة النبويَّة هي الإطار التطبيقي للتشريع القرآني، وأخيرًا، التفسير باعتباره عاملًا أساسيًا وهامًا في فهم النص القرآني النظري، فلا فائدةٌ تُرجى من نص غير مفهوم أو مُشكِل أو حتى مُختَلفٍ حول معناه. ولنبدأ من الآية الأساسيِّة التي يعتمد عليها أنصار التعدد والقائلين به: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}1 وهي الآية التي يطيب للكثيرين ابتداءها من: {فَانْكِحُوا} والتوقف عن حدِّ قوله: {وَرُبَاعَ} باترين الآية من سياقها، ولكن هل للسياق أيَّة أهميَّة تذكر فعلًا؟ إذ يذهب بعض المُعتدلين إلى القول بأنَّ الأصل في تشريع الزواج في الإسلام الزواج بواحدة، بدليل: {فَوَاحِدَةً}، وتشريع التعدد، بحسبهم، مقترنٌ بحالة مُحددة بعينها: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}، وهي حجَّةٌ قد تبدو منطقيَّةً ومقبولةً، غير أنَّها ليست كذلك، فإذا كان الأصل الزواج بواحدة والتعدد استثناء، وَجَبَ اعتبار الاستثناء اضطرارًا، ولا يُفهم من سياق الآية الاضطرار، بدليل استخدام الآية لتعبير: {مَا طَابَ لَكُمْ} وهو تعبير لا يعكس الاضطرار، وإنما الرغبة مع المُتعة، وإلا فإنَّ الصيغة التي تُظهر الاضطرار قد تكون على شاكلة: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فََلا جُنَاحَ عَلَيْكُم أنْ تَنكِحُوا مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) أو ما يُشابهها مما يعكس الاضطرار، وليس عكسه.
على أيَّة حال، دعونا نفهم الآية قبل أن نُحللها، ومن أجل ذلك لابد لنا أن نرجع إلى التفاسير، فقط من باب استحضار السياق التاريخي Historical Context، ثم ربطه بالسياق اللغوي Linguistic Context، فنقرأ في تفسير هذه الآية: "وَقَوْله " وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاء مَثْنَى أَيْ إِذَا كَانَ تَحْت حِجْر أَحَدكُمْ يَتِيمَة وَخَافَ أَنْ لَا يُعْطِيهَا مَهْر مِثْلهَا فَلْيَعْدِلْ إِلَى مَا سِوَاهَا مِنْ النِّسَاء فَإِنَّهُنَّ كَثِير وَلَمْ يُضَيِّق اللَّه عَلَيْهِ. وَقَالَ الْبُخَارِيّ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُوسَى حَدَّثَنَا هِشَام عَنْ اِبْن جُرَيْج أَخْبَرَنِي هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة : أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ يَتِيمَة فَنَكَحَهَا وَكَانَ لَهَا عِذْق وَكَانَ يُمْسِكهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ نَفْسه شَيْء فَنَزَلَتْ فِيهِ " وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا " أَحْسَبهُ قَالَ : كَانَتْ شَرِيكَته فِي ذَلِكَ الْعِذْق وَفِي مَاله . ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيّ : حَدَّثَنَا عَبْد الْعَزِيز بْن عَبْد اللَّه حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن سَعْد عَنْ صَالِح بْن كَيْسَان عَنْ اِبْن شِهَاب قَالَ : أَخْبَرَنِي عُرْوَة بْن الزُّبَيْر أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَة عَنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى " وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى " قَالَتْ : يَا اِبْن أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَة تَكُون فِي حِجْر وَلِيّهَا تُشْرِكهُ فِي مَاله وَيُعْجِبهُ مَالهَا وَجَمَالهَا فَيُرِيد وَلِيّهَا أَنْ يَتَزَوَّجهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِط فِي صَدَاقهَا فَيُعْطِيهَا مِثْل مَا يُعْطِيهَا غَيْره فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا إِلَيْهِنَّ وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتهنَّ فِي الصَّدَاق وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنْ النِّسَاء سِوَاهُنَّ (...) فَمِنْ هَذِهِ الْآيَة كَمَا قَالَ اِبْن عَبَّاس وَجُمْهُور الْعُلَمَاء لِأَنَّ الْمَقَام مَقَام اِمْتِنَان وَإِبَاحَة فَلَوْ كَانَ يَجُوز الْجَمْع بَيْن أَكْثَر مِنْ أَرْبَع لَذَكَرَهُ"(انتهى الاقتباس)2
بحسب هذا التفسير المُستلهم مُباشرةً من الصحابة، الذين عاشروا النبي وأخذوا عنه القرآن شفاهةً، وطبَّقوه في حياتهم اليومية في حياة النبي وأمام مرآه ومسمعه، دون أن يُنبه إلى فهمٍ مغلوطٍ أو خاطئ للآيات، مما يُؤكد أنَّهم فهموا الإطار النظري، وأحسنوا تطبيق الجانب الإجرائي أو العملي منه، فإنَّ المقصود بالآية بكل وضوح وجلاء أنَّ من كانت لديه يتيمة ذات مال أو كانت هذه اليتمة شريكةً له في تجارةٍ أو مال، فإنّه لا يجوز له الزواج منها إلا في حالةٍ واحدةٍ فقط، وهي أن يعدل ويقسط، وذلكَ بألا يأكل مالها بالباطل، وهذا مُتسقٌ ومُتصل بما جاء في الآية التي قبلها مباشرةً { وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}3 فإذًا كانت الخشيةُ هنا من {تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} في المقام الأول، ويشمل ذلك عدم دفع مهر اليتيمة بحجة الشراكة المالية، كما يتضح مما روته السيِّدة عائشة في صحيح البخاري، وأُشير إليه في التفسير أعلاه.
وحتى هذا الحد، فإنَّ الفكرة أخلاقيَّة، ومفهومة، ولكن يأتي الخلط في الربط بين أمرين لا أرى بينهما رابطًا منطقيًا أو موضوعيًا، وهما: إباحة التعدد في مُقابل تحريم أكل مال اليتيمة، فالآية هنا تخاطب أولئك الذين لديهم رغبة في الزواج من يتيمة بنيَّة الاستيلاء على مالها، وليس بنيَّة الاستماع الجنسي أو الذريَّة، غير أنَّ المعنى النقلي هو العدول عن زواج اليتيمة إذا خُشي عدم القسط في مالها، والترغيب في أخريات، وهو مما يُفهم من قول المُفسِّر: "فَلْيَعْدِلْ إِلَى مَا سِوَاهَا مِنْ النِّسَاء فَإِنَّهُنَّ كَثِير وَلَمْ يُضَيِّق اللَّه عَلَيْهِ"(انتهى الاقتباس) فكأن الأمر هنا مُقايضة أو تعويض: شهوة الجنس عِوضًا عن شهوة المال، وهو ما يُفسِّر لنا استخدام صيغة ترغيبية، وليست اضطرارية، في قوله: {مَا طَابَ لَكُمْ}.
تأتي الربكة الثانية في ذات الآية، إذ نجد أنَّ الواجب على الشخص الذي يخشى عدم العدل في مال اليتيمة أن يتعدد في الزواج بغير هذه اليتيمة ما طاب له من النساء، حتى أربعة نساء، وهو قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} إذًا فالذي يخاف ألا يقسط فله أن يتعدد، وفي الوقت ذاته فإنَّه يُنصح بزوجة واحدة، وذلك في قوله في الآية ذاتها: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} فما هو الواجب فعله على الشخص الذي يخشى ألا يقسط أو يعدل في اليتيمة ومالها: أن ينكح ما طاب له من النساء حتى أربع، أم الاكتفاء بواحدة؟ ولنقرأ ما يقوله التفسير في هذه النقطة: "وَقَوْله: "فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَة أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ " . أَيْ إِنْ خِفْتُمْ مِنْ تَعْدَاد النِّسَاء أَنْ لَا تَعْدِلُوا بَيْنهنَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْن النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ " فَمَنْ خَافَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى وَاحِدَة أَوْ عَلَى الْجَوَارِي السَّرَارِيّ فَإِنَّهُ لَا يَجِب قَسْم بَيْنهنَّ وَلَكِنْ يُسْتَحَبّ فَمَنْ فَعَلَ فَحَسَن وَمَنْ لَا فَلَا حَرَج"(انتهى الاقتباس)4
من هذا نفهم أنَّ هنالك نقلةً غير موضوعية من الحديث عن العدل في مال اليتيمة التي يُرغب في الزواج منها، إلى العدل بين النساء في حال التعدد، وهو موضوع لم يكن مطروحًا، ولن يكون مطروحًا حتى الآية 129 من السورة ذاتها في سياق منفصل، بينما يستمر السياق في آيتنا هذه عن ضرورة دفع مهور النساء (بمن فيهن اليتيمات) والمحافظة على أموال اليتامى ودفعها إليهم بعد أن يكبروا. وعلى أيَّة حال، فإنَّ ذلكَ يُصحح لنا فهمنا المبدئي، الذي بنيناهُ على أن تشريع التعدد جاءَ مُقترنًا بحالة الخوف من عدم القسط في مال اليتيمات، ليقترن هنا بحالة الخوف من عدم القسط بين الزوجات، والذي بدوره حُسم في موضعٍ آخر، إذ نقرأ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}5
وبتجميع كل هذه المُعطيات، فإننا نخرج بالنتيجة التالية: الذي يخشى ألا يعدل في مال اليتيمة فله أن يتزوَّج من غيرها ما شاء حتى أربع نساء بشرط أن يعدل بينهن، فإذا خشي من عدم العدل بين النساء فيجب أن يكتفي بواحدة، وطالما أن شرط العدالة بين النساء غير مُتحقق، فالواجب أن يكتفي بواحدة، ولا أدري ماذا يُمكن أن نُسميَّ ربط الإغراء بتعدد الزوجات بشرط غير مُتحقق، فهل هو إغراءٌ أم تغرير؟ وإذا لجأنا إلى الإطار التطبيقي لنفك هذا التشابك، فإننا سنجد النبي مُتعددًا، الصحابة كذلك، بل وأكثر من ذلك فإننا نجد النبي، في الإطار التطبيقي مُلتزمًا برباعية الإطار النظري، فكان يأمر أصحابه ممن كانت لديهم أكثر من أربع زوجات أن يُمسكوا عليهم أربع زوجات ويُطلقوا البقية، دون التحقق من شرط العدالة، ولو كان الأصل الاكتفاء بواحدة لأمرهم أن يُمسكوا واحدة ويُطلقوا البقيَّة انحيازًا للإطار النظري. فالأصل إذًا هو تشريع التعدد دون أن يرتبط ذلك بموضوع قسط اليتامى، وبهذا تسقط حجة المُعتدلين القائلين بأنه لا تعدد في الإسلام من هذه الناحية.
ولكن تتبقى لديهم حجَّةٌ أخيرة، وقويَّة، وهي التي تربط إباحة التعدد بشرط العدل بين الزوجات، وهو الشرط غير المُتحقق بقوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} فهل الحجَّة قويَّةٌ فعلًا؟ الإجابة على هذا تكمن في الآية ذات، ولنُعد القراءة مرَّةً أخرى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} ماذا قد نفهم من قوله: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}؟ هذه الآية تُذكِّرنا بآيةٍ أخرى تقول: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}6 فهل يأمر القرآن هنا بالبخل عندما يقول: {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} أم إنَّه يُبيح البسط وينهى عن المُبالغة في البسط؟ وبذات الطريقة فهو لا ينهى عن التعدد وإنَّما ينهى عن المُبالغة في عدم العدل بين النساء، والميل كل الميل لواحدة دون الأخرى أو الأخريات، وتأتي جُملة {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} لتوضِّح لنا حدَّ الميل واللاعدالة المنهي عنها في الآية، فكل الميل ممنوع، وبعض الميل لا بأس به طالما لم يصل إلى حدِّ {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} ويأتي الإطار التطبيقي ليؤكِّد هذا المعنى، ليس فقط بالسُّنَّة القولية: "اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِك فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِك وَلَا أَمْلِك"7 بل ومن سُنتِه الفعلية التي تُظهر ميل النبي إلى السيِّدة عائشة (ولكن ليس كل الميل) وهو ما كان يجعل الباقيات يغرنَّ منها، وهو مما قد يُبحث عنه في السِّيرة النبويَّة. ويُوافق هذا الفهم ما جاء نصًا في كُتب التفسير، إذ نقرأ: "قَالَ التِّرْمِذِيّ رَوَاهُ حَمَّاد بْن زَيْد وَغَيْر وَاحِد عَنْ أَيُّوب عَنْ أَبِي قِلَابَة مُرْسَلًا قَالَ : وَهَذَا أَصَحّ وَقَوْله " فَلَا تَمِيلُوا كُلّ الْمَيْل أَيْ " فَإِذَا مِلْتُمْ إِلَى وَاحِدَة مِنْهُنَّ فَلَا تُبَالِغُوا فِي الْمَيْل بِالْكُلِّيَّةِ " فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ " أَيْ فَتَبْقَى هَذِهِ الْأُخْرَى مُعَلَّقَة"(انتهى الاقتباس)8
أمَّا كون التعدد واجبًا، فلم أعثر على دليلٍ واضحٍ وصريحٍ عليه، غير أنَّه يُمكن القول، بشيءٍ من التحفظ، أنَّه مُستحب، مستندين في ذلك على مجموعةٍ مُتناثرةٍ من الشواهد بصورةٍ مُجتمعة، لا يصح الفصل بينها، فرأينا هذا قائمٌ على الجمع بين هذه الشواهد، ففي الحديث النبوي: "إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"9 فإنَّ إتيان كلمة (نساء) هنا في صيغة الجمع قد تُقرِّبنا خطوةً مُترددةً إلى نتيجتنا، لأن كلمة نساء قد لا تدل التعدد بالضرورة، فقد تكون الكلمة اسم جنس لا أكثر، ولكن إذا ربطنا هذا الحديث بحديث نقله الشافعي عن ابن عمر من الصحاح: "تناكحوا تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم"10 سنجد أننا خطونا خطوةً أخرى نحو نتيجتنا، فالتعدد أكثر مُناسبةً لتحقيق هدف المُفاخرة بالعداد، فما يُنتجه الرجل السليم مع أربع نساء سليمات لا يُمكن أن يُنتجه مع واحدة، وعشرة رجال مُتعددون بالتأكيد يُنتجون أكثر من عشرةٍ غير مُتعددين، فالتعدد وسيلةٌ جيِّدة لتحقيق هدف التكاثر، وإذا ربطنا هذين الحديثين مُجتمعين بقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} لاسيما بعد الإيضاحات التي تقدَّمت، فإننا نصل إلى نتيجةٍ جليَّة، وهي أنَّ التعدد مُستحب، من جهة أنَّه سُنَّةٌ نبويَّة وتُحقق هدف التكاثر، وإلا فلا معنى لصيغةِ الإغراء الواردة في الآية.
بهذا نخلصُ إلى أن التعدد مُباحٌ في الإسلام، ومُشرَّعٌ له بلا مواربة، بل وإنَّه قد يصل إلى درجة الاستحباب، وربما حدث الخلط في هذا الأمر: بين من يُقرُّه ومن لا يُقرُّه بسبب عدم الوحدة الموضوعيَّة بين أجزاء الآيات، كما رأينا، أو بسبب إصرار البعض على التجديد في الخطاب الديني، وعصرنة التشريعات الإسلاميَّة، لتبدو مواكبةً ومتسقةً مع روح العصر، مُتناسين أنَّ عجلة الزمن والتاريخ لا تتوقفان، وأنَّ هذا يستدعي تجديد النصوص الدينية باستمرار، حتى يأتي زمانٌ لن نجد فيه أيََّ رابطةٍ تربط بين إطار الإسلام النظري وإطاره التطبيقي، حتى لا يبقى منه إلا اسمه، كتراث ثقافي ليس له وظيفةٌ إلا الحفاظ على الهويَّة الوجدانيَّة للمسلمين، وبئر نوستالجيا آسنة.
في الجزء الثاني من هذا المقال، سنحاول الإجابة على سؤالين: هل هنالك حكمةٌ إلهيَّةٌ أو منفعةٌ بشرية من التعدد؟ وهل هنالك علاقةٌ بين التَّعدد وفلسفة الأخلاق؟
-----------------------------
المصادر:
1) القرآن - سورة (النساء)، آية 3
2) كتاب (تفسير القرآن العظيم) للحافظ أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، تحقيق سامي بن محمَّد بن سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط2 1999 - ج2
3) القرآن - سورة (النساء)، آية 2
4) المصدر السابق، تفسير بن كثير
5) القرآن - سورة (النساء)، آية 129
6) القرآن - سورة (الإسراء)، آية 29
7) مسند الإمام أحمد
8) المصدر السابق، تفسير بن كثير
9) صحيح البخاري - (ج 15 / ص 493)
10) كتاب (فتح الباري) للحافظ ابن حجر العسقلاني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.