مفاهيم وحقائق غائبة حول لقاء العليين في برلين إمام محمد إمام [email protected] من الضروري الإشارة إلى ان الأحداث الجارية في السودان هذه الأيام تنداح دوائرها على الدعاوى التي تترى على أهمية تحقيق المصالحة الوطنية أو التوافق الوطني، لاستشراف آفاق معالجة قضايا الوطن من المههدات والتحديات التي تواجهه. فالمصالحة الوطنية أو التوافق الوطني من المصطلحات السياسية التي تشير إلى أن نظاماً سياسياً ما يواجه مخاطر تتطلب جهود أبناء الوطن جميعاً، لذلك يسعى ذلكم النظام السياسي جاهداً إلى البحث عن آلية ناجعة لحل الصراع السياسي، بعيداً عن استخدام القوة التي تحبذ اللجوء إليها العقليات التي تحرص على إقصاء الآخر من المشاركة السياسية، وتهميش دوره إلى درجة العدم في صناعة القرار السياسي. ولذلك تلجأ الحكومات التي تبحث عن إحداث توافق وطني بين قواها السياسية إلى معالجات وأساليب تحقق هذا الهدف المنشود. وفي أغلب الأحيان تبادر الحكومة بالسعي الحثيث إلى تحقيق المصالحة الوطنية أو التوافق الوطني، بالتنازل عن بعض المواقف، بُغية تقريب وجهات النظر، وفي المقابل تستجيب المعارضة لهذا التوجه بالإقدام على بعض التنازلات في مواقفها وتناسي مرارات الماضي. وتكون مرتكزات هذا التوافق الوطني، بناءً على أجندات وطنية في مسعى الطرفين لإيجاد حلول للقضايا الأساسية في الصراع، وذلك في إطار المساواة في الحقوق والواجبات، ليتحول الأمر بعد مراحل تفاوضية معينة من حالة خصومة وكراهية إلى حالة صداقة وشراكة. وأحسب أن السودان لم يكن بعيداً عن تجربة انفاذ استحقاق مصالحة وطنية أو توافق وطني بجهد سوداني مخلص، يتمثل في الجهود التي بذلها رجل الأعمال الراحل فتح الرحمن البشير في تحقيق المصالحة الوطنية بين نظام الرئيس الراحل جعفر محمد نميري والجبهة الوطنية بمكوناتها الحزبية المعارضة في عام 1977. ومن المؤلم أن الراحل فتح الرحمن البشير الذي حقق هذه المصالحة الوطنية بجهد سوداني لم يجد التكريم المناسب. ومن المفيد أن نشير هنا إلى أن المصالحة الوطنية كانت بادرة خير للحركة الإسلامية، إذ تمكنت من خلالها أن تبلغ شأواً عظيماً، وأنها كانت من أكثر الأحزاب استفادةً مما هيء لها عبر هذه المصالحة الوطنية. وتجدني غير مبالغٍ إن قلت إن من ثمرة المصالحة الوطنية الكبرى التهيئة لمجيء الإنقاذ، لأن الحركة الإسلامية استغلت وجودها في نظام نميري في تأسيس وتفعيل منظوماتها الطلابية والشبابية والنسائية والاجتماعية والاقتصادية، واقتحمت مجالات المال والأعمال، لا سيما في المصارف والمؤسسات المالية، مما أكسبها قوةً ونفوذاً وكسباً مقدراً في انتخابات الديمقراطية الثالثة، ومن ثم الوصول إلى مرحلة التمكين بعد مجيء الإنقاذ. لذلك أرى أنه من الانصاف الوطني العمل على تكريم الراحل فتح الرحمن البشير، تنزيلاً لقول الله تعالى: "هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ". كنت بفضل الله تعالى، أول من أطلع الرأي العام السوداني بما جرى في لقاء العليين ببرلين (علي عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس الجمهورية والدكتور علي الحاج محمد مساعد الأمين العام للمؤتمر الشعبي)، ولما كان الشيطان في التفاصيل إدخرت بعضاً من هذه التفاصيل لأبسطها في هذه العُجالة، لا سيما بعد أن كسبت مقالتي تلكم مصداقية عالية من خلال أحاديث الأخ الدكتور علي الحاج محمد إلى بعض وسائل الإعلام المختلفة عن ذلكم اللقاء البرليني، وتحدث أيضاً الأخ علي عثمان محمد طه في مؤتمره الصحافي أول من أمس عن أن لقاءه مع الدكتور علي الحاج جاء بمبادرة منه، حيث تطرق اللقاء إلى القضايا الوطنية والتحديات والمهددات التي تواجه السودان. وأحسب انه من الحقائق الغائبة والمفاهيم التي يجب التركيز عليها أن اللقاء اكتسب هذا الزخم الإعلامي، لأن السودان يواجه تحديات ومخاطر تتطلب بذل الجهود المخلصة من الفرقاء كافة، حكومة ومعارضة، مع ضرورة التسامي على مرارت الماضي وإحن المخاصمة، تنزيلاً لقول الله تعالى: "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.َلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيل". فلم يجد الأخ علي الحاج إلا أن يسعى برفقة أسرته إلى أخيه علي عثمان وأسرته من بون إلى برلين، متسامياً على جراح ومرارات ماضٍ قريب، ومدكراً في الوقت نفسه أخوة في الله منذ أمدٍ بعيد. وقد جبل على مثل هذه الزيارات التي بدءها شخصي ومنتهاها وطني. فلذلك لم يخرج هذا اللقاء عن هذه السنة المتبعة في فقه الأخ علي الحاج، ولكن في المقابل كان الأخ علي عثمان مرحباً باللقاء، شاكراً جهد الزيارة وكريم الاتصال.وبادره بالسؤال قبل الولوج في قضايا الوطن ومشاكله، عن حاله وأحوال أسرته، وعن أسباب إقامته في الخارج، وهل هذه الإقامة اختيار أراده بمحض إرادته أم هو تكليف من الحزب؟ وألم يحن وقت العودة إلى السودان؟ وكان هذا استفهام استبطاء كما يقول اللغويون، كقول الله تعالى "ألم يأن للذين آمنوا"، فجاءت إجابة الأخ علي الحاج بأن الحزب طلب مني الرجوع إلى السودان، ولكن قراري لوحدي أن أظل بالخارج إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، ودافعي في ذلك مسألة بسط الحريات ليس لي وحدي، ولكن أريد بسط الحريات للجمعيع حتى الذين حملوا السلاح لنواجه معاً التحديات والمخاطر التي تواجه بلادنا. ونبه إلى ان المرارات كثيرة بين المؤتمرين الشعبي والوطني، ولكن في نهاية المطاف أمر السودان أهم وأعظم. وأنه على يقين أنه لو خلصت النيات وصدقت الإرادة ، وسارت الأمور في مسارها الصحيح سيحاول الجميع مواكبة الحدث. وأكد لي الأخ الدكتور علي الحاج أنه غير منزعج من أحاديث بعض منسوبي المؤتمر الشعبي، لعلمه بالمرارات. وقد أطلع بتفاصيل هذا اللقاء الدكتور حسن عبد الله الترابي الأمين العام للمؤتمر الشعبي وبعض قيادات الحزب، وكذلك قيادات أحزاب المعارضة والحركات المسلحة. وأنه ليس هنالك مبادرة أو شيء مكتوب، بل أحاديث عابرة عن هموم الوطن عسى أن تتمخض لشيء يجمع أهل السودان كافة من أجل وطنهم. وعلمت أن اتصالاً هاتفياً قد جرى بين علي عثمان وعلي الحاج مع يسن عمر الإمام أثناء ذلكم اللقاء البرليني. أخلص إلى أن ما جاء في مؤتمر النائب الأول الصحافي أول من أمس يؤكد أهمية تجاوز مرارات الماضي والمضي نحو إحداث حوار وطني جامع، يعمل على تقريب وجهات النظر بين كافة المكونات السياسية. وقال: "نحن مستعدون للمضي قدماً نحو كل ما يعزز هذا الحوار عبر أبراز صدق النيات وفتح الأبواب وطرح المبادرات والتوافق على الاحتكام للشعب في نهاية المطاف لتحقيق مبدأ التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة". وجميل أن يؤكد علي عثمان جاهزيته للقاء الدكتور حسن الترابي، ولا يمانع في لقاء أي شخص من أجل المصلحة العليا للوطن. وأحسب أن هذه الإشارة بلقاء الترابي أو أي شخص من أجل المصلحة العليا للوطن تجد رضاً وقبولاً لدى الرئيس عمر البشير، ولكنها في ظني- وليس كل الظن إثم- تبحث عن رجل رشيد في قامة الراحل فتح الرحمن البشير الذي أشرت إليه في صدر هذه العُجالة، لتحقيق مصالحة وطنية أو توافق وطني يعطي السودان مساحة زمنية للتنمية والبناء. ولا ينبغي أن نكون أسرى لماضٍ مهما كانت مراراته، بل علينا نستشرف آفاق غدٍ مشرقٍ لبلادنا. ولنستذكر في هذا الصدد، قول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُون". وقول الشاعر عمرو بن الأهتم السعدي المنقري: وكلُّ كَرِيم يَتَّقِي الذَّمَّ بالقِرَى وللخير بين الصالحين طريق لَعَمْرُكَ ما ضاقَتْ بِلاَدٌ بأَهْلِهَا ولكنَّ أَخلاقَ الرِّجالِ تَضيق ص الرأي/ الأهرام اليوم/ يوم الخميس 28/3/2013