هل يترشح البشير تحت ضغط صقور المؤتمر الوطني بعد أن قطع بعدم ترشحه للرئاسة مرة أخرى ؟ ، ومن هو المؤهل لقيادة المرحلة القادمة إذا قُدر لنظام الإنقاذ أن يستمر ؟ ، وهل تطفح الخلافات الداخلية التي تعصف بالحزب على السطح بحكم وجود تيارات متصارعة داخله وطموحات شخصية شرسة لا يهم أصحابها مصير البلاد والعباد ، ولكن المكسب والمصلحة الشخصية هو همها الأكبر والأوحد؟ ، وإلى أي مدى ستستمر حالة الشقاق والصراع المكتوم والتنافر الداخلي رغم محاولات إخفاء حقيقة التشظي التي بدأت منذ ما سُمى بالمفاصلة عام1999 والتي قسمت الجماعة إلى فسطاطين(جماعة القصر وجماعة المنشية) ؟ ، وأخيراً هل ستقبل المؤسسة العسكرية بقيادة جديدة تأتي من خارج (الثكنات) ولا يلبس (الكاكي) ؟ هذه أبرز التساؤلات التي يمكن أن تدور في ذهن أي متابع لحالة الهرج والمرج التي تعتري الساحة السياسية في بلادنا منذ أن أعلن الرئيس البشير زهده عن الحكم ، وعدم رغبته في الاستمرار على كرسي الرئاسة. ورغم التطمينات التي أتت من هنا أوهناك ، وتقطع كلها بأن الأمر داخل (حوش )المؤتمر الوطني (مُستتبٌ وتحت السيطرة ولا شيء يدعو لقلق أعضائه) ، إلا أن الواقع يقول بغير ذلك تماماً ، بل أن ما رشح يؤكد بأن تحت الرماد ناراً والتنُور يفور بمن فيه وما فيه ، وذلك بما ظهر من ردود أفعال وتعليقات لأعضاء بارزين ، بل هم من داخل (كابينة القيادة) في الحزب والمدهش أن كان بعض من علا صوتهم جهرة هم ممن يوصفونهم ب(الحمائم) إذا فهمنا أن للصقور دوافعهم وأهدافهم للاعتراض على تنحي البشير وغيابه عن المسرح . وما ينبغي التأكيد عليه ، هو أن الجماعة ليسو على قلب رجل واحد وإن أدعوا ذلك ، والدليل على ما نقول هو ظهور تيارات يبدو الصراع بينها خفياً حتى الآن على الأقل ، ولكن كرة ثلج (الصراع الداخلي) تكبر يوماً بعد يوم ، فظهر من أسموا أنفسهم ب(السائحون) وهم يؤمنون بأنهم الأولى بوراثة النظام ، ويقولون بأن تضحياتهم في سبيل حماية النظام ، والتمسك بمبادئه التي قدموا من أجلها أرواح ودماء زملاء لهم إبان حرب الجنوب ، وما أسموه بالجهاد المقدس آنذاك يجب ألا تذهب هدراً، فكل ذلك حسب زعمهم يعطيهم الحق في هذا الإرث ، وعللوا ظهورهم بانحراف بعض القيادات القديمة عن مبادئ الجماعة التي تربوا عليها، أضف إليها الفساد الذي ينخر النظام من الداخل وأصبح مهدداً بزوال النظام ، وما يتبع ذلك من مستحقات قانونية ستلحق حتماً الأذى بكل من ساهم في ما لحق بالبلاد طيلة رُبع قرن من السنين العجاف . ثم ظهرت مجموعة العسكريين المشاركين فيما وُصفت بالمحاولة الانقلابية وضمت إلى جانب إسلاميين بارزين من صفوف القوات المسلحة مثل ود إبراهيم ، قياديين أمنيين ظلوا يعملون طيلة عقدين مضيا لحماية النظام وتأمينه من محاولات الإسقاط أو مجرد اختراق وزعزعة صفوفه مثل الفريق صلاح قوش ، وهؤلاء كالسابقين يعتقدون أنهم أكثر كفاءةً ، وأحق من الآخرين بوراثة النظام لما يرون أنهم قدموه لحماية ظهر النظام وتأمين بقائه واستمراره لهذه العقود . أضف إلى هؤلاء وهؤلاء ، جماعة ال( ألف أخ ) والذين كان لهم رأي ناقد وحانقٌ في كل ما يحدث على مسرح النظام ، وهم من عناهم البشير صراحة في لقاء تلفزيوني مع الطاهر حسن التوم بأنهم (خارجون عن أنظمة الحزب ومؤسساته) وتوعدهم بالتحقيق ، مطالباً إياهم بمناقشة هذه المطالب عبر قنوات الحزب وداخل أسواره . أما أحدث التيارات المتشظية ، فيقودهم الدكتور غازي صلاح الدين الذي علا صوته عقب إعلان البشير رغبته بعدم الترشح ، وغرد خارج السرب بقوله (أنه لا يحق للبشير حسب بنود الدستور الترشح لدورة جديدة ) ، ثم عاد وخفف لهجته حين ووجه بهجوم كاسح من صقور الحزب قائلاً ( أن الأمر متروك للحزب شرط أن يُعدل الدستور ) . وأنضم إليه وإن برؤية مخالفة الدكتور قطبي المهدي الذي قال صراحة أن الحزب لم يعمل لمثل هذا اليوم ، وأن لا بديل للبشير في ظل عدم وجود كوادر شبابية عجز الحزب عن تأهيلهم لسد الفراغ أو تقديم البديل المناسب طيلة أربعة وعشرين عاماً مضت. ولم يكن مفاجئاً لأحد أن يعمل المتشددون والصقور على إفشال أي مسعى أو إسكات أي صوت نشاز يخرج من وسطهم مؤيداً ترجل البشير ، فسرعان ما التأم الرهط وتنادوا فيما بينهم ونصبوا الدكتور نافع (قيماً) أو قُل (ألفةً) على الحزب يرفع عصا التأديب لكل من تسول له نفسه ، أو (يهرف لسانه بما لا يعرف) على طريقة (والفايت الحُدود واسووه) ، وكان أول قرار لمعالجة هذا الأمر إقالة الدكتور غازي عن موقعه كرئيس للكتلة البرلمانية للحزب ، وهو عقاب يبدو في ظاهره تنظيمياً ، ولكنه يدخل حقيقة في صُلب الصراع الدائر بين مراكز القوى المتشظية والمتباينة المواقف والرؤى ، (وهل نافعٌ إلا من غزية إن غوت ،غوى ،، وإن ترشُد غزية لا يرشد !). هذه المواقف المتباعدة والمتباينة ، وبينها برزخٌ وموجٌ فوقه ظُلل وعُتمة ، ينم على ما وصل إليه النظام من تآكل بداخله يكاد يهوي به ، وإن بدا الأمر غير ذلك على الواجهة الإعلامية التي تبدو فيه أمواج النظام هادئة و(رايقه) ، فالحسابات عند كل جماعة أو تيار ، غير حسابات الآخرين ، والرؤية للخروج من نفق التضارب والفوضى في التصريحات والأقوال هي ما حاول المكتب القيادي للحزب أن (يلجمها) ويحاصرها ، ويجعل لها متحدثاً واحداً ، يمسك ب(مايك) واحد وهو الدكتور نافع وقد (دقسوا) في الاختيار ، فمن نصبوه ( ألفةً) لمراقبة تفلتات أعضاء الحزب ، ولترويض الجامحين ، هو في الحقيقة أكبر مهدد لوجود الحزب ، وأكثرهم خطراً عليه لأنه أي نافع (الأقدر) على تأليب الناس على المؤتمر الوطني وسياساته ، وبعث الشكوك في قلوب الشعب حول نوايا النظام وسدنته لما عُرف عنه بالغلظة في القول والفعل ، وإطلاق العنان للسانه دون ضابط ولا رابط ! يبقى ما بدأنا به ، وهو السيناريوهات الثلاثة التي يمكن التوقف عندها ، والتنبؤ بها ، ليس ضرباً بالغيب ولا تنجيماً من فعل السحرة ، ولكن بربط كل الوقائع والأحداث التي سقناها هنا ببعضها، وهي في النهاية عبارة عن تحليل اجتهادي يمكن أن يحدث عكسه متى ما تغيرت خطط اللعبة داخل أروقة الحزب ، ومتى ما تبدلت التحالفات بين حلفاء الأمس ، غُرماء اليوم خاصة ممن يمسكون بخيوط اللعبة ويخفون وراء ظهورهم (كرت الجُوكر) الذي سيُنهي اللعبة برُمتها متى ما أستدعى الموقف ذلك . أول هذه السيناريوهات ، هو تراجع الرئيس البشير عن قرار التنحي تحت ضغط الصقور بحجة أن القول الفصل في النهاية للحزب وليس للرئيس ، وأن عليه أن يخضع لما يقرره الحزب وإن كانت ضد رغبته الشخصية . وهذا ما قاله النائب الأول في مؤتمره الصحفي الأخير حين أكد أن الرئيس صادق في نيته ، ولكن للحزب قنواته ورأيه وقراره في النهاية . وعضد هذا التوجه كثير من القيادات الكبيرة ومنهم الدكتور قطبي المهدي وإن كان رأيه يتلخص في عدم وجود كوادر شبابية أهلت ودربت لذلك ، وأن المرحلة تتطلب بقاء الرئيس لئلا يحدث تنازع على خلافته . وقويت فرص هذا الخيار بعد أن تم تحريك قيادات حزبية في بعض الولايات لكي تنادي برفض فكرة تنحي الرئيس ، وسيعمل هؤلاء قطعاً على حشد قواعدهم الحزبية في ولاياتهم ،ثم يُصعَد ليصل إلى الخرطوم فيقوم الحزب بتبني الرغبة لتجعل منها الفئة التي تخشى على نفوذها ومواقعها ومصالحها قاعدة لتمرير رغبتهم لإثناء الرئيس عن قراره . وهذا هو السيناريو الأقرب والأقوى فقرار بقاء الرئيس قد إتُخذ بالفعل في دوائر الحزب ، وحججهم في ذلك كثيرة ، منها حسب رأيهم عدم وجود البديل المناسب الذي يمكن الاتفاق عليه والالتفاف حوله في الوقت الحالي ، ولمنع تشظي الحزب وتفادي الانقسامات التي تُنذر بتصدع الكيان ، خاصة وأن موعد الاستحقاق الانتخابي قاب قوسين أو أدنى ، وأن الظرف السياسي والمهددات التي تحاصر البلاد كبيرة وخطيرة تستوجب بقاء البشير. يقود هذه المجموعة مساعد الرئيس ونائبه في الحزب الدكتور نافع علي نافع ، والذي يُعتبر حقاً كبير الصقور الجارحة ، وهؤلاء لن يستسلموا بسهولة ، كما سيحاولون عرقلة أي خطوات عملية يشرع فيها غيرهم لتقديم بديل عن البشير ، كما لن يرضوا بأي تغيير جدي ، وسيعملون على الدفاع عن مصالحهم ومكتسباتهم حتى الرمق الأخير من أنفاسهم وذلك لأن بقاء الحزب بشخوصه وحرسه القديم وبسياساته العقيمة يعني بقاؤهم على المسرح لجني المزيد من المكتسبات ، ولكونهم مثل (التوأم السيامي) الذي يجب التضحية بأحدهما في حال أريد فصلهما عن بعضهما ، حيث يموت أحدهم فيحي الآخر . السيناريو الثاني يقول بأن يتم تقديم النائب الأول الأستاذ علي عثمان طه كمرشح وحيد للحزب ليخلف البشير ، وقد صدرت تلميحات من الرئيس بهذا الاحتمال . ويأتي هذا التوجه لعدة اعتبارات أولها تفادي انفجار الصراع على خلافة الرئيس بين (الطامحين والطامعين) ، ولقطع الطريق أمام هؤلاء وآخرين مغامرين أو مرفوضين في صفوف القواعد . ثم أن النائب الأول هو بمثابة (صمام أمان) للحزب باعتباره (فرملة يد) لكل المتشاكسين والمتصارعين داخل التنظيم ممن وصفتهم مجموعة الإصلاحيين ب(الانتهازيين والطفيليين) وحددت شخصيات قيادية بالاسم ! كما أن علي عثمان يُعتبر حسب تاريخه في النظام (العقل المفكر والمدبر) طيلة عقد ونصف مضيا من عمره ، وإن ظل يعمل في الخفاء ودون ضوضاء ولا صخب . ثم يجب ألا ننسى أن ترشيح علي عثمان لسُدة الرئاسة ، يعني ضمنياً أن أمر عدم ملاحقة البشير للمحاكمة دولياً سيكون حتماً جزءاً من (الصفقة) ، وضماناً لاستمرار النظام في الحكم لفترة أخرى قد تطول أو تقصر حسب تقلبات الأحوال جراء الأزمات التي تعصف بالبلاد وتمسك بعضها بخناق بعض دون بصيص أمل أو ضوء في نهاية النفق . السيناريو الأخير في هذا التحليل هو سؤال يطرح نفسه ، ويبحث عن إجابات في دهاليز السياسة السودانية المعتمة ، وهو موقف المؤسسة العسكرية من كل هذا الصخب والضجيج المتعالي ؟ وهل ستقف متفرجة على ما يحدث وفيه ما فيه من مهددات حقيقية وخطيرة لأمن الوطن والمواطن ؟ وهل يرضى قادتها أن يؤدي طموح جماعة ما أو حماقاتها أوطموحات أفرادها وطمعهم وتكالبهم على السلطة والمصالح والمال ، إلى تفتت البلد أمام أعينهم ، واستمرار حالة عدم الاستقرار وتآكل حدودنا وأراضينا من أطرافها دون أن يحركوا ساكناً ، باعتبار أن واجبهم الوطني والمهني والأخلاقي هو الدفاع عن أرض البلد وعرض الشعب المغلوب على أمره ؟ وهل ستظل المؤسسة العسكرية تجلس على مقاعد المتفرجين في مسرح اللامعقول الذي يمارس فوقه حزب المؤتمر الوطني تقديم عرض بال لكوميديا تراجيديا كفيل بأن يمحو السودان من على خارطة العالم ويزيله من الوجود ؟ يقيننا أن المؤسسة العسكرية ليست بعيدة عن المشهد فهي جزء من (الترويكا) ، وهي تراقب من بعيد (لعبة القط والفأر) التي يمارسها أعضاء هذا الحزب فيما بينهم (بدريين / انتهازيين / طفيليين / سائحون / أصليون مهمشون / مغامرون لا وطنيون) ، ولكن هذا لا يعني أن اللعبة ستمضي هكذا بلا نهاية حتمية ، وإذا كان النظام قد عمل على (تقليم أظافر) المؤسسة العسكرية منذ زمن بعيد ، إلا أن اختيار البديل في حال نفذ البشير وعده وصدق في موقفه المعلن ، أو لم ينصاع لرغبة الطامعين والطامحين في استمراره ك(حائط صد) لكل تجاوزاتهم وموبقاتهم ، سيكون للمؤسسة العسكرية رأي لا يمكن تجاوزه ، وربما تكون كلمتها هي الأخيرة في ظل واقع لا يرضي رجالها الذين ملوا الحروب التي أنهكتهم على مدى عقدين، فبعد أن كانت حرباً واحدة انحصرت في رقعة جغرافية واحدة هي جنوب السودان ، هاهي البلاد اليوم وقد مزقتها الحروب التي صنعها النظام شرقاً وغرباً . نقول بأن القوات المسلحة لا يشرفها قطعاً انزلاق البلاد ودخولها في أتون فوضى عارمة كما حدث في الصومال وأفغانستان ويوغسلافيا السابقة . كما أن لا أحداً في السودان يتمنى مثل هذه النهاية لوطن ظلَ محافظاً على مقدراته وهيبته وتماسكه الاجتماعي وحدوده الجغرافية حتى أتى النظام الحالي فأصبح الناس في حيرة من أمرهم ، يتساءلون بعجب وغضب : أليس في هؤلاء عاقل ؟ وفي هذا الصدد ، فقد رشحت تكهنات دارت همساً في المجالس ذهبت إلى حد تسمية الفريق بكري حسن صالح لخلافة الرئيس ، وذلك بحكم انتمائه للمؤسسة العسكرية ولكونه مقبولاً أكثر من غيره لدي كبار القادة والضُباط من زملائه . وإن صحت هذه التكهنات فذلك يعني (إعادة إنتاج نبيذ الإنقاذ القديم في قنان جديدة ) لأن تغيير رأس الهرم دون المساس بقاعدته لن يُغير في الأمر شيئاً ، ولن يقبل السودانيون استمرار ماكينة النظام المهترئة التي أصابها العطب في كل أجزائه ، ولمعرفة راعي الضأن في سهول البطانة وتخوم كردفان ووديان دارفور بأن وجود نفس الوجوه والأشخاص الذين أودوا بالوطن إلى المهالك والتشرذم لن يُنهي مأساة السودان، وإنما سيعمق الأزمة وسيخلق واقعاً أكثر سوءاً ومرارة ودماراً . هذه قراءة لخارطة الوطن في ظل الضبابية التي تحيط به ، ووجود جماعة (يركبون رأسهم) ولم يُحسنوا قراءة التاريخ فقادونا جميعاً إلى سراديب المهالك فصرنا نهيم كما قوم موسى في صحراء التيه لربع قرن . نسأل الله العلي القدير بقدرته ولطفه أن يُجنب بلادنا الفتن ، وأن يحفظ ما تبقى من شعبنا العظيم ليعيد بناء دولته من جديد على قيم التسامح والمحبة والتآزر التي نشأنا عليها وطمسها الانقاذيون بعجرفتهم وسوء تخطيطهم وغياب العقول . ameer altohami [[email protected]]