بروفيسور عبدالرحيم محمد خبير* غيّب الموت الإسبوع المنصرم (8/4/2013م) رئيسة الوزراء البريطانية المثيرة للجدل مارغريت تاتشر والتى إشتهرت بلقب “المرأة الحديدية" عن عمر يناهز ال (87) عاماً. وحملت في أخريات عمرها لقب “بارونة كيستفين" وأصبحت عضواً بمجلس اللوردات. ولدت مارغريت تاتشر عام 1925م بمدينة غرانتام بمقاطعة لينكوتشاير لأب يعمل بقالاً "Grocer" وترأست الوزارة البريطانية أحد عشر عاماً. شهدت فترة حكمها أحداثاً سياسية عاصفة سواء على المستوى المحلى أو الإقليمي أو العالمي. وإنقسم البريطانيون بين مؤيد ومعارض لسياستها التي تميزت بالجنوح إلى الفردية والتصلب في إتخاذ المواقف والقرارات في دولة تعتبر الأنموذج الأبرز للمؤسسية والليبرالية بحكم التاريخ والعراقة السياسية. تميزت حياة تاتشر بالعصامية إذ أنها تتحدر من أسرة متوسطة الحال. وإنضمت في مقتبل حياتها لحزب المحافظين الذى يمثل الأرستقراطية البريطانية. وبعد تخرجها من كلية سومرفيل بجامعة أكسفورد في تخصص الكيمياء عملت إخصائية في هذا المجال بإحدى الشركات الصناعية. وتزوجت من رجل الأعمال البريطانى دينيس تاتشر (1951م) ولها من الأبناء توأمان هما: مارك وكارول. وما لبثت أن دخلت المعترك السياسي وإنتخبت عضواً في البرلمان عن حزب المحافظين في مقاطعة فنشلى ثم شغلت منصب وزير التعليم في عهد رئيس الوزراء تيت هيث. ثم خلفت هيث في زعامة "المحافطين عام 1975م. وتقلدت الوزارة البريطانية عام 1979م وإستمرت في منصبها لثلاث دورات إنتخابية متوالية لتصبح أول إمرأة بريطانية تتقلد هذا المنصب. على الصعيد الداخلى أجرت إصلاحات عديدة في النظام المالي البريطاني حيث عملت على تقليص دور الدولة ودعم السوق الحرة وزيادة الضرائب لخفض معدلات الإنفاق الحكومي مما أثار غضب قطاعات كبيرة من الشعب البريطاني. غير أن سياساتها أفلحت في تدعيم الإقتصاد والحفاظ على القوة الشرائية للجنيه الإسترليني وسرعان ما بدأت المملكة المتحدة تتعافى من أزمتها المالية. ودخلت تاتشر في مواجهة مع عمال المناجم (1984-1985م) ولم تخضع لمطالبهم وأصرت على تصفية هذه المؤسسات تنفيذاً لسياستها المعلنة. وخفضت كبرى الشركات البريطانية (بريتش ستيل والخطوط الجوية البريطانية). وواجهت سياسة تاتشر المتشددة في إيرلندا الشمالية معارضة من أفراد الجيش الجمهورى الإيرلندى وفي أوساط المعتدلين والنقاد الذين قالوا بأنها تسببت في دفع العديد من الشباب الكاثوليكي الإيرلندى نحو العنف. ونجت تاتشر بإعجوبة من محاولة لإغتيالها عام 1984م بقنبلة مدفونة وضعها أحد أفراد الجيش الجمهوري الإيرلندى لها في الفندق الذي كانت تقيم فيه بمدينة برايتون. وعملت السياسة الخارجية البريطانية في عهد تاتشر على إستعادة أمجاد الأمبراطورية العجوز والتي غربت شمسها . ويتبدى ذلك في تمسك بريطانيا في عهدها ببعض مستعمراتها السابقة "جزر الفولكلاند وهونج كونج" وإجبارها للأرجنتين بالتراجع عن قرارها بالبقاء في هذه الجزر والتي إحتلتها عام 1982م بحجة أنها جزء من ممتلكاتها التاريخية. وإشتهرت تاتشر بمعاداتها للشيوعية وعملت بالتنسيق مع الولاياتالمتحدة على تفكيك الإتحاد السوفيتي من الداخل بأعمال إستخباراتية عالية التنظيم والدقة. ودعمت سياسات الرئيس السوفيتي الأسبق ميخائيل غورباتشوف المسماة ب “البروتسترويكا" أى “الإصلاح وإعادة البناء" وتوثقت علاقة تاتشر بالرئيس الأمريكي رونالد ريغان وأيدت مشروعه العسكرى المسمى "حرب النجوم" والذى أعاد الساحة الدولية للاستقطاب والحرب الباردة مرة أخرى. كما ساندت الولاياتالمتحدة في أحداث البلقان (يوغوسلافيا السابقة) في التسعينات الماضية. وتعود بى الذاكرة إلى أعوام (1990-1995م) بل وفي أخريات سنوات العهد التاتشري (1990م) وكنت حينها ببريطانيا في دراستي للدكتوراه في علم الآثار بجامعة ساوثامبتون، وفي العديد من المرات طفقت إستطلع آراء معارفي من البريطانيين تقييمهم لسياسة مارغريت تاتشر. وكان الرأى الأغلب لدى هؤلاء أن سياسة تاتشر الداخلية وبرغم قسوتها أحياناً، إلا أنها بشكل عام تتسم بالواقعية وأنها نجحت في الإصلاح الإقتصادي. وإمتدح جل الذين إستقصيت آرائهم سياستها الخارجية وبخاصة في موقفها المتصلب ضد الإرجنتين التى ضمت جزر الفولكلاند لأراضيها عنوة. ونوه هؤلاء بنجاح تاتشر في إستعادة بعضاً من هيبة بريطانيا العظمى التى فقدت جل مستعمراتها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1939-1945م), ويعد ميراثها السياسي – لدى العديدين – فلسفة شخصية عرفت ب "التاتشيرية". وكان مذهبها في السياسة يتماهى ومقولتها المعروفة “عندما تحتاج إلى الكلام فأسأل الرجال وحين تحتاج إلى أفعال فعليك بالنساء “. ولا تزال الذاكرة تحتفظ بكلمات لتاتشر صرحت بها في الأيام الأولى لمغادرتها كرسي رئاسة الوزارة وهى كالعادة معتدة بنفسها أمام خصومها الكُثُر قائلة “ لم أكن أعوم في سقطة بلا قرار، فثمة أسرتى، وثمة عافيتى، وثمة وفرة من الأصدقاء يقدمون السند المعنوي والعملي". ومن إفاداتها التي سار بها الركبان في دنيا السياسة والتي ذكرتها إبنتها كارول في مؤلفها عن والدتها والموسوم ب “ سنوات الألم الأخيرة في حياة السيدة الحديدية “ : “ إن الناس فيما مضى كانوا يدخلون إلى عالم السياسة لأنهم يرون أن يفعلوا شيئاً، أما الآن فهم يدخلون إلى عالم السياسة لأنهم يريدون أن يصبحوا أشخاصاً مهمين تتركز عليهم الأضواء وتكتب عنهم الصحف، حتى ولو لم يغيروا أى شيئ". ولعل من أهم مقولاتها الموجهة للسياسيين خاصة وأهل الفكر وقادة الرأي بعامة كلماتها العميقة الدلالة وهى: “ لا تترك مجالاً للإرتجال، لأن الإرتجال يفتح مجالاً لإصطياد الأخطاء، وأن النتيجة النهائية أن تجد الصحافة حوّلت الخطأ الذي وقعت فيه إى حدث، ونسيت ما كنت تتحدث عنه". لا مشاحة أن رحيل المرأة الحديدية – مثلما كانت حياتها العاصفة - حدثاً كبيراً في الحياة البريطانية وفي أروقة السياسة الدولية. ويعتبرها البريطانيون من أعظم شخصياتهم القومية في حين يصنفها الكثير من المراقبين السياسيين أحد أهم شخصيات القرن العشرين. وأعلن عمدة لندن إقامة نُصب تذكاري لها بوسط العاصمة البريطانية تكريماً لخدماتها لوطنها. وستحرق جثتها في مراسيم خاصة بناء على رغبة أسرتها. ولا ريب أنها شخصية فذة أثرت الحياة السياسية العالمية وخلدت نفسها بمواقف سيتحدث عنها التاريخ ويقول فيها كلمته التقييمية سلباً أو إيجاباً .والله المستعان. Abdelrahim Khabir [[email protected]]