عند اطلاعي على تقرير في إحدى الصحف اليومية عن ندوة عقدت مؤخراً حول علاقات السودان مع دولة أفريقية مجاورة تحدث فيها سفير تلك الدولة ، لاحظت أن أحد المشاركين السودانيين كان يتولى الدفاع عن مواقف الدولة الجارة بحماس كبير متكفلاً بالرد على كل من تحدث بصورة سالبة أو انتقد جانباً من جوانب العلاقات بين البلدين. قفز إلى ذهني وأنا اطلع على ذلك التقرير التعبير السوداني المعروف "التركي ولا المتورك" وهو تعبير يعطي عادة معنى سالباً هو أقرب للقول الفصيح "ملكي أكثر من الملك". وفي هذه الخاطرة فإنني ألجأ لهذا القول الشعبي للتعبير عن حالة ارتبطت بالدبلوماسية التقليدية والتي عرفت عند الكتاب باسم الدبلوماسية الفرنسية لأنها ترعرعت ونمت هناك ولا زال أثرها باقياً في بعض جوانب الممارسة الدبلوماسية إلى يومنا هذا. وتعتبر ظاهرة "المتورك" إحدى النواقص التي التصقت بالدبلوماسية المقيمة عند ظهورها للوجود في ذلك الزمان ويستعمل لوصفها في اللغة الانجليزية كلمتان هما “going native". أما النواقص الأخرى التي كانت تُرمى بها الدبلوماسية التقليدية فإنها تتمثل في السرية ، والبطء الشديد ، والأثر الكبير للارستقراطية الأوربية ، ويقول بعض المؤرخين الدبلوماسيين أن هذه العيوب كانت من الأسباب الرئيسة وراء قيام الحرب العالمية الأولى. لذلك فقد كانت النقاط الأربعة عشرة التي طرحها الرئيس الأمريكي ودرو ولسون تقوم على ضرورة الانفتاح الدبلوماسي لعلاج أحد أهم أوجه قصور الدبلوماسية التقليدية ، فتولدت فكرة عصبة الأمم ومن وراءها ما عرف لاحقاً بالدبلوماسية متعددة الأطراف التي تسعى لوضع حد للآثار الناجمة عن غياب الحكومية المركزية التي تضبط الإيقاع في المجتمع الدولي. والمُتُّورِك هو الشخص المصاب بما يسميه بعض الكتاب الغربيين "مرض المحلية (localitis)" وهي علة تصيب على حد قولهم الدبلوماسي الذي يقيم لفترة طويلة في بلد أجنبي ، وأخطر أعراضها هو تبني الدبلوماسي لوجهة نظر الحكومة المعتمد لديها. لا نتحدث هنا عن خيانة الوطن بالطبع ، ولكن الدبلوماسي قد يجد نفسه لسبب أو آخر متعاطفاً مع مواقف الدولة المعتمد لديها على الساحتين الدولية والاقليمية. وليس من المستغرب أن تجد في الخدمة الدبلوماسية في كل بلاد العالم من يتعاطفون مع جانب دون آخر في النزاعات الدولية فتظهر مسميات مثل اللوبي الإسرائيلي أو العربي في الخارجية الأمريكية مثلاً أو اللوبي المصري في السياسة السودانية عامة. ومنطلق مثل هذه اللوبيات كما هو معلوم أنها ترى في التقرب من البلد المعني أو تبني مواقفه على الساحة الدولية خدمة لمصالح بلادهم أو تمشياً مع مبادئها المعلنة. ولعل من أضرار الغياب المتطاول عن الوطن كذلك أن الدبلوماسي يفقد لدرجة ما الحساسية المطلوبة للتفاعل مع هموم الوطن وقضاياه ، لذلك فإن الكثير من الدول تعمد إلى عقد المؤتمرات الدورية لدبلوماسييها في عاصمة البلاد لمواجهة مثل هذه المشكلة. لم يعد هذا الأمر بنفس درجة الخطورة التي كان عليها في القرون الوسطي عندما كانت وسائل الاتصال والمواصلات في غاية التخلف ، وعندما كان من الصعوبة على الدبلوماسي أن يتابع ما يجري في بلاده إلا من روايات الزوار والمسافرين. المعروف أن من أهم واجبات الدبلوماسي هو الاتصال الوثيق بالمسئولين في بلد الاعتماد مما يعرضه لجرعة زائدة من الحجج التي تقوم عليها سياسة ذلك البلد والبروباغاندا التي تروج لها أجهزة إعلامه. ومما يزيد من احتمال التعرض لمرض "المحلية" كذلك أن الدبلوماسي الحصيف يسعى جهده لدراسة ثقافة البلد الذي يقيم فيه ولغته ، ويسعى لتوسيع دائرة معارفه وأصدقاءه من بين المسئولين والمواطنين العاديين في البلد المذكور. ومع إن دراسة الثقافة واللغة تجعل الدبلوماسي أقدر على تقييم الأمور في الدولة التي يقيم بها ، إلا أنها تجعله عرضة لشحنة زائدة من الحجج والدعاوى التي تقوم عليها مواقف ذلك البلد على الساحة الدولية للسبب الذي أشرنا له أعلاه. ولعل من أهم العوامل التي تزيد من احتمال تعاطف الدبلوماسي مع وجهة نظر الدولة المضيفة التوافق بين مواقفه الفكرية من قضايا بعينها ومواقف تلك الدولة. على النقيض الآخر ، فإن تجربة شخصية او عملية سيئة قد يمر بها الدبلوماسي في بلد ما ربما تولد الكثير من النفور من كل ما يرتبط بذلك البلد وينعكس ذلك بوضوح على التقارير التي يبعث بها الدبلوماسي لرئاسته ، ومن الحصافة بالطبع أن يتم نقل مثل هذا الدبلوماسي من الدولة المعنية إلى دولة أخرى. غني عن القول أن مرض المحلية يمكن أن ينتج عن أسباب أخرى غير البقاء المتطاول خارج أرض الوطن ، كالتعرض المكثف للثقافة الأجنبية بسبب التطور الكبير في تقنيات الاعلام والاتصالات. كما أنه لا يقتصر بالطبع على فئة الدبلوماسيين دون غيرهم ، وقد نجد الكثير من الأمثلة في أوساط السياسيين والصحفيين وغيرهم من المهتمين بالشأن العام أو حتى بين المواطنين العاديين. لذلك فإن الكثير من الدول أصبحت تعتمد الآن ما يسمى بالدبلوماسية العامة التي تهدف إلى مخاطبة المواطن مباشرة دون المرور عبر القنوات الرسمية. Mahjoub Basha [[email protected]]