أكوبام كسلا يعيد قيد لاعبه السابق عبدالسلام    الخارجية: رئيس الوزراء يعود للبلاد بعد تجاوز وعكة صحية خلال زيارته للسعودية    الأمر لا يتعلق بالإسلاميين أو الشيوعيين أو غيرهم    الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يستقبل رئيس وزراء السودان في الرياض    طلب للحزب الشيوعي على طاولة رئيس اللجنة الأمنية بأمدرمان    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية تنفجر غضباً من تحسس النساء لرأسها أثناء إحيائها حفل غنائي: (دي باروكة دا ما شعري)    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    البرهان: لن نضع السلاح حتى نفك حصار الفاشر وزالنجي وبابنوسة    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    يوفنتوس يجبر دورتموند على التعادل    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    د.ابراهيم الصديق على يكتب: معارك كردفان..    رئيس اتحاد بربر يشيد بلجنة التسجيلات ويتفقد الاستاد    عثمان ميرغني يكتب: المفردات «الملتبسة» في السودان    إحباط محاولة تهريب وقود ومواد تموينية إلى مناطق سيطرة الدعم السريع    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    تحالف خطير.. كييف تُسَلِّح الدعم السريع وتسير نحو الاعتراف بتأسيس!    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا لو اندفع الغزيون نحو سيناء؟.. مصر تكشف سيناريوهات التعامل    ريال مدريد يواجه مرسيليا في بداية مشواره بدوري أبطال أوروبا    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    الصحة: وفاة 3 أطفال بمستشفى البان جديد بعد تلقيهم جرعة تطعيم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خواطر على خواطر: إلى السفير الأديب الأريب جمال .. بقلم: الأستاذ عمر جعفر السوري
نشر في سودانيل يوم 15 - 05 - 2013

الرسائل التي تصلني من الصديق العزيز عمر جعفر السوري من مهجره البعيد ، هي لي ولقرائي، ويقول لي عمر أنها تحت تصرفي، وإني أريد أن أشرك من يتابع مقالاتي الراتبة وأحثه أن ينظر في الرسالة أدناه ، فهي من خواطر عمر الندية على الخواطر التي جاءت في مقالاتي تحت عنوان "أقرب إلى القلب". إن أدب الرسائل كما سبق أن نوّهت أدب تناسيناه، وآن أن نحتفي به كرافد من روافد التوثيق، لوقائع فيها الشخصي كما فيها العام..
جمال محمد إبراهيم
خواطر على خواطر . .
بقلم الأستاذ عمر جعفر السوري
إلى السفير الأديب الأريب جمال،
سلام.. وددتُ لو عطرته برحيقِ ورود الربيع الزاهية، وعبق أزاهير الحقول المعشبة، لكن بساتين الورود حرقتها نيران صواعق ممطرة بلا هوادة في أقطارنا الكئيبة المهيضة المثخنة بالجراح كلها، في تخومها كما في قلوبها منذ عقدين ونيف، وليس عامين وأشهر، أما الازاهير فقد زرتها عواصف هوجاء وأعاصير عاتية لم تزل تزمجر في كل حين؛ ورغم ذلك لك التحية عطرة على كل حال وفي كل حال!
زمهرير العرب الذي عمّ أرجاء الوطن العربي والمنطقة لم يقف عند حدود؛ بل أبى إلا أن يعود بنا إلى عصور الظلام وإلى غارات البرابرة و قبائل الهون التي لم تبق و لم تذر. عصف بالإنسان وميراثه وقيَمه، فمحى ذاكرة شعوب و حضارات أمم ومعالم بلاد وأوطان ومدن، نحتوا بعضها في الصخر، ودونوا غيرها على الورق والحجارة ورسموا نقوشها على الجلود والقماش والحبال، وحفظوها في حرز حريز، حتى أتى هؤلاء ليفتتوا الصخر ويمزقوا الورق و يطحنوا الحجارة ويحرقوا الجلد والقماش ويقطّعوا الحبال وينبشوا القبور، ويهدموا القباب والأديرة العريقة والقلاع و الحصون وأضرحة لصحابة يجلهم مؤمنون من سنة و شيعة وصوفيون وكذلك العلمانيون. لم يسلم مقام عمار بن ياسر في الرقة – وهو من لم يختلف حوله حتى اليوم - فقد قتلته "الفئة الباغية" مرة أخرى حينما اعتدي على ضريحه؛ و في "عدرا" كان المشهد يدلّ على الانحطاط الذي وصولوا إليه لمّا نبشوا رفاة الصحابي "حجر بن عدي الكندي" وهو الجليل عند أهل السنة ومؤرخيهم رغم الخصوصية التي يتمتع بها عند الشيعة. أمّا ما جرى في تونس التي تعرف فهو يفوق الوصف. وقبل ذلك قسّموا السودان ونهبوا ثروات العراق. ثرواته المادية قادر هو على تعويضها بقليل من الجهد، ولكن ثروته الفكرية و الحضارية لا يمكن استرجاعها من الهشيم. لم يتركوا صرحاً ولا طللا حتى امتدت اليه ايديهم الاثمة. واليمن وليبيا وتونس ومالي أنّى لهم بعودة ما نسفته المتفجرات، وما خرّبته الهمجية الجديدة، وهي تصول و تجول بلا رادع. أما سورية فالبرابرة ما زالوا يعيثون فساداً في أرجائها وحدائقها الغناء وغوطتيها وكنوزها الباهرة. يريدون تحقيق النبوءة الواردة في سفر أشعيا: الاصحاح 17: "ها إن دمشق تزال من بين المدن فتكون ركاماً من الأنقاض." خسئوا! لم استطع تصوّر ما يمكن أن تكون عليه ردّة فعل الطيب صالح، ولا كيف تبدو قسمات وجهه، وإن كان سيتمالك نفسه ويتماسك لو عاش حتى يرى ما حلّ بتمثال أبي العلاء في حلب أوضريحه في معرّة النعمان علي يد الفجّار. كان الأديب الكبير لا يترك سانحة قد تقوده إلى المعرّة حتى يعّرج عليها، يزور الشاعر الفيلسوف الحكيم ويطيل الوقوف أمامه، قبل أن يغادر البلدة الوادعة. كان هذا ديدنه في كل عام، وأكثر من مرّة في العام في بعض الأحايين. "هذا ماؤها فأين هواؤها؟" بكى أبو العلاء حينما أتوا إليه بشربة ماء من المعرّة ذات يومٍ وهو في بغداد. كان الطيب صالح يتنفّس هواءها ويشرب من مائها، فهل يدري أن هواءها فسد الآن؟!
علّلاني فإنّ بيضَ الأماني فنيتْ و الظلام ليس بفاني
قرأتُ ما جادت به قريحتك، وخطه يراعك البليغ في الفترة التي توقفتُ فيها أنا عن الكتابة إلا لماما. ووقفت عند كلّ عبارة نشرتها، وفي بعض الأحايين طويلاً لما أثارته من شجن. وقفتُ عند استحضارك لذكرى التجاني يوسف بشير المئوية التي مرّتْ مرور الكرام لولا نفر قليل أبى أن تفوت هذه الذكرى بلا ذكر، وأنت أحدهم، وإشارتك إلى تلك المستديرة التي أطلق عليها اسمه، فاذا هيَ لا تستبين جراء الإهمال وغير الإهمال. أهكذا يُكافأ ويكرَّم صناجة السّودان وبلبله الغريّد، وقد عرف الناسُ ظلم الأهل والعشيرة له حينما كان يشدو من على ظهر البسيطة، والآن يُظلم بعد الممات؟ هو ظلم مُستدام، أليس كذلك؟ لكن حينما ننظر حولنا، نجد السودان كلّهُ قد أصابه ما أصابه؛ فبترتْ أوصالٌ منه وتشظّت أخرى، وتبعثرت غيرها إلى أماكن مختلفة، وأنشب أظافره في هيكله كلُّ طامعٍ وأيضاً فيما يكسو جلده أو ما بقيَ منهُ و"الحبل ع الجرار"، إذا بقيَ الناس في سباتهم، وظلّت قلة منهم في طغيانهم يعمهون، حتى يستهزئ الله بهم، أو ينطبق عليه قول عبيد بن الأبرص، أثناء رقصهم فوق المركبات وهزّهم العِصي فوق رؤوسِ العباد:
سائل بها حجر بن أمِّ قطام إذ ظلّت به السّمر النواهل تلعب
ليس التجاني يوسف بشير وحده الذي اغتالت ذكراه جهالة من تفرقوا أيدي سبأ. هنالك كثر؛ فيهم من يعيش بيننا في وحشة مريرة، وبعضهم عاشوا بيننا حتى بلغوا المائة ويزيد، أنفقوها فيما ينفع الناس؛ لهم أيادي بيضاء في حقول الثقافة من فنون وآداب وفي السياسة والعلوم والقضاء والبناء والصحافة والتعليم وأعمال الخير وغير ذلك، فلم يلقوا غير الجحود والنكران حتى رحلوا، ولك في فرسان وزارة الخارجية أمثلة ناصعة، و في امتناع القائمين على الأمر عن اطلاقِ أسمائهم على بعض مرافق الوزارة، شواهد ساطعة. لم يحفل بهم أحد في حياتهم ولا حتى بعد مماتهم، وفيهم الشاعر المجيد، والقاص البارع والروائي الفطحل و التشكيلي الخلاّق إلخ. .
هنا وقفتُ ملياً عند احتفالِ اللبنانيين بمئوية سعيد عقل. دام الاحتفال عامين كاملين ومازالت شموعه مضيئة؛ بل بدأ قبل ذلك الأوان ببضع سنين حينما أنشأت جامعة "سيدة اللويزة" مقعداً دراسياً أطلقت عليه اسم سعيد عقل، و في مدخلها انتصب تمثال نصفيّ لهُ يحيّ القادمين، تذكرةً بقيم وروعة الإبداع، مُستنهضاً الهمم للحفاظ عليها و الاستزادة منها كما الاضافة إليها. وهو قد وهب لهذا المقعد ما يستطيع من فكر وجهد، وفوق ذلك المال الذي لم يبخل به قط على أحد، خصوصاً الناشئة، إذ أنشأ الجوائز والهبات. هو الذي قال انه ينفق كل ما زاد عن حاجته، لا يكدّس المال ولا يكنزه، كأنّه ينزل طائعاً عند القاعدة الإقتصادية الواردة في الكتاب المبين: "و يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"! لم ينتظر ولم يطلب - لا تصريحاً ولا تلميحاً - جزاءً ولا شكورا، ولم يتسوَّل أو يدفع الناس ليتسوّلوا باسمه عند أبواب شركات الاتصالات أو التلفزة أو غيرها من المؤسسات التجارية والربحية ليؤسس جائزة فتحطّ من قدر من أنشئت باسمه! ولم يبغ من وراء ذلك منفعة. لكن الناس أبتْ إلا أن تحتفي بصاحب الإبداع وباذل العطاء مدرارا. بخٍ .. بخٍ!
قال سعيد عقل يصف فؤاد افرام البستاني، و كأنّهُ يُناجي نفسه:
إن رحت اطريهِ يغضي رأسه دِعة كرأسِ صنين إن يهو هوى صعدا
رأس الحفل الأول سيّد بكركي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للمسيحيين الموارنة، الكاردينال بشارة الراعي، وهو أديب وخطيب مفوَّه؛ كما أمّ الحفل جمع غفير من كل ملل لبنان ونحله وقبائله السياسية والثقافية. كان يستمع إليهم جالساً على كرسيه المُتحرّك مطرقاً رأسه دعة. وفي الحفل الثاني، الذي غاب عنه المُحتفى به، كان يجلس في الصف الأوّل خليفتك في السفارة وعقيلته، وذلك قبل أن يودّعا لبنان بقليل. سرّني ذلك أيّما سرور أن أجد السودان بين الحضور! قدم الحفل الشاعر الاديب، هنري زغيب، صديقك الذي استقبلك يوم قدمت الى لبنان، فصال وجال. لم يكتفِ بأن يكون عريفاً لحفل تكريم هذه القامة الكبيرة في تلك الأمسية، بل كان يقدم برنامجاً في أمسيات الأحد لشهور عددا من تلفزيون لبنان الرسمي: "سعيد عقل إن حكي" ، يستضيف فيه صاحب القرن، فينفض الشاعر العملاق غبار السنين عن كتفيه ويتدفق نهراً هدّاراً تارة وجدولاً رقراقاً تارة أخرى. في أيّام الأحد تلك، كنت أغلق هذا الجهاز اللعين من بعد ذلك، حتى لو انطبقت السماء على الأرض وجاء ذلك في خبر عاجل. أنشد فاروق شوشة قصيدة طويلة في صاحب المناسبة وتحدثت كوليت خوري عن أيام مورقات تردّد فيها سعيد عقل على منزل جدّها السياسي ورجل الدولة السُّوري البارز، فارس الخوري، فحرّكتْ أشجانا، و طرب لحديثها بصوتها الأجشّ المُحبّب مَن في القاعة أجمعين؛ ثم صدح وديع الصافي وهو يتكئ على كتفي مرافقين، فالأرغن قد تجاوز الثمانين ربيعاً ويحثّ الخطى نحو المائة. لكنه سرعان ما أزاح مرافقيه جانباً وشدا وأشجى، واقفاً كالأرز وكالسنديان العتيق المُورق في جبال لبنان، مثلما كان يفعل وهو في ميعة الصبا. صوت لا يشيخ ولا يصدأ ولا يتعب ولا تعرّيه رياح الزمن وإنْ وهن الجسدُ. كان سعيد عقل حاضراً بروحه تلك الليلة في كلّ من حضر!
تجد سعيد عقل كلّ يوم وكلّ صباح في أغاني فيروز، فقد غنّتْ له عشرات القصائد من فصيح الكلم ودارج القول، شعر حماسة في الوطن والمقدّسات، وشعر غزل. كان سعيد عقل في صباه عاشقاً لا يبزّه في التعبير عن عشقه حديثاً إلا الرسام الفرنسي "فان قوخ". في سبعينيات القرن الماضي روتْ لي المذيعة السورية الساحرة عبلة الخوري، بعد تناول الغداء في منزلها ببيروت صحبة إدمون خليف، مدير مكتب رويتر آنذاك في سورية، وأحد أنسباء عمّها، فارس الخوري، عن عشق الشاعر للمذيعة "ليلى طنّوس" تلك التي وصفها الطيب صالح، وقد عمل معها في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية، فقال: "ليلى طنوس مسيحية كالمسلمين، عربية كالأروبيين، ارستقراطية كبنت البلد. تشرَّبت حبّ اللغة العربية من الجامعة الاميركية في بيروت ومن البستاني والعلايلي وهارون عبود. وفيها رومانسية جبران وجاذبية لبنان، تتلمّس العربية كما تنطقها، كأنّها قطعة عملة أثرية نادرة." قالت عبلة الخوري إن سعيد عقل درج على المجيء إلى منزلها ليقبّل لفترات طويلة سور البيت ثم ينصرف دون أن يحظى بود، فقلب ليلى كان مُتعلقاً بضابط انقليزي تزوجته وغادرت إلى انقلترا، وعاشت هناك إلى أن رحلتْ في شهر فبراير/شباط المنصرم وهي تكاد تبلغ المائة عام!
هل كان سعيد عقل ممن دعوا الى إحلال العامية مكان الفصحى وإلى التشرنق في أكياس الفينيقية؟ البعض ذهب إلى ذلك القول. لكنها مرحلة كانت تلفّ لبنان الثقافي بأكمله. ما كتبه سعيد عقل من شعر فصيح يفوق ما كتبه باللبنانية الدارجة بكثير. الباحث السوري جمال باروت، في مقاله المنشور في "لوموند ديبلوماتيك" (تموز/يوليو 2009) بعنوان (من شعر الرؤيا إلى الشعر اليومي – تياران في الشعر السُّوري الحديث)، قال عن يوسف الخال: "إن حركة مجلة "شع"ر اصطدمت بالازدواجية بين "ما نكتب و ما نحكي"، ورأى أن الأدب الذي انتجته الحركة، كان أدباً أكاديمياً ضعيف الصلة بالحياة، بسبب تلك الإزدواجية. كما طرح بشكل استباقي أبواب فتح شعري جديد يتجاوز هذه الإشكالية. وكان الخال محكوماً بنزعة قافية قومية أكثر من كونها شعرية وتتلخص في أن تكور اللغة العربية يجب أن يحاكي تكوّر اللغة اللاتينية الى لغات قومية أوروبية. وفي ضوء تكوينه السّوري القومي الإجتماعي الأول الذي يرى العالم العربي مؤلفاً من أربعة أقاليم عربية هي: سورية الطبيعية الكبرى، ووادي النيل، والمغرب العربي، والجزيرة العربية، كان على الأرجح يرى في (لغة الحياة) اللغة الجارية في بلاد الشام باعتبارها فصحى لكنها غير معرّبة."
تلك كانت مرحلة وانقضتْ! وقد قسّم باروت حركة مجلة "شعر" إلى روافد فنسب جبرا ابراهيم جبرا وتوفيق صايغ وسركون بولص الى التكوين الثقافي الأنجلو – سكسوني، ونسب أدونيس ويوسف الخال إلى التكوين الثقافي الفرنسي. لكن باروت أغفل الإشارة إلى المنتمين إلى الثقافة الألمانية والمتأثرين بها، مثل "فؤاد رفقة" وإلى ذوي الجذور العربية الضاربة في العمق مثل محمد الماغوط، أو لعله بذلك ينكر اسهامهما في حركة مجلة "شعر" لدورهما المحدود، كما يظن.
ففؤاد رفقة انشغل بعد ذلك بترجمة الشعراء الألمان: "هيسه" و"بريشت" و"قوته" و"ريلكه" و"هولدرين" و"هايدغر" و"شيلنق"، وغيرهم إلى العربية، رغم أنه نظم روائع ترقى إلى أجود مما كتب في المجلة. أنظر إلى ما يأتي من شعره:
أيتها الارض
هو ذا ابنك الضال
من التيه في الأنواء
بلا وجه يعود
فضمّدي شظاياهُ
مدي له السرير
و أطفئ الشموع
رائعة كانت البحار
تحت الشمس
رغم العواصف
ثم عاد من بعد السنين محمولاً إلى الكفرون حيث ولد ونشأ، تلك القرية الوادعة في وادي النضارة، أو ما عرف بوادي النصارى. هل رأيت فيلم الكفرون لدريد لحام؟ هو ليس من روائع السينما السّورية، لكن له قصة من خلف الكواليس، قد أعود إليها في مرّة اخرى.
في عرضك لكتاب معاوية يسن عرجت على عدم دراية، بل جهل العرب بالغناء السوداني. لكن هل يقتصر ذلك على الغناء فقط؟ معرفتهم بالسودان ضبابية، بل مُنعدمة، الخاصة منهم والعامة. ذكر حازم صاغية في صفحتي 50و51 من كتابه الذي صدر مؤخراًً بعنوان: (البعث السوري – تاريخ موجز): "لكن النظام البعثي تميز ما بين 1966 و 1970، حينما انقلب حافظ الاسد على رفاقه، بسمات خاصة نسبياً. ففي الداخل، عوّل على جهاز المخابرات العسكرية تعويلاً غير مسبوق، كما أُتُّبعت سياسة تأميم متطرفة لم تراع بعض أصغر الملكيات الخاصة، مصحوبة بتعزيز الصداقة مع الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية، وبتوزير شيوعي، هو سميح العطية للمواصلات، ليكون بهذا أول شيوعي يحتل منصباً وزارياً في العالم العربي كله." أنظر ‘لى الثقة المتناهية في هذا القول الذي لا يقبل المراجعة. عجبي!
حازم صاغية يعرف سوادانيين كثر وتربطه علاقات ثقافية ببعض السودانيين، أظنك أحدهم، لكنهُ قرّر في كتابه الصادر مؤخراً أن سميح العطية هو أول وزير شيوعي في تاريخ العرب. لم يسمع بالشفيع أحمد الشيخ ولا بشيخ الامين ولا أحمد سليمان المحامي، الذي كان مُمثلاً رسمياً للحزب الشيوعي السوداني في أول حكومة تكوّنت بعد ثورة 21 أكتوبر 1964، أي قبل سنين من توزير سميح العطية، هذا إذا افترضنا ظنه بالشفيع وشيخ الأمين كممثلين لنقابات العمال والفلاحين، رغم عضويتهما في المكتب السياسي واللجنة المركزية للحزب الشيوعي.
أرجو المعذرة فقد أطلت عليك. .
مع المودة و الاعتزاز.
عمر
13 مايو 2013


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.