يا وزير المالية ندعوك أن تشطب أرباح المصارف عن شهادات المشاركة الحكومية لأنه عطاء من لا يملك لمن لا يستحق: من خلال مراجعات كثيرة وإفادات لمهتمين بالشأن الأقتصادي يتضح أن المصارف السودانية الإسلامية تحتفظ بما لا يزيد عن 30% من حجم أسقفها الإستثمارية في شهادات إستثمارية حكومية يصدرها بنك السودان وبالتحديد شهادات شهامة، وتتقاضي المصارف عن تلك المبالغ أرباحا تراوحت مابين 18% إلي 30% كفوائد سنوية عل تلك الشهادات وذلك دون أدني جهد إداري أو فني. السؤال هو: هل يحق للمصرف كمؤسسة مصرفية إستثمار ودائع الجمهور الجارية وذات الأجل في السندات الحكومية؟.. أنا بالطبع لا أتساءل عن ما تتيحه القوانين السودانية أو لوائح بنك السودان، بل أتساءل عما أتفقت عليه قوانين ولوائح العمل المصرفي في العالم أجمع.. لأننا في السودان، ولأننا دائما متفردون!، فإننا نجنح أحيانا كثيرة ونتجاوز شريعة الأشياء، فنقنن لذلك التجاوز. حتي النظام الشمسي تطاولنا عليه فتجاوزناه بساعة كاملة، وشرّعنا القوانين ودبجنا الأحاديث النبوية لذلك التجاوز، حتي كدنا أن نتسبب في إضطراب الشمس والكواكب.. إذ أنها بموجب ذلك القانون أصبح لزاماً عليها أن تشرق لدينا قبل أن تشرق علي أهل الخليج. الودائع ذات الأجل التي يودعها أصحابها بالمصارف، الغرض من إيداعها هو قناعة أصحابها بأن المصرف سوف يمنحهم مقابل إيداعها عائدا سنويا مرضيا يتجاوز الخيارات الأخري المتاحة لهم. وبالضرورة بحسبان أن المودعين هم بطبيعتهم كائنات إقتصادية، بحيث أنهم يبحثون عن توسيع المصلحة الأقتصادية المتمثلة في العائد علي هذه الودائع، فإنهم بالطبع يلجأون للمصارف إذا كان ما يتلقونه من ودائعهم فيها، يعادل أو يتجاوز ما توفره لهم الخيارات الأستثمارية البديلة، كالمصارف الممائلة أو الأوراق الحكومية المضمونة والتي من ضمنها، بالطبع، شهادات شهامة الحكومية. بالتالي مادامت شهادات شهامة متاحة لأصحاب الودائع فهم ما كانو ليلجأون للمصارف إلا إذا كانت عائداتهم لدي المصارف تفوق ما تتيحه لهم شهادة المشاركة الحكومية (شهامة). ومن هذا السياق يتضح أن أموال الودائع ذات الأجل لا تصلح منطقياً كوعاءٍ لتمويل أنشطة المصارف في الإستثمار في شهادات المشاركة الحكومية .. إذا من أين تمول المصارف مضارباتها المربحة في تلك الشهادات عالية العائد..؟ الإجابة علي هذا السؤال ربما تكمن في الودائع الجارية للجمهور وللحكومة ومؤسساتها، التي ما زالت تحتفظ بحسابات في المصارف الحكومية والخاصة خلاف المصرف المركزي، رغم أن القانون يمنع مؤسسات الدولة من الأحتفاظ بحسابات خارج البنك المركزي. والودائع الجارية بطبيعتها تمثل أكبر حجم للسيولة المتاحة لدي المصارف، وهي عبارة عن أموال الجمهور والمؤسسات التي تدير تداولاتها المالية لدي المصارف عبر الشيكات وأوامر الدفع .. بحيث أن السحوبات المالية الصافية عادة ما تقتصر علي نسبة مئوية ضئيلة تقل كثيراً عن عشرين بالمائة من حجم المبالغ المودعة لدي المصارف.. وبالتالي تتمتع المصارف بمخزون نقدي ضخم من ودائع الجمهور الجارية ومعظمها أموال لممواطنين محدودي الدخل والمعاشييين الذين يمثلون أضعف الطبقات الإقتصادية في المجتمع.. وبما أن المصارف تستمتع بهذا الحجم الضخم من أموال الجمهور في الودائع الجارية، وبما أن تلك الودائع بموجب النظام المصرفي الأسلامي السوداني، لا تتمتع بأي عوائد علي الإستثمار (لأن ذلك من أبواب الربا) فهي تمثل بذلك تنوراً ذهبيا للمصارف الأسلامية بالسودان.. حيث تمنح المصارف تمويلا ضخما بتكلفة صفرية.. وبالتالي فإن العائد علي تلك الودائع الضخمة تستفرد به إدرات المصارف الخاصة ومؤسسوها دون سواهم.. وقد لا نزرف الدمع مدرارا لذلك إذا ما كانت مصارفنا الإسلامية تطلع بتوظيف تلك الأموال الضخمة فيما ينفع الناس في زراعتهم وصناعتهم وتنميتهم .. لكن المصارف الأسلامية بالسودان تستثمر 50% علي الأقل (بإفتراض أن الودائع الجارية 60% من حجم الودائع المصرفية، يصبح 30% من حجم مجموع الودائع الجارية والودائع ذات الأجل، يعادل 50% من الودائع الجارية لوحدها) من ودائع الجمهور الجارية ذات العائد الصفري كي تستثمرها في شهادات المشاركة الحكومية وتتلقي عليها مقابل ذلك عائداً جبارا أثقل كاهل الحكومة، دون أن تقتسم ذلك العائد مع أصحاب هذه الأموال من المعاشيين واليتامي والفقراء.. وفي مقابل ذلك الربح الهائل لا تبذل إدارات البنوك أي أعباء إدارية في ذلك حيث أن حصاد الأرباح علي هذه الشهادات يدرج بصورة تلقائية في حساباتها دون أدني جهد أو عنت .. ما دامت هذه المصارف ليست المالك لهذه الأموال، كما أنها لا تبذل مجهودا في إستثمارها ولا إدارتها، فالحكومة وحدها هي من تقوم بتوظيف تلك الأموال وإدارتها وتحمل أرباحها الهائلة .. إذن ما هو المسوّق الشرعي كي تستمتع هذه المصارف المتأسلمة بتلك العائدات الضخمة ؟ .. والأدهي والأمّر هو أن الحكومة لا توظف هذه الأموال في إنشطة ذات عائد، بموجب تصريحات وزير المالية، إنما تستخدمها لسد العجز المتنامي للميزانية .. بالتالي فإن أعباء الأرباح الهائلة علي تلك الشهادات تدفها الحكومة خصماً علي المواطن من خلال الجباية والأعباء الضريبية، فيكون المواطن بذلك قد أصابه الضر مرتين، مرة حينما وظفت المصارف الأسلامية أمواله دون إذنه، ودون أن تمنحه عائدا علي ذلك التوظيف، والثانية أن يتحمل نيابة عن الحكومة الأعباء الكبيرة التي تشكلها العوائد الباهظة علي تلك الأموال والمستحقة للمصارف الأسلامية. بما أن هناك حديث ينتظم الصحف هذه الأيام عن أن وزارة المالية أصبحت تنوء بحمل ثقيل تمثله الفوائد المستحقة والمتراكمة علي شهادات المشاركة الحكومية، والتي تملك قدرا كبيرا منها أو معظمها المصارف الإسلامية الخاصة.. فإنني أري أنه من المنطقي بل من الواجب أن تتخذ وزارة المالية قراراً (بأثر رجعي كعادة معظم قراراتنا الحكومية) بشطب كل الأرباح المستحقة علي شهادات المشاركة الحكومية المملوكة للمصارف الخاصة والحكومية.. لأن هذه الأموال أموال حرام، ليست لها، ولم تبذل مجهودا في توظيفها..بالتالي فلا مسوق قانوني أو شرعي يتيح لها التمتع بتلك الأرباح.. مثل ذلك القرار يعود بالفائدة علي الجمهور مالك الودائع الجارية لأنه بصورة غير مباشرة يخفف العبء الضريبي الذي ستفرضه الدولة عليه إن هي أقدمت علي سداد أرباح تلك الشهادات. Nagi Sharif Babiker [[email protected]]