لم تعد الحياة سهلة لينة كما كانت (ايام زمان)، التي غاصت و (دابت) في ذاكرة الزمان، الذي اصبح الوقت فيه يجري سراعا والناس منشغلون في معترك (حراك) الحياة، الدوامة تعصف بهم وتجبرهم على الدوران معها، لا يهم مع أو عكس عقارب الساعة، كمثل (درويش) منتشي داخل حلقة الذكر يدور ويدور وهو في عالم آخر (فاقد الوعي)، وفجأة وبدون مقدمات انتبه، وصاح وخرج من الحلقة وهو يهذي بشئ غير واضح. وفجأة انتبهت أنا لذلك التاريخ المحفور في ذاكرتي والذي لن أنساه ابدا مها طال الأمد وقست الدنيا وتسارعت ايقاعات وخطى الأيام ... لن أنسى التاسع من يونيو من العام 1969 وقد وافق يوم الاثنين، ان لم تخني الذاكرة. ذلك اليوم الذي انتقلت فيه الى خانة (الأيتام)، حيث سقطت آخر ورقة من شجرة عمر الوالد، بعد أن كانت وارفة الظلال، رطبة الأغصان، ممتدة الجذور، مخضرة الأوراق، دانية القطوف، مثمرة، دائمة وزاهية الخضرة، عطرة العبير، دائمة الازدهار، متاحة الثمار للقريب والبعيد. كنت عندها تلميذا في العتبة الثالثة للمرحلة الثانوية وعندها أحسست بأن الأرض تهتز تحت قدماي وأنهما مادتا عن الجادة، ودارت في خاطري العديد من الأفكار وأختل توازني وشعرت بضربة قوية على (أم) راسي، شعرت بدوار شديد، احتوى وسيطر على كل ما حولي من اشياء، ثم أفقت حيث تسمرت عيناي على الجثمان المسجى على مرتبة داخل العربة التي كانت تنهب الأرض وهي متجهة الى المستشفى الحكومي العام بودمدني، لقد فاضت روحه الطاهرة قبيل لحظات من وصول العربة الى عيادة الطوارئ (الحوادث)، هكذا جاء تقرير الطبيب الذي فحص وتفحص في الوجه (الباسم) تلك الابتسامة التي لم تفارق محياه وهو على قيد الحياة أبدا. لقد جفت الدموع وتيبست في عيناي وخنقتني العبرة وتجمد الكلام في اوتاري الصوتية ورجفت (أوصالي) التي شعرت بأنها قد انفصلت عن سائر جسمي، وسرت رعدة في جسدي، سرى معها تيار رطب بارد في اطرافي أصاب كل سلامى فيها بالبرودة. شخصي الضعيف شخص عادي جدا والوالد، عليه رحمة الله، شخص عادي أيضا، وليس الغرض من هذه السطور سوى المنفعة العامة، حيث تأتي في اطار ديني محض يهدف الى العمل بمبدأ حض عليه ديننا الاسلامي الحنيف وجعله من أهم القضايا والمسائل التي ينبغي على المسلم الاعتناء بها ألا هو الاحسان الى الوالدين وبرهما، حيث قدم المولى عزوجل ذلك على كل عمل ابن آدم وعلى أي عبادة سوى عبادته (وقضى ربك الا تعبدوا الا إياه وبالوالدين احسانا)، ومن هنا تأتي عظمة وأهمية ذلك الأمر المتعلق ببر الوالدين، فالأمر جد عظيم ومن لا يفقدهما أو أي أحد منهما لا يحس بعظمتهما، أسأل الله ان يبقي والديي كل قارئ لهذه الأسطر. فالدعم الكبير غير المحدود الذي يقدمانه هو لا مثيل له مهما عظم شأنه من غيرهما، وبالطبع تنطبق عليهما مقولة الصحة {تاج فوق رأس الأصحاء لايراه الا المرضى}. دورهما في هذه الحياة عظيم، ولا يقدر بثمن، وقد أحسست بفراغ كبير بعد وفاة الوالد، فراغ لم ولن يستطيع أي أحد أن يملأه لأنه ليس بفراغ عادي لأنني أحستت به في كل مكان، في المدرسة، في البيت، في الشارع، في يومي وفي منامي، أحسست بأني فقدت كنزا عظيما، فقدت أبا حنونا، مربيا عظيما، مرشدا رحيما، معلما ، سندا وعضدا هاما. كان بجانبي في كل مكان وزمان، لن أنس ذلك المشهد العظيم بعد انتهاء امتحانات الدخول للمدارس الوسطي، حيث كانت جميع مدارس مدينة ودمدني الابتدائية تتنافس على مقاعد محدودة للغاية، ذلك اليوم الذي تقاطر فيه كل التلاميذ الممتحنين، وكل يصطحب معه ولي أمره، كان والدي ممسكا بيدي ونحن قد تجمعنا في أرض ملعب كرة القدم جموع غفيرة، كل ولي أمر أو والد يتطلع أن يكون ابنه ضمن المجموعة المحظوظة التي سمحت المقاعد المحدودة باستيعابها. كان يسمى امتحان اللجنة {الدخول للمدارس الوسطى}، وكانت هي ثلاث مدارس: الأهلية أ، الأهلية ب ومدرسة الأميرية الوسطى، وكانت النتيجة تذاع من خلال مكبرات الصوت التي وزعت في ذلك الميدان الكبير، كان الجو ساخنا والناس تتصبب عرقا، كنت بجوار الوالد، يرحمه الله، وكان جسدي النحيف يرتجف، وعقلي الصغير يسرح بي في خيال لا محدود من الصور المخيفة المفزعة، وكانت ضربات قلبي تتسارع، وسمعي مرهف الى الحد الذي كنت استمع فيه بوضوح النبض المتسارع لقلبي الصغير، وفجأة يجلجل صوت الأستاذ الذي كان يعلن النتيجة النهائية وها هو اسمي ينبعث من جميع مكبرات الصوت التي انتظمت الملعب المترامي الأطراف: الرشيد حميدة محمد على .....كانت لحظات حرجة جدا امتزجت فيها الفرحة بالخوف وبالأمل، وكان الوالد مطرقا ببصره الى الأرض وتحركت شفتاه بألفاظ تعبر عن الشكر والامتنان والحمد لرب العزة الذي استجاب لدعائه لي بالنجاح والتوفيق، وانهمرت دموع الفرح تبلل خديه، واختلطت بحبيبات العرق. ولكن وفي يوم آخر، كان الفقد عظيما، والأمر جلل، والحدث كبيرا، يوم أن أعلن المذياع {راديو أم درمان} قبولي بكلية الآداب/جامعة الخرطوم، ذرفت الدمع غزيرا حزنا على عدم وجوده بجانبي، ذلك اليوم الذي احسست فيه فعلا بأهمية أن يكون لك أب على قيد الحياة، يشاركك ويساندك ويفرح لك، حيث تمدد الفراغ ولفني الحزن بجناحيه وابتلع فرحتي وأجهض لحظات الابتهاج الجميلة، ولم أكن حينها لوحدي فقد كان هناك من {يشعلل} جذوة نار الحزن في نفسي. روي عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم :قوله ( رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة )، والحديث يحض على بر الوالدين والاحسان اليهما، فمفتاح باب الجنة يكمن في المعاملة الطيبة لهما، فاحرصوا ايها الأبناء على نول ذلك الشرف الكبير والعمل العظيم المقدر الذي يفتح أبواب الجنة على مصراعيه. اللهم أغفر لوالديي وأحسن اليهما كما أحسن الى وآجرهما من عذاب القبر وعذاب النار ياعزيز ياغفار وتغمدهما بواسع رحمتك واجعل الجنة مستقرهما ومثواهما، وأغفر وارحم موتى المسلمين أجمعين، لك الحمد والشكر وبك نستعين... آمين. alrasheed ali [[email protected]]