تمتلئ الساحات الفضاء الاسفيري بأطنان من الكتابات عن السودان وتكاد تجمع الكتابات على ما يشبه اليأس من الحالة السودانية . غير أن كل الإرهاصات تدل على على غير ذلك تماماً. تواصل معي أحد الشباب يسألني عن سبب تفاؤلي بمستقبل السودان ، ذاكراً لي حجم التردي الذي طال كل أوجه الحياة. فالحروب القبلية تندلع في دارفور وأجزاء من كردفان بين الفينة والأخرى وجماعات المعارضة المسلحة تهدد باكتساح الخرطوم الخرطوم في أي وقت ، والحكومة عاجزة تماما عن فعل أي شيء بينما الفساد يتغلغل في أروقة الدولة ، وهنا المواطن يحترق بنيران السوق! ثم مضى يسرد ويسرد حتى قلت له كفى. ولكن أقول بالرغم من ذلك كله أن هناك أكثر من سبب يدعو للتفاؤل: أولاً: يحدثنا التاريخ أن الحضارات يصنعها "الغلابة" ، وليس الأقوياء. وأن الثورات تندلع حينما يبلغ السيل الزبى ، وليس بعد التدهور تدهور ، بل إصلاح وتطور. ثانياً: ونظراً لأن السودان قد ضاق خلال العقدين الماضيين بعلمائه ونبغائه فقد انتشر السودانيون في بقاع الأرض بحثاً عن الرزق في أرض الله الواسعة فحصلوا على المؤهلات العلمية في أرقى الجامعات العالمية ، ولا تكاد تجد اليوم مؤسسة ناجحة وإلا ووراءها أو في قمتها سوداني. ولئن تم إقصاء هؤلاء في يوم من الأيام وتم إبعادهم من المساهمة في تطوير بلادهم نتيجة ضيق افق من بيدهم الأمرفإن الوقت الذي سيكون لهؤلاء العلماء دور قادم لا محالة. ثالثاً: التغيير في السودان قادم إلى الأفضل بإذن الله ، سواءً أردنا ذلك أم لم نرد. ذلك لأن الكل من حولنا يتغير نحو الأفضل ، وبتغييرهم سنتغير. والتغيير كالسيل ، إن لم تتفاعل معه وتبحث عن مهرب فإنه لن يتركك طالما أنت في طريقه. فكل الأوساخ في طريق السيل مصيرها الكنس والزوال. رابعاً: ربما يقول قائل أن القبلية والجهوية أصبحت تهدد النسيج الاجتماعي ، ولكن أقول أن القبلية والجهوية مصطنعة ومرعية من أعلى لأن فيها مكاسب سياسية آنية يستخدمها الانتهازيون لتحقيق مصالحهم الذاتية ولكن ليس لها جذور على الأرض ، نظراً لحركة النزوح والتزاوج والتداخل الثقافي الذي أوشك على صهر السودان كله في بوتقة واحدة . فبمجرد زوال العوامل المغذية للقبلية ستزول القبلية بين عشية وضحاها. وذلك عندما ينال المواطن حقوقه دون اعتبار لعرقه أو جهته أو لونه أو دينه. يكون الأمر كذلك عندما يكون ضمن طاقم المذيعين في الفضائيات السودانية أو في الدعايات التجارية الثابتة والمتحركة السحنات السودانية المغيبة قسراً من جبال النوبة ودارفور وجنوب النيل الأزرق ، حينها لا تحتاج الفتاة السودان أن "تُبرِّط" جلدها لتكون مقبولة عند دعاة "النقاء العرقي". إن لم يكمن دور القبيلة في حفظ القيم والأعرالف والتقاليد الأصيلة ، في وجه عولمة كاسحة أول ما تستهدف في الشعوب قيمها وأعرافها، فإن القبيلة بالمعنى الذي يقصده الانتهازيون في طريقها للاندثار إن لم تكن في موت سريري. ذلك لأن العولمة وشبكات التواصل الاجتماعي قد كسرت حواجز الدول والجنسيات ناهيك عن القبائل والأعراق. فالذي يلجأ إلى القبيلة بحثاً عن مكاسب مادية في ظل الأوضاع العالمية الراهنة سيصبح "كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه". خامساً: أرى عبر الانترنت شباباً متطلعاً ويسرني ما أرى فيهم من حماس وهمة ، وقد انكسرت فيهم كل الحواجز وأصبح السودان لهم وطناً دونه كل غالِ ونفيس. هؤلاء هم أمل السودان ومستقبله. هؤلاء لا يرون رابحاً في القتال الدائر في مختلف الجبهات. فالقاتل عندهم سوداني والمقتول سوداني وكلاهما موارد بشرية مهدرة كان بالإمكان الاستفادة منها في تقدم البلاد وازدهارها. هؤلاء الشباب تجاوزوا الأحزاب السياسية التقليدية التي أصبحت شيئاً من الماضي. فهم لا ينتمون ولكنهم جاهزون في انتظار اللحظة الحاسمة. سادساً: الموطن السوداني اليوم أصبح أكثر وعياً بحقوقه من من أي وقت مضى ، وهذا في حد ذاته ضمان لأي تجربة ديمقراطية واعدة ، ليس كسابقاتها حيث يساق الناس كالرعاء ينفذون التعليمات دون أن يدققوا في مغازيها حتى لو كانوا هم ضحيتها ، طالما صدرت من شخصيات يلفهم زخم من القداسة والهيبة المصطنعة . أما اليوم فلا قداسة لأحد ، فلا سيد ولا مسيود بل كلنا أسياد لأنفسنا نقرر في شأننا دون إملاء من أحد. هذا الوعي كفيل بأن يحقق دولة المؤسسات التي تتعامل مع المواطن كرقم وكقيمة في حد ذاته لا كفرد ينتمي لعنصر أو عرق أو جهة أو غير ذلك. إذن علينا أن نتفاءل ، لأن المجروح حينما يبكي فهذا يعنى أنه حي وطالما هو حي فهناك أمل في أن يُكتب له الحياة. ولكن إذا لم يبك فذلك شأن آخر.