غالبتُ النوم أثناء خطبة الجمعة الماضية فغلبني. هذا مسجد أصلّي فيه لأول مرة غير أن الخطيب نمطي: العمامة الصغيرة الملفوفة بحزم، والذقن الغزيرة الكثة، والجسد الممتلئ، والجلباب القصير، والوجه الشاب، والصوت الجهوري. تساءلت وأنا أصلح جلستي على الكرسي في طرف الصف الرابع: لماذا أصبح معظم أئمة المساجد وخطباء صلاة الجمعة من الشباب؟ ولماذا لا تعكس خطبهم شبابهم وهموم أمثالهم من الشباب في هذا العصر المضطرب القلق المتغيّر دوما؟ وكيف يخرجونهم نسخا متكررة مكرورة، أقدامهم في القرن الحادي والعشرين، وعقولهم (وخُطبهم) في قرون سحيقة مضت، لا ينقصها إلا الدعاء لخليفة المسلمين في الاستانة؟ ولماذا يصيحون في المصلين وقد أمر الله بالدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة؟ لم يطل تفكري في حال الأئمة الشباب إذ سرعان ما غلبني النوم. هدّني الصهد في الطريق إلى المسجد، وهدْهَدَني أزيز المراوح داخله، وصوت الخطيب المُسطّح الرتيب رغم صياحه، وموضوع الخُطبة الذي لا جديد فيه يسري في عروقي كالمنوِّم. استيقظت فزِعا عند نهاية الخُطبة والإمام الشاب يدعو بالنصر للمجاهدين في فلسطينوأفغانستان وسوريا. وأنا بين اليقظة والمنام، (أتساءل عن الفرق بين النوم الخفيف والنوم الثقيل)، تساءلت: وأين المجاهدين في الشيشان وكشمير؟ كانت كل خُطب الجمعة في مساجد السودان لسنوات خلت تدعو بالنصر للمجاهدين في الشيشان وفي كشمير. ماذا حدث لاؤلئك المجاهدين؟ هل كُلل جهادهم بالنصر وبالفرج، أم ان مكانهم في الدُعاء احتله مجاهدو سوريا (والروهنجا لمن يعرف مكانهم)، أم أنهم نالوا شرف الشهادة، وقضوا عن بكرة أبيهم، وماتت قضاياهم؟ حين شنّ جورج بوش الإبن حربه على الإرهاب عقب هجمات 11 سبتمبر 2001، اندست تحت عباءة الحرب التي أراد لها بوش أن تكون تحالفا دوليا ضد الإرهاب حكومات عدة تُواجه مشاكل داخلية بقوة السلاح، منتهزة حرص أمريكا على وحدة الصف الدولي في حربها تلك التي بدأتها بغزو أفغانستان، وخشيتها من أن تُوجّه لها سهام النقد في أمر مشكوك في قانونيته وجدواه. وكانت روسيا أكثر الدول تلفحا بإهاب الحرب ضد الإرهاب في حربها الشرسة ضد جمهوريتها الشيشانية الصغيرة ذات الأغلبية المسلمة في شمال القوقاز التي حاولت، منذ تفكك الإتحاد السوفيتي في بداية التسعينيات من القرن الماضي، الحصول على استقلالها أسوة بباقي الجمهوريات السوفيتية الأخرى. وقد عانت القوميات والشعوب العديدة الواقعة تحت حكم موسكو القيصرية والسوفيتية والروسية طوال تاريخها، غير ان الشيشان كانوا أكثرها معاناة وتعرضا للعسف والقهر. نفاهم ستالين جميعا أثناء الحرب العالمية الثانية إلى كازخستان، ثم إلى سيبيريا بعد ذلك، ولم يعودوا إلى ديارهم إلا في عام 1956 بعد وفاة ستالين. وحين أعلن الشيشان استقلالهم في 1991، شنت موسكو حربها الأولى ضدهم (1994-1996)، ثم الثانية التي استمرت طوال العقد الأول من الألفية الثالثة، وخاصة في ظل الحرب الأمريكية ضد الإرهاب، وهي حروب استخدمت فيها موسكو كل ترسانتها الحربية الضخمة وكل وسائل القمع والقهر ضد الشيشانيين، مُحاربين ومدنيين عُزّل، مما ترك العاصمة "قروزني" أطلالا، واحال الشيشان لاجئين ونازحين. وفي حينها حفلت خُطب الجمعة في مساجد السودان، ومساجد العديد من بلدان المسلمين، بالدعوات لنصرة المجاهدين في الشيشان، وزارت وفود الشيشان الخرطوم وأماكن أخرى بحثا عن النُصرة، وخفّ المتطوعون من بلدان كثيرة إلى القوقاز للمشاركة في الجهاد ضد الروس. ثم دارت عجلة الزمان، وتبدلت المواقف والعواطف، وحلت دواعي السياسة والمصالح وحماية الأنظمة مكان التضامن مع المجاهدين في الشيشان (وفي كشمير)، وخبا الحماس الطاغي، وصمت الأئمة (أو تم اسكاتهم) عن معاناة إخوتهم في الله، وصمتت وسائل الإعلام عن نقل أخبارهم، فأصبحوا نسيا منسيا. صمتت الأنظمة (وصمت الأئمة) عن الدعوة لنُصرة المجاهدين في الشيشان وكشمير كسبا لود موسكو ودلهي، وتركت مسلمي تلك المناطق لمصيرهم. في بدايات الثمانينيات، وفي السنوات الأولى لنجاح الثورة الإيرانية، كانت إيران الأعلى صوتا في مناصرة الفلسطينيين ومعاداة اسرائيل وفي الحث على الجهاد لتحرير القدس من دنس الصهاينة. وحين اشتد إوار حربها مع العراق (1980-88)، وأقفرت مخازنها من السلاح، وخشيت الهزيمة، قبلت إيران الخميني شراء السلاح من الشيطان الأصغر (اسرائيل)، بوساطة الشيطان الأكبر (الولاياتالمتحدة)، بينما استخدمت إدارة ريجان الأموال الإيرانية سرا لتسليح مقاتلي الكونترا في حربهم ضد حكومة "الساندنستا" اليسارية في نيكاراجوا (بعد ان حرّم الكونجرس على الإدارة فعل ذلك من أموال دافعي الضرائب) فيما عُرَف، بعد تكشفه في عام 1986، بفضيحة "إيران- كونترا" أو "إيران قيت"! في السياسة، وعند المُلمّات، تأتي المصالح (كيفما يتم تعريفها) قبل المبادئ المُعلنة. والمصالح لا ترتبط عادة بالكيانات الفضفاضة الرغائبية كالأمة الإسلامية، أو العالم الحُر، أو الأمة العربية، أو العالم الثالث، بل ترتبط بالكيانات السياسية المرسومة على الخرائط بحدود معروفة تنشب الحروب بسببها. وقد تكون هذه المصالح تعبيرا عن مصالح "قومية" حقيقية للبلاد، أو قد تنكمش فتصبح تعبيرا عن مصالح ضيّقة للنظام الحاكم أو الطبقة المتنفذة. خرجتُ من المسجد لأجد شمس الخرطوم اللاهبة في انتظاري. وفور خروجي، تبخرت خواطري الفلسفية حول غلبة اللعبة والمصالح السياسية على المبادئ والشعارات، ولم يبق في ذهني إلا سؤال واحد وحيد: هل صلاتي صحيحة؟ وقد اجتمع عليّ اثنان من مبطلات الوضوء: النوم الثقيل وزوال العقل الجَمْعِي! والحمد لله على نعمة النسيان!