[email protected] ---------------------------- (1) لا تغرينك يا هداك الله لفظة السر في العنوان فيصول بك الخيال، فليس عندي ثمة أسرار. وانما عنيت الاعلامي والصحافي الدولي والخبير في مجال النفط الاستاذ السر سيد أحمد، وكتابه (سنوات النفط في السودان: رحلة البحث عن الشرعية والاستقرار الاقتصادي)، الذي انبثق الى الوجود مؤخراً عن (دار مدارك)، فطرّز رفوف المكتبات وزينها. وليس مثل السر من يحدثك عن أشجان النفط في السودان ويوثق لها من ألفها الى يائها. ونفط السودان هو شجن السر وسرُّ شجنه، وقديماً قيل: ويلٌ للشجي من الخلي. (2) السر سيد أحمد هو من أسس مجلة (سوداناو) الانجليزية الشهيرة في سبعينات القرن الماضي. ثم غادر السودان فتولي مواقع قيادية في عدد من الصحف والمؤسسات الاعلامية والاقتصادية العربية والدولية، آخرها مدير وكالة يونايتد برس لمنطقة الشرق الاوسط. ثم عمل لسنوات مستشاراً لبنك التنمية الاسلامي بجدة، ولغيره من المؤسسات المالية. كما أنه باحث متخصص ومحاضر في مجال صناعة النفط، فضلاً عن انه كاتب صحفي تنشر مقالاته العديد من الصحف الكندية والأمريكية. عرفت أن الكتاب شديد التميز وأنه ذي قيمة نوعية عالية منذ أول لحظة وقعت عيني عليه، أذ قرأت في الغلاف: (تقديم الدكتور منصور خالد). ولا شك أنك، أعزك الله، تعرف مثلما أعرف أن حبيبنا هذا لا يقدم لكتاب الا اذا علا سقفه وغلا صنفه ووافى معايير أبي المناصير. وقليل من يرضى عنه منصور في عوالم الكتابة فيعطيه درجة المرور ويقلده وسام العبور. وقد رضي عني الدكتور منصور ذات يوم فكتب في زاويته الراتبة، آنذاك، بصحيفة (الرأى العام) يشيد بقلمي ويزكي احدى مقالاتي، فكان ذلك يوم السعد عندي، ذبحت في صبحه الذبائح وشربت في مسائه نقيع التمر. وأنا أعلم أن موازيني عند منصور ربما خفت بعض الشئ بعد سلسلة مقالاتي الاخيرة بعنوان (دفاتر الديمقراطية الثالثة). غير أن أملي في الله كبير أنه سيراعي عامل الرأفة، ولن يشطب درجاتي عنده قولا واحداً بسبب ما كتبته في تلك السلسلة. أما أنا فلن أخلع الوسام الذي قلدني اياه مهما يكن من أمر. لسان حالي يقول: "والله لا أخلع قميصاً كسانيه أبوالمناصير". (3) يسلط كتاب (سنوات النفط في السودان) أضواء كاشفة على دور السياسة في البحث عن النفط خلال سني الحرب والسلام، ويسعي بجد للإجابة على عدد من الأسئلة الحيوية، وفي مقدمتها: أين ذهب النفط السوداني وكيف تم استغلال عائداته؟ وقد تعرض باستفاضة الى الدور الحاسم الذي لعبه النفط في تأجيج الحرب الأهلية أولاً، كما عطف على الدور الذي لعبه النفط – في مرحلة لاحقة - في الدفع باتجاه السلام، من حيث أنه عزز القدرات العسكرية للحكومة المركزية مما انعكس على ميادين القتال، فكانت لها اليد العليا. وهو الأمر الذي دفع تقرير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) الصادر في فبراير 2001، والذي تبنته ادارة الرئيس الأمريكي جورج بوش لأن تنصح الحركة الشعبية بأن تجنح الى التفاوض المدعوم من حكومات الغرب بغرض الوصول الى سلام عادل واقتسام عائدات النفط، بدلاً من العمل على تعطيل الانتاج وايقافه. وتلك زوايا شديدة الأهمية في تقديري من الوجهتين التاريخية، حيث الدروس والعبر، والاستراتيجية حيث المستقبل المحفوف بالتساؤلات، لم تنل حظها من البحث والدرس المستحق. وبمثلما كان النفط هو وقود الحرب ثم الدافع الأقوى للسلام، فإنه كان أيضاً العامل المحوري الأكثر ديناميكية وراء مأساة الانفصال. ثم تشاء الأقدار، بعد ذلك كله، أن يبقى النفط هو العنصر الرئيس في دفع العلاقات بين السودان ودولة الجنوب نحو تبادل المنافع ورعاية المصالح الثنائية. وقد وقفت لهنيهة أمام عبارة السر سيد أحمد في وصف ذلك الواقع المثير للتأمل: ( .. وذلك بسبب صدفة الجيولوجيا التي وطنت معظم الاحتياطيات المعروفة في الجنوب، وصدفة الجغرافيا التي وطنت المنفذ للعالم الخارجي في السودان). وخلص من ذلك الى أنه اذا استقرت العلاقة بين البلدين على قاعدة المصلحة المشتركة فسيوفر ذلك الفرصة الملائمة لأول مرة لإمكانية البعد عن الآيديولوجيا التي وسمت علاقة الطرفين، والالتفات الى قاعدة المصلحة العامة والخير المشترك. من اللمحات الباهرة في الكتاب إشارة المؤلف الى ان واحدة من المقولات الشائعة في الحياة السياسية السودانية هي أن الشمال عرف عنه نقض العهود، ولكن السر يقدم حيثيات موثقة تقرر أن أول خرق لنص وروح اتفاقية السلام بين الشمال والجنوب جاء من قبل الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة العقيد جون قرنق نفسه. وذلك تحديداً بعد تسعة أيام من تاريخ توقيع تلك الاتفاقية التاريخية. ومن المفارقات أن أول من أشار الى هذا الخرق الوزيرة النرويجية هيلدا جونسون التي لعبت دوراً محورياً وحيوياً في الوساطة وصياغة وتفعيل الاتفاقية. (4) ويعالج الكتاب بشفافية كاملة جذور عدم الثقة بين الشمال والجنوب في الميدان النفطي من منظور تاريخي، فيقرر أنها تعود الى بدايات السبعينات حيث عارضت حكومة مايو فكرة قيام الشركات الاجنبية بالتنقيب في الجنوب، ورفضت انطلاق عمليات شركة شيفرون للمسح الجوي والسيزمي من تلك المناطق. كما أنها أمرت الشركة بنقل رئاستها من ملكال الى المجلد. ولكنه في المقابل يشير الى الشكوك والريب المقابلة عند بعض أهل الجنوب وغياب الإحساس بالوطن الواحد عندهم. ويعرض في هذا الصدد عدداً من الشواهد، منها التظاهرات الشعبية الهادرة في مدن الجنوب ضد خطة حكومة مايو لإنشاء خط أنابيب لنقل بترول الجنوب الى بورتسودان، والمطالبة بأن تكون وجهة خط الأنابيب ممبسا لا بورتسودان. كما يلاحظ السر سيد أحمد أن انطلاق الصناعة النفطية تزامن مع حملة اعلامية غربية مركزة على تهجير السكان من مناطق التنقيب وهدم البيئة، ومع ذلك فأن حقبة اتفاقية السلام مرت دون اهتمام من حكومة الجنوب بمعالجة هاتين القضيتين. بل أن سياسات وممارسات المسئولين في الجنوب، مثل حاكم ولاية الوحدة تعبان دينق، كانت – وكما وثقت منظمة الأزمات الدولية - أكثر وبالاً على مواطني تلك المناطق مما سبقها. (5) كتب الدكتور منصور خالد في وصف المؤلف: (باحث وقاف متمهل لا يورد واقعة الا ويتبعها بدليل، ولا يصدر حكماً الا ويلحقه بإثبات. احترام الكاتب لعقل قارئه خلة عرفتها عن السر سيد أحمد منذ عقود من الزمان خلون ..). وقد صدق وأيم الحق. هكذا عرفنا السر، وهكذا وجدنا الكتاب. نفعنا الله بعلمه، وعلم سيدنا ابوالمناصير، وجعلنا من الذين يتبعون أحسن ما يسمعون وأفضل ما يقرأون. نقلاً عن صحيفة (الخرطوم)