أشهد للكاتب غسان عثمان بالإجتهاد في القراءة والكتابة، والكاتب الناجح هو الذي ينجح في المزاوجة بين الإثنين، فهناك من يقرأ ولا يكتب، فيضيع علينا كثيرا من الحكمة والمعرفة التي يمتلكها، بينما يكتب البعض ولا يقرأ أبدا، وهذا يقول قوله مرة واحدة، ثم يعتاش عليه بقية العمر، تكرارا ومراوحة. كتب غسان عثمان مقالامن جزئين تحت عنوان "شيطنة الإسلام السياسي.. ؟"، الصحافة، الثلاثاء 23-30 يوليو 2013، تمحورت فكرته المركزية في الرد، مرة واحدة، على طائفة كبيرة من الناس، منهم العلمانيين، والليبراليين العرب، ودعاة فصل الدين عن الدولة أو السياسة، وناقدي فكرة وحركات الإسلام السياسي بشكل عام، ويتهمهم بأنهم يعملون على شيطنة الإسلام السياسي وتشويه صورته. وإن كان لي أن الخص اهم افكار المقال بجزئيه فهي تتلخص في الآتي: "إن الدعوة لفك الارتباط بين الإسلام والسياسة، وبمعنى آخر بين الإسلام والحياة رؤية أرثوذكسية، وفعل غير ديمقراطي، بل وغير علماني بالذات. مصادرة رأي من يرى في الإسلام ديناً ودنيا، تكشف زيف حقيقة الحرية والاختيار، وهي تكشف عن تكرار مجند لصالح وعي زائف ومجروح. هذه المجموعات فرطت في استقلاليتها وعملت بالوكالة لصالح مشروعات لا تخصها ولم تنتج في مطابخها. الانتقائية صفة وركيزة في مشروع العلمنة ويعكس ضعف الحالة الثقافية لمن ينادون بها. إن كان الليبرالي العلماني سيختار ما يناسب من الحريات لتشبه واقعه ويقبل بها الناس، فهو بذلك يثبت بأنه لا يملك إلا خيارات ليست له رغم تشدقه بملكيتها. إن مشروع إزاحة «السياسي» من «الديني» لا علاقة له بثقافتنا العربية، ولم تنشأ احتياجاته من داخل بيئتنا الاجتماعية، إنه مشروع قادم من فضاء آخر، ومن ينادي بذلك سارق وبجح للأسف الشديد.". انتهى تلخيصي لأهم حجج الكاتب. كانت مسألة لم الجميع في سلة واحدة، ثم الرد عليهم جملة، هي نقطة ضعف المقال الأولى، فليس هؤلاء على رؤية واحدة أو تصور واحد لعلاقة الدين بالسياسة، بل لهم تصورات ورؤى مختلفة، ومن الصعب الرد عليهم جملة واحدة، واختزال تصوراتهم في فكرة بسيطة ضعيفة يصنعها الكاتب على هواه ومقاسه. هذا أسلوب قديم ومجرب، أن تصنع خصما على هواك ومقاس حججك وأسانيدك، وتصنع عامدا الثغرات التي ستلج منها إليه، ثم تخوض المعركة المصنوعة وتنهال عليه ضربا وتفنيدا، وتخرج منتصرا ومزهوا بنفسك. ويتفق بعض هؤلاء الذين نقدهم الكاتب في إحدى جزئيات طرحه هذا، وهي عدم الحاجة لاستيراد مصطلح العلمانية، لأنهم يعتقدون في وجود مساحة داخل التراث الفكري الإسلامي تسمح بالمجادلة بمدنية الدولة وعدم قداستها أو قداسة مؤسساتها، ببساطة لانها ليست بنت النصوص الدينية، وإنما هي نتاج تجربة المسلمين في شؤون الدولة والحكم، وهي تجربة بشرية في البدء والمنتهى. ثم يبدأ الكاتب حججه ناقدا مصطلح الإسلام السياسي الذي هو عنده من صنع الآخرين، فيقول " أن وصف الإسلام وربطه بالسياسة، لا يخلو من غرض والغريب كذلك أن من أراد بهذه التسمية أن يقول بأن لا سياسة في الإسلام، فعل ذلك وفق رؤية سياسية!" الكاتب يعلم، كما يعلم كل من قرأ حرفا في هذا الموضوع، أن مصطلح الإسلام السياسي مقصود به الحركات والتنظيمات السياسية الإسلامية، بمعنى أنها الحركات السياسية التي تقول إن مرجعيتها هي الإسلام.وهي أطلقت على نفسها مسميات بهذا المعنى، من لدن "الأخوان المسلمين" و"الجبهة الإسلامية القومية" في السودان، أو "جبهة الإنقاذ الإسلامية" في الجزائر، ولم تستنكف ذلك. وبالتالي فإن مصطلح الغسلام السياسي هو وصف للحركات والتنظيمات وليس وصف للإسلام. وهو يعلم أيضا أن هناك مسميات أخرى، تحمل صفة الإدانة، مثل الإسلاموية، اليمين الديني، المتأسلمين. ولأن الكاتب صنع حجة الآخرين قسرا ليرد عليها، فقد قاده هذا للتناقض، الذي أراد ان يسم به الآخرين، فوصف الإسلام وربطه بالسياسة مرفوض عنده، كما القول بأن لا سياسة في الإسلام ايضا مرفوض، فما هو المقبول إذن؟ نقد الليبرالية والعلمانية ومدارسها المتعددة، وعلاقتها بالواقع العربي، ومدى ملاءمتها له، كتاب كبير تتعدد فصوله، وهناك مساهمات ضخمة لكتاب ومفكرين عرب ومسلمين لا حد لها، ويمكن لكل من يريد أن يغرف منها. وتتجه كثير من هذه الكتابات والأفكار لنقد القبول الأعمى لكل نتاج الفكر الغربي، كما تنتقد الرفض المطلق له كمساهمة إنسانية ذات قيمة عظيمة، وتتجه لمحاورة هذه الأفكار ومناقشتها، واستخلاص ما ينفع ويمكث في الأرض، دون أن تحيط أي قداسة بما ينتجه هذا التحاور والتثاقف المستمرين، فهذه طبيعة الأفكار الإنسانية غير المقدسة، رغم عظمتها. ويضع الكاتب غسان عثمان، عمدا او سهوا، العقدة الأساسية في المسألة، ولب المشكلة، وهي محاولة التماهي بين الحركيين الإسلاميين والإسلام، فأي هجوم عليهم هو هجوم على الإسلام، وأي نقد لهم هو نقد للإسلام وللنص المقدس، الذي يملكون مفاتيح تفسيره وتأويله. هو نفسه يقول ذلك في منطقه، صحيح أن منطق الإسلامي المثقف يختلف عن منطق الظواهري او بن لادن أو الشيخ عبد الله بدر أو الشيخ محمد حسان، لكن جوهر الموقف واحد. وفي التجربة المصرية، خرجت حركة الأخوان المسلمين في شكل حزب الحرية والعدالة، وظهر على السطح مثقفون ومتعلمون كثر، يلبسون البدل الأفرنجية ويتحدثون عن الديمقراطية والدستور. ثم ما أن انتهت الانتخابات، وراودتهم أنفسهم بقرب النصر النهائي، حتى خرجت العباءات التقليدية من تحت البدل وصار الخلاف معهم هو خلاف مع الإسلام، وأن الصفوف تمايزت بين المسلمين، ويعنون أنفسهم، وبين العلمانيين الكفرة، وهؤلاء خليط واسع من كل الاتجاهات والأفكار. وصحيح أن الخلاف يدور في الظاهر حول الشرعية وما إذا كان ما حدث انقلاب عسكري أم لا، لكن كان من أدواته أن ظهر سيدنا جبريل يصلي مع معتصمي رابعة العدوية. ورأى الخطباء الرسول الكريم (ص) يقدم الدكتور محمد مرسي ليصلي بهم. كيف يمكن أن تتحاور مع هؤلاء، وما هو المنطق المشترك الذي يؤسس لحوار أو نقاش، دعك من تجربة سياسية مشتركة وتبادل للحكم. ما هي الحجج التي يمكن ان تسوقها لتشكل منطقا مشتركا يقبل بعد ذلك أن يحكم على الاشياء بمدى ملاءمتها مع المنطق او مجافاتها له. القضية الأساسية ليست في أن تكون للأحزاب والحركات مرجعية فكرية إسلامية، أو أنها تستند للقيم والتقاليد الإسلامية، فليس هناك شك أو نقاش في مشروعية هذا الأمر، بل وضرورته، لكن في كون هذه الحركات والأحزاب تعتقد في قدسية طرحها، وفي أن لديها مشروعية دينية تقف فوق المشروعية الدستورية والقانونية. مؤكد أنهم قد يدخلون الانتخابات ببرنامج سياسي، لكن تأتي كثير من المواقف التي تكشف بعد ذلك تكتيكية موقفهم من الانتخابات والدستور والشرعية الانتخابية، فهو وسيلة للوصول إلى السلطة، فقط، ثم بعد ذلك لا يساوي الخرقة التي يمسحون بها الأرض، على قول أحد خطبائهم. يشير الكاتب إلى الأساس التاريخي الماضوي، المفارق للواقع، لموقف هذه المجموعات من تجربة الحركات الإسلامية، ويجعل من التاريخ، وحده، ركيزة موقفهم، وهو أمر يتماشى مع ما ذكرناه حول صناعة الخصم الضعيف. ويقول في إحدة فقرات مقاله: (لاحظ التماهي بين الإسلام والحركات الإسلامية) "فالذي يخشى من الإسلام يستخدم ذاكرة حرجة لتعاقبات سياسية جرت في تاريخنا العربي الإسلامي، ويستشهد لك بالفتنة الكبرى وملك معاوية ومقتل الحسين وانقسام الأمة والمعتزلة وقضية خلق القرآن، والحروب الثقافية بين الفرس والعرب في الدولة العباسية وفي الأندلس وحرب الطوائف وفي الحروب الصليبية،!! يفعلون ذلك دون أن يمنحوا المتهم فرصة الدفاع عن نفسه، بأن تجرب بضاعته ولو ل(4) سنين". يا له من اغتراب يتهم به غسان عثمان خصومه ويمارسه هو نفسه. هو يكتب ما يكتب وعينه على التاريخ القديم الذي يعشعش في ذهنه، صارفا النظر عن الواقع الحاضر، وحتى إن عاد للحاضر، فعينه على تجربة الأخوان في مصر وتونس، من منطلق اقليمي أو عالمي، يفعل ذلك وكأنه كائن فضائي خارجي لاعلاقة له بتجربة السودان. لماذا يريدنا أن نمد أعيننا للخارج وننظر هناك بعيدا، ونغمض أعيننا عن ما نعيشه، وهو الذي نزل في الناس لوما وتقريعا لأنهم يمدون أنظارهم وأفكارهم لتجارب المجتمعات الإنسانية الأخرى، ويصف ذلك بالتقليد والمحاكاة والوعي الزائف. حتى في الخارج فهو يتحدث عن تجارب التاريخ الماضي، ويغمض عينيه عن تجارب حالية ومعاشة، من حروب القاعدة وعملياتها، والجماعات الإسلامية في الجزائر والمغرب العربي واليمن، والجماعات الإسلامية في مصر في الثمانينات والتسعينيات. كل هذا خارج الحسابات، لا يجب الخوف منه واتخاذ العظة من نتائجه، ولأنه لا يراه، ولا يريد أن يراه، وبنفس طريقة صناعة حجج الآخر على مقاسه، فإنه يفترض أن المجموعات الليبرالية والعلمانية وغيرها من روافض مشروع الإسلام السياسي، تبني حججها على التاريخ الماضي، ولا تنظر لتجارب الحاضر، فهي إذن ماضوية، هكذا بجرة قلم واحدة، وكان الله يحب المحسنين. يطالبنا بالصبر على الإسلاميين لمدة أربع سنوات فقط، وأمام عينيه وناظريه وتحت أقدامه تجربة 24 عاما، عشناها معهم/معه، لا يتعرض لها ولا يناقشها، بل ولا يشير إليها. لماذا لا يستخدمها في هذا النقاش كدليل على قدرة الإسلاميين على تفنبد حجج الليبراليين والعلمانيين والقوميين ومن لف لفهم، وإثبات أنهم قادرون على صناعة تجربة محلية ناجحة، لا تمد يدها لتسرق من بضاعة الفكر الغربي الملعون. الإجابة معروفة، وهو كاتب ذكي، ولا داعي للتذاكي على الأذكياء. تثير تجارب ومواقف الحركات الإسلامية، سمها ما شئت من التسميات، مخاوف حقيقية لدى قطاعات واسعة من المجتمع العربي المسلم، وليس بالضرورة عند الليبراليين والعلمانيين وحدهم. هذه المجموعات تشكل تحالفا مدنيا في مواجهة ما يعتقدون أنه هجوم منظم وخطير على مكتسباتهم الأساسية، وعلى نمط حياة مدني ارتضوه لأنفسهم باشكال شتى، ولهذا ستجد في قلب هذا التحالف مجموعات لا علاقة مباشرة لها بالفكر والسياسة، وليس لديهم تأسيس نظري لمواقفهم، بل هم غير معنيين به، بقدر اعتنائهم بنمط حياتهم، ومن بين هؤلاء أناس كثر يصلون ويصومون ويتعبدون ويتهجدون، ويقفون ضد حركات الإسلام السياسي. ولهذا لم يكن غريبا أن تجد المثقفين والفنانين والكتاب والأدباء والإعلاميين ورجال البيزنس والعاملين بقطاع السياحة والحركات الشبابية والنسوية (وفيهن كثير من المحجبات) والأفندية وأبناء الطبقة الوسطى، بجانب الأقباط والمجموعات غير المسلمة وغير المتدينة، إن شئت، يقفون مع الحركات السياسية والشبابية التي اصطفت في 30 يونيو الماضي لتخلع الرئيس السابق محمد مرسي. هذه المجموعات تصطف هي نفسها الآن في تونس لتخلع حكومة حزب النهضة. هناك مواقف ومخاوف ومعتقدات حقيقية لهذه المجموعات ضد حركات الإسلام السياسي، وإن وعى المثقفون والمفكرون من المنتمين للحركات الإسلامية بهذه المخاوف والمواقف، باعتبار أنها مواقف مجموعات مقدرة من المجتمع الذين يريدون ممارسة العمل السياسي الديمقراطي فيه، وحاوروها وتدارسوها كما تدارسوا وراجعوا منطلقاتهم وأفكارهم، فربما يؤسس هذا الأمر لحوار حقيقي يقود لنقاط تفاهم. أما لو استمروا في محاورة أنفسهم وظلالهم، وخلق أعداء وهميين من صنع خيالهم، وانتصروا عليهم بالضربة القاضية، فسوف تذهب السكرة وتأتي الفكرة، ويفتحوا أعينهم من جدبد على واقع لا يعرفونه ولا يفهمونه، والأخطر من كل ذلك، لا يعترفون به، وعندها لا مفر من الصدام، الذي قد يكون نتائجه مرتبطة بعدم وجود الآخر، ايا كان هذا الآخر. Faisal Salih [[email protected]]