[email protected] ( 1 ) كنا عقداً فريداَ منضّدا منذ أيامنا في جامعة الخرطوم أوائل السبعينات من القرن الماضي. برغم انتماءاتنا إلى كليات أكاديمية مختلفة، وتيارات سياسية متصادمة ، واهتمامات توزّعت بين ضروب الرياضة وأنواع الفنون والآداب بشتى ألوانها القزحية، فقد جئنا إلى وزارة الخارجية، تنوء أكتافنا الغضة بأثقال أحلام حسبناها تعيننا على إحداث تغيير العالم من حولنا. كانت أحلامنا كباراً وقد أمضينا أياماً مُفعمات بعزائم التغيير ليس في السودان وحده، بل في جميع أنحاء العالم من حولنا. كانت ثورات الطلاب في القارة الأوروبية تشغل قلوبنا مثلما شغلت عقولنا محاضرات أساتذتنا في جامعة الخرطوم . الشباب في العالم كله في فوران وما كنا بمعزل عنه. جئنا إلى وزارة الخارجية بأحلامنا وباهتماماتنا الكبيرة والصغيرة . الشاب القصير النحيل "حسن حمراي" كان بيننا شعلة من النشاط ، بل كان لهيباً مضيئاً مِن هِمّة مترعة لا تجارى، وحماساً كأنه اندفاع السيل . جئنا إلى وزارة الدبلوماسية وقد ارتأى أكثرنا أن نكبح شطط حماسنا، وأن نعقله مثلما تعقل نياق الشكرية إلى أوتاد خيامها، إذ الدبلوماسية مطلبها الأول التريّث لا الاندفاع ، الحكمة لا التهور. وقفنا وقوفَ متردّدٍ يتهيّب الدخول إلى عالمٍ مجهول ، وأمامنا رجال الدبلوماسية: قامات سامقة وأصوات هامسة وأناقة مُلفتة، فيما لا نعرف إلى كلّ ذلك سبيلا. جئنا إلى فناء وزارة الخارجية نتعثّر في لبوسنا الغرائبي وبربطات ملوّنة متنافرة، لا نعرف كيف نحكم ربطها حول أعناقنا . كنا نتهكّم على بعضنا البعض : مِنّا من كان مثل البلياتشو ! ومِنا من كان مثل لاعب السيرك ! وحده عبدالإله بعشر القادم من لندن من يجيد إحكام ربطة عنقه ويذرع في خيلاء بقمصانه المقلمة ردهات الوزارة . إبراهيم عبدالمنعم عبداللطيف – ود الخرطوم- لايقلّ أناقة عن بعشر. أما نحن: عبدالمحمود والصاوي وحسن حمراي وخالد النصيح وحسن القريقريب، فقد كنا نتعثر في أناقة لا نعرف لها طريقا. ( 2 ) ذلك يومٌ كنّا فيه مثل الطيور الملوّنة، ملابسنا متنافرة وهيئاتنا متباينة. بعد إدماجنا في إدارات الوزارة، أتيح لنا تدريب بعد ساعات العمل ولعلها تلك كانت أمتع ساعات قضيناها معاً ، فتعرّفنا على بعضنا البعض وتوثقت صلاتنا . بعد حصص التدريب في المعهد الكتابي جوار الكنيسة الاثيوبية في الخرطوم 2 ، ندلف إلى مقهى السليماني في سوق "نمرة2" ونقضي ساعات أطول في المسامرات البريئة. أكثر "تريقتنا" كانت على أولاد الجزيرة : "حسن حمراي" و"حسن القريقريب"، و"خالد النصيح" ابن بحر أبيض. . لا تسألني إن كان ثمّة مسئول كبير نافذ قد أوصى لواحد منا للدخول إلى وزارة الخارجية ، أو توسّط له عند لجان الاختبارات التحريرية أو المقابلات الشخصية. كلا. . ! لم نسمع بوساطات، ولم تكن ثقافة "التمكين" من ضمن الثقافات السائدة، ذلك الزمان. جئنا ذلك اليوم وبذات تنافر ألبستنا وهيئاتنا وانتظمنا في قاعة واسعة بجوار مكتب الوزير جمال محمد أحمد. أعدتْ المصاحف لأداء القسم، ولصديقنا "كوال ألور" جيء بأنجيل من مكان قصي فحُلتْ مشكلته. ولم تكن ثمّة مشكلة كذلك لسلوى جبريل الحمامة الرقيقة القادمة من جنوب السودان. ( 3 ) لعب القدر بيني وصديقي "حسن حمراي" لعبات كثيرة أحببتها . في يوم غابر من أيام عام 1976 وقع انقلاب في نيجيريا وصادف أن كنت دبلوماسياً مناوباً واليوم جمعة ، فبقيت أتابع مع ضباط اللاسلكي ما يرد من سفارتنا في لاغوس عن الانقلاب العسكري ومَن ورائه، وطلب منّي كبير الدبلوماسيين بالمكتب الوزاري التنفيذي وهو المستشار آنذاك أحمد يوسف التني، أن أعدّ تقريراً عاجلاً لاطلاع وكيل الوزارة عليه وقد حضر على عجل، قبل إعتماده ليرسل فوراً إلى رئاسة الجمهورية. أنجزتُ المهمة وعرضتُ التقرير على السيد محمد ميرغني مبارك ، له الرحمة والمغفرة، وقد كنا من فرط صرامته نطلق عليه لقباً استلفناه من شريط سينمائي شهير : "الفكُّ المُفترس" ! فاجأني السيد التني بسؤاله لي إن كان لي إلمام باللغة الفرنسية . دهشت للسؤال ولم أكن بالفعل أعرف من الفرنسية غير "ميرسي بوكو" والقبلة الأخرى الشهيرة ! أسرَّ لي التني أن سفيرنا في باريس يلحّ على وكيل الوزارة في طلب سكرتير ثالث يعينه في البعثة . ما تحسّرت على ضياع فرصة للعمل في عاصمة الجمال، بل كان مبلغ حرصي هو أن أكمل مع زملائي فترة التدريب والعمل في إدارات الوزارة، واكتساب خبرة في ديوانها تعين حين ألتحق بسفارة خارجية. ساق القدر تلك السانحة التي لم تكن من نصيبي إلى صديقي حسن حمراي . وبرغم عدم إلمامه بشيء من الفرنسية، إلّا أن وكيل الوزارة لن يضيع الوقت ثانية في السؤال عن اللغات، والسفير السوداني في باريس يلحّ في طلبه. سافر "حسن" إلى باريس وتكشّف له عالم آخر محتشد بكل جميل في عاصمة الجمال. . بعده بأشهر قليلة قادني القدر إلى محطة عملي الأولى في وزارة الخارجية : سفارة السودان في كمبالا. . ( 4 ) تدور السنوات بنا ولانكاد نحسّ بسرعة دورانها، ولكنا استشعرنا كيف صقلتْ التجاربُ الدبلوماسية أعوادنا على قصر فترات عملنا بسفارات السودان، وكيف استحال الاندفاع أداءاً لافتاً قدّرته الوزارة عندَ أكثرنا . حين قُطعتْ مهمتي في الصين، أواسط الثمانينات من القرن الماضي، انتقلت إلى سفارتنا في العاصمة السعودية الرياض. ثانية يجمعني القدر إلى صديقي "حسن حمراي" . هو في جدة نائبٌ للقنصل العام، وأنا قنصل في الرياض. في ذلك الزمان لم يكن قد اكتمل انتقال السفارات الأجنبية من جدة إلى الرياض عاصمة المملكة. تلك كانت أجمل أيامنا معاً برغم المسافات الطويلة ، فقد كنا نعالج ذات الملفات وأحيانا نفس المشاكل ونفس الأشخاص. كنت لاعب وسط وهو في خانة الجناح نتبادل الكرات القنصلية العالية، وصديقي عبد المحمود يراقب اللعب بمريخيته الجامحة. كانت أغلب مشاكل السودانيين وقتذاك ناجمة عن البقاء بعد أداء العمرة فيما اصطلح بتسميته بتعبير سوداني ذكي : " عُمرة وزوغة!" ظلّ "حسن" ريحانة القنصلية العامة في جدة وقد أعانني بخبرته في عكوفي على تأسيس قنصلية فرعية في سفارتنا في الرياض، على أيام السفير الكبير الراحل عيسى مصطفى سلامة. . ( 5 ) تأتي الرياح بغير ما يشتهي السّفِنُ! بعد القضاء على تجربة الديمقراطية الثالثة في 1989، لحقتْ بوزارة الخارجية أيادٍ عاثتْ وعبثتْ كثيراً بأحوالها وبرجالها. ثمّة جهة خارج الوزارة فحَصتْ ومحّصّتْ جميع ملفات العاملين توطئة لعملية "تنظيف" خشنة، ما أدرك العاملون بالوزارة وقتها أنها كالنار تقتات الهشيم، أو هي سياسة الأرض الحروقة، ما أبقتْ إلا مَن رحِم ربّي، أومن غفلتْ عنه عيون "التمكين" في الخدمة المدنية. دفعتْ وزارة الخارجية ثمناً باهظاً إذ لحق البتر بكثيرين لشبهات لا أساس لها من سند ولا منطق مقبول. مَنْ ذهب في زيارة لجمهورية الصين الشعبية وهو طالب صبيّ دون السابعة عشر من العمر ، ومن حمل لقباً لزعيم سوفيتي لأنّ شواربه كشواربه، بل ومن الدبلوماسيات من حضرت حفلاً دبلوماسياً فشوّه سمعتها عضوٌ كبير في مجلس قيادة الثورة، وهي بريئة ممّا أفكوا . مَن ظلمها ذلك الزمان، يلهبه ضميره الآن، فيما هيَ موظفة سامية في منظمة الأممالمتحدة . صديقي محمد آدم عثمان الناشط في المسرح الجامعي وكنا معا في كلية الاقتصاد. . ترى أيّ جريرة سوى أنه مثل دور الحلاج في مسرحية صلاح عبدالصبور على خشبة المسرح الجامعي .. ؟ هو الآن مستشار إعلامي في سفارة قطر في سيؤول. السفراء الكبار جرى شطبهم من الوزارة شطباً ذليلا. عثمان السمحوني. عبدالمجيد على حسن . سيدأحمد الحردلو ، أسماء قليلة يعرفها القراء هنا والقائمة تطول. أعرف سفيراً أحيل إلى الصالح العام ما دخل مبنى وزارة الخارجية إلا بعد نحو ثمانية عشر عاماً، وبعد أن دعاه وألحّ وكيل الوزارة الذي كان تلميذه الذي أخذ عنه الخبرة، حين كان ذلك الوكيل دبلوماسياً ناشئا غضّ الإهاب. رحم الله "عزت بابكر الديب" فقد حمل من اسمه الكثير: عزةً وهيبةً واحتراما. صديقي "حسن حمراي" ابن الشبارقة البار، أخرجوه بنهارٍ لا بليل وقد كان صاحب حقٍ. نافح "حمراي" قدر استطاعته ، ورفع التماساته واحدة تلو أخرى ، ما استجابت له سلحفائية الدولة والوزارة إلا بعد أن بلغ من العمر تسع وخمسين عاماً. ظلمه من ظلمه عمراً كاملاً وأعادوا له ما سلب منه وهو على أعتاب المعاش. عمل "حسن" بعد إزاحته من وظيفته الدبلوماسية، يدير أعمال شيخٍ سعودي قدّر خبرته وقدراته وأعانه "حسن" في إدارة أعماله في بريطانيا وفي اسبانيا وفي البرتغال. لحسن قلم بريع شارك بكتابة مقالات صحفية راتبة في الصحافة السودانية. هذا الرجل الخلوق ظلّ على ابتسامته التي عرفتها عليه منذ أيامنا في جامعة الخرطوم سبعينات القرن الماضي ، ساخراً لا تهزّه عاديات الأيام، حميماً بإحسانه على أسرته الصغيرة ودوداً معنا نحن مَن عرفنا عن قرب معدنه النفيس . خرج من الدنيا الفانية لكنه ترك أريجاً بعد رحيله سيبقى خالداً خلود ذكراه . . تذكرت عند رحيله ما كتب صديقي العزيز دكتور محمد عثمان الجعلي- أسبغ الله عليه ثوب العافية- عن رحيل النوّار. والنوّارُ لغة هوَ نَوْرُ الشجَرِ وزهرُه، ولقد كان "حسن" نَوْرَ شجرةِ الدبلوماسية وعاطرَ زهرها. . . الخرطوم/ الشبارقة 28 أغسطس 2013