صدر في الآونة الأخيرة عن مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي كتاب جديد للسفير الدكتور حسن عابدين تحت عنوان "حياة في السياسة والدبلوماسية السودانية". والدكتور حسن عابدين من القلائل الذين بإمكانهم الكتابة عن المهنتين عن معرفة ، فقد كانت تجربته الشخصية في كليهما من الغنى بحيث استطاع عبر أسلوبه السهل الممتنع أن يفك الكثير من طلاسمهما. والكتاب ، بالرغم من ارتفاع سعره ، لا غنى عنه لأي مهتم بالشأن السوداني فهو من الكتب الممتعة والمفيدة في نفس الوقت. غير أنني لست بصدد استعراض الكتاب في هذا المقال فهناك من هم أقدر منى على ذلك ، ولكني بصدد الحديث عن أمر يتعلق بموضوع مهم احتوت عليه صفحات الكتاب أسماه الأستاذ حسن عابدين "الدبلوماسية الرسالية". أفرد الكاتب جانباً من الفصل الرابع من الكتاب للحديث عن الدبلوماسية الرسالية ، التي وصفها بأنها على عكس الدبلوماسية "الكلاسيكية" تعمل من أجل البلاغ والتبليغ واستقطاب المساندة والدعم للمشروع الحضاري. كان من الطبيعي للدبلوماسية الرسالية أن تختار ممثليها من أبناء وشباب الحركة الاسلامية التي استولت على حكم البلاد في انقلاب عسكري في 30 يونيو 1989 وذلك ضمن ما عرف في ذلك الوقت بسياسة التمكين. من الواضح أن وزارة الخارجية كانت من المواقع التي استأثرت باهتمام "الجماعة" ، فسارعوا بتطبيق سياسة التمكين فيها قبل غيرها وهو ما يجعلنا نتناولها في هذا المقال محاولين توضيح الآثار السالبة التي تركتهاهذه السياسة على أداء الدبلوماسية السودانية فيما أقبل من سنوات وعلى علاقات السودان الخارجية. كنت قد استأذنت للخروج مبكراً من مكتبي بإدارة غرب أوربا ذات خميس ، إذ كان من المحتم على أن اقوم بزيارة سريعة إلى مدينة ود مدني. عندما عدت صباح السبت أحسست وأنا أعبر ممرات الوزارة بإحساس غريب إذ أنني لم أر إلا القليل من الوجوه التي تعودت على رؤيتها كل صباح ولاحظت الوجوم واختفاء الابتسامة المعهودة عن وجوه الكثيرين ممن حييت في ذلك اليوم. سارعت إلى مكتبي الذي لم أجد فيه سوى المدير الإداري بالرغم من أن الوقت كان قد تجاوز السابعة والنصف صباحاً. ولأن موظفي الوزارة اشتهروا في ذلك الزمان بالانضباط فقد سألت عن السبب وراء تأخرهم في الحضور فجاءني الرد من المدير الإداري كالصاعقة يفيد بأن كل الدبلوماسيين العاملين بالإدارة قد تسلموا خطاباتهم عند نهاية مواعيد العمل يوم الخميس ، وكان ذلك كناية عن أنهم قد أحيلوا للصالح العام. عقدت المفاجأة لساني ولم أجرؤ حتى على السؤال عما إذا كان اسمي من ضمن الاسماء التي وردت في قائمة الإحالة للصالح العام. اختارت "الجماعة" القادمين الجدد لوزارة الخارجية من أصحاب الكفاءات "كل في مجاله" على حد قول الدكتور حسن عابدين ، غير أنها لم تهتم كثيراً بضوابط الاختيار في الخدمة الخارجية مما جعل عدداً من هؤلاء غير قادر على التأقلم مع أوضاعه الجديدة. وعندما حاولت وزارة الخارجية بعد عقدين من الزمان معالجة هذا القصور بعقد امتحانات لبعض كبار دبلوماسييها الذين اتضح عبر الممارسة أنهم لا يتقنون اللغات الأجنبية أثار ذلك الكثير من اللغط في الإعلام والتوتر داخل أروقة الوزارة. غير أن مثالب سياسة التمكين لم تقتصر على هذا الجانب دون غيره. فبالاضافة لما لحق بالمحالين للصاح العام من قدامى الدبلوماسيين والإداريين وأسرهم من تشريد وضرر ، فإن معظم من ظل بالوزارة من القدامى كانوا يعيشون حالة من القلق لأن سيف الفصل ظل معلقاً فوق أعناقهم خاصة وأنهم لم يكونوا يختلفون من حيث التدريب وتراكم الخبرات والتوجه السياسي أو عدمه عن الكثيرين ممن أحيلوا للصالح العام. وقد كان هذا القلق بالاضافة لأسباب أخرى وراء حالة الاحباط التي سادت بالوزارة لعدة سنوات بعد ذلك. يقول السفير حسن عابدين في كتابه القيم أن "الدبلوماسي الرسالي" كان رقيباً خفياً على السفير غير الرسالي ، وهو في الحقيقة نفس الاحساس الذي كان يتملك الكثير من الدبلوماسيين القدامى مما أقام حائطاً سميكاً من فقدان الثقة بينهم وبين زملائهم القادمين حديثاً للوزارة. وقد شهدت بعض الحالات التي كان يلوذ فيها أفراد هذا الطرف أو ذاك بالصمت ثم يقومون بتغير موضوع الحديث عندما يدخل عليهم فجأة زميل من الطرف الآخر. ولعل أخطر ما نتج عن هذا الوضع هو قيام عقبة كبيرة أمام انتقال الخبرة بصورة طبيعية وسلسة بين القدامى والقادمين ، فقد كانت جلسات الأنس والسمر العادية بين السفراء والدبلوماسيين عبر تاريخ وزارة الخارجية أهم بكثير من عمل المكاتب كوسيلة من وسائل انتقال الخبرة من المخضرمين للشباب. ولعل أثر غياب هذه الوسيلة الفعالة في انتقال الخبرة يتضح جلياً في الوضع الحالي بالوزارة حيث يشكو المسئولون فيها من تدني الأداء بصورة مريعة. من ناحية أخرى ، فإن القادمين كانوا يحملون في أذهانهم صورة غريبة عن زملائهم القدامى حيث يتصورونهم من العلمانيين الذين يأكلون بيدهم اليسرى وربما يرتكبون بعض الموبقات. في حديث صريح مع أحد القادمين في سفارة عملنا فيها سوياً بالخارج أخبرني الرجل أن من ضمن الواجبات التي كلف بها العمل على الأخذ بيد إخوانه القدامى دون أن يوضح إذا ما كان ذلك في مجال الدبلوماسية الرسالية أم في مجال الالتزام بتعاليم الدين الحنيف. ولا شك أن هذه الفكرة الخاطئة خلفت في نفوس الشباب إحساساً بأنه ليس هناك ما يمكن أن يتعلمونه من زملائهم القدامى الذين يمثلون في نظرهم الدبلوماسية التقليدية ، مما وضع عقبة أخرى أمام الانتقال السلس للخبرات من جيل إلى آخر. ويبدو أن هذا الاعتقاد كان سائداً حتى على المستويات العليا من الإنقاذيين الذين كانوا يبدون تبرماً واضحاً بالدبلوماسية التقليدية ويرون فيها قيداً لا بد من التخلص منه ، ويهزأون ممن يصرون على الالتزام بالتقاليد الدبلوماسية. كان ما ذكرنا أعلاه وراء فكرة الانقاذ باللجوء لمؤسسات بديلة لوزارة الخارجية مثل مجلس الصداقة الشعبية والذي كان الكثير من الدبلوماسيين الأجانب يشيرون لأمينه العام في ذلك الوقت بأنه وزير الخارجية الحقيقي. وقد تفرعت بعد ذلك المؤسسات البديلة بصورة سلبت وزارة الخارجية قوامتها على العمل الخارجي ، بل إن بعض هذه المؤسسات أنشأت داخلها إدارات مماثلة لإدارات وزارة الخارجية ونازعتها على الكثير من الملفات. وقد لجأت الحكومة في وقت من الأوقات لأسلوب كان متبعاً قبل ظهور وزارة الخارجية في القرن السابع عشر الميلادي كمؤسسة تدير العلاقات الخارجية للدولة. تمثل هذا الأسلوب في تكليف بعض الوزراء بملفات العلاقات مع دول بعينها معظمها من دول الجوار. لا أظننا في حاجة لتأكيد مدى خطل هذا الأسلوب الذي لفظه العالم منذ القرن السابع عشر الميلادي ، عندما وضح للحكومة الفرنسية عندئذ أن التنافس بين الوزراء المكلفين بلمفات السياسة الخارجية يضر بمصالح البلاد. ولك أن تتخيل مدى الارتباك الذي يمكن أن يعانيه السفير أو أعضاء السفارة في هذه الدول خاصة وأن التعليمات التي تصلهم من جهات مختلفة داخل الدولة كانت تتضارب في الكثير من الأحيان. وأرجو أن تكون وزارة الخارجية قد تمكنت من استعادة الاشراف على ملفات العلاقات مع هذه الدول المهمة. ومن المسائل السالبة التي ارتبطت بعملية التمكين الجدل الأزلي في مثل هذه الحالات بشأن التفريق بين أهل الثقة وأهل الخبرة. فبينما كانت الوزارة في حاجة ماسة لخبرة القدامي ، فإن أهل الثقة وبالرغم من قلة خبراتهم كانوا هم الأقرب من قيادتها والأكثر تاثيراً في عملية اتخاذ القرار. ولعل ذلك يفسر الاضطراب الذي ساد سياسة السودان الخارجية على أول أيام الانقاذ خاصة وأن الدولة رفعت عندئذٍ شعارات صعبة التحقيق قادت في النهاية لتوتر علاقات السودان مع العديد من الدول المؤثرة في العالم. بل إن علاقات السودان تراجعت مع الكثير من الدول الشقيقة سواء في أفريقيا أو العالم العربي ، مما اضطر البلاد لاحقاً لأن تبذل الكثير من الوقت والجهد من أجل إعادة إعمار علاقاتها مع بقية دول العالم. وإن كانت الحكومة قد تمكنت منذ ذلك الوقت من إعادة بناء روابطها ببعض الدول الشقيقة ، فإن علاقاتها مع العديد من الدول المؤثرة على الساحة الدولية ما زالت تعاني من التوتر. Mahjoub Basha [[email protected]]