الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    وزير التربية والتعليم بالشمالية يقدم التهنئة للطالبة اسراء اول الشهادة السودانية بمنطقة تنقاسي    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    عقار: بعض العاملين مع الوزراء في بورتسودان اشتروا شقق في القاهرة وتركيا    عقوبة في نواكشوط… وصفعات في الداخل!    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    سلسلة تقارير .. جامعة ابن سينا .. حينما يتحول التعليم إلى سلعة للسمسرة    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المرض: علاجاً وثقافة: مقدمة لكتاب الدكتور أحمد الصافي "الحكيم" .. بقلم: د. عبد الله علي إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 17 - 11 - 2013

مقدمة لكتاب الدكتور أحمدالصافي "الحكيم" الذي صدر قبل شهور
بقلم عبد الله علي إبراهيم
لا أعرف كتاباً نطح نطح كتاب دكتور أحمد الصافي الذي بيدك أيها القاريء مثل مخطوطة غائبة للأستاذ عبد الله الشيخ البشير وأبي ابراهيم خوري (الفلسطيني) المدرسين بمدارس الأحفاد الثانوية في آخر الخمسين أول الستين من القرن العشرين. فكتابا د. الصافي والبشير وصاحبه وضعا منهجاً في موضوعهما لتدريس ما لا أذن سمعت ولا عين رأت في ما تواضعنا عليه من مقرارات المدارس. كتب البشير وصاحبه منهجهما لتدريس "الفلكلور" لطلاب الأحفاد من غير سابقة ولا إذن من وزارة المعارف التي لم يطرأ لها اعتماد هذا المنهج حتى تاريخه. وجاء الصافي بالعجب العجاب في هذا الباب. فكتابه مقرر مدرسي في التراث الطبي العريض الذي يتجاوز الممارسات النمطية المعروفة مثل الحجامة والتشليق وغيرها. وضع الصافي منهاجه ليفيد منه الطلاب النهائيون في كليات العلوم الطبية والصيدلية والصحية، وأطباء الإمتياز، وسائر الأطباء. وسيكون تواضع كليات الطب والصيدلة والصحة، وهي كليات حكر "للحداثة" (الطب البيولجي أو الجرثومي)، على تدريس معارف التراث الطبي وتقاليده العلاجية المختلفة، كسباً معرفياً مرموقاً.
دعوة الصافي من وراء كتابه المنهجي هي التأهيل الاجتماعي والثقافي للطبيب الحداثي، المدرب في التقليد العلاجي السائد (أي الطب البيولجي)، ليعلم أن للمرض عواملاً غير عوامل الطبيعة والجراثيم. وتبعأ لذلك صار من الضروري أن يدرس العلوم الإنسانية والاجتماعية ليحسن الوعي بالمريض ككائن اجتماعي.
ظلت هذه الدعوة لردم الفجوة بين الطب البيولجي وبين العلوم الإنسانية شاغل المؤلف منذ زمن الطلب بكلية الطب حيث فاز بجائزة السلمابي لبحث عن الطب الشعبي. ثم كان في ريادة معهد أبحاث الطب الشعبي التابع للمجلس القومي للبحوث في 1981. ثم تبنى نشر سلسلتين هما (تاريخ الخدمات الطبية السودانية) و(رواد الطب السوداني). فالعناية بتجسير الفجوة بين الطب والإنسانيات كما ترى فطرة عند الصافي. وألهمه هذا التجسير للهوة بين الطب البيولجي وطبنا التقليدي الدكتور التجاني الماحي الذي لم يستنكف طرق أبواب أولئك المعالجين ممن أطلقنا عليهم حداثياً "المشعوذين-المشعبذين والدجاجلة". فالتجاني هو الذي أرسى فينا أن المرض ليس حالة للعيادة بل حال ثقافي.
وغاية كتاب الصافي هي تحويل "الطبيب" إلى "حكيم"، أي إلى فيلسوف يخرج من ضيق "الحرفة" إلى رحاب المهنة- الثقافة. فمتى حل تلك الرحاب امتلك عنان المرض لا كحالة تشخيصية في مريض آخر بل كحالة هو نفسه مفردة فيها، كتجربة شخصية، كشريك في الثقافة، ووقتها تتفتح له أبواب الشفاء الناجعة.
أردت لهذه المقدمة أن تكون نظرية عن خطر ما يقترحه علينا الرجل من تحرير للمنهج في تعليمنا عامة من التعويل على الغير واستصغار النفس. وسأراوح عند مفهوم "بيداغوغيا المستضعفين" (علم مناهج المستضعفين) الذي أذاعه المربي الجنوب أمريكي باولو فريري في كتابه حامل المفهوم نفسه كعنوان. وارتضيت هذه السكة حتى ألطف من استفظاع كثير من الناس لمادة الكتاب التي جمعت بين شتيتين، "الدكتور" و"الفكي" نشأنا على ألا تلاقيا بينهما. ولست أرجم هنا. فقد استفظع طلاب مدرسة الأحفاد في الخمسينات الأولى تدريسهم كتاب "طبقات ود ضيف الله"، ب "شعبذاته وخوارقه، على يد الشيخ بابكر بدري. بل وجدت منذ حدثني بهذا الحادث الأستاذ عبد الله الشيخ البشير أنهم لم يكتفوا بالاستفظاع بل ربما حملوا شكاتهم المخصوصة إلى جريدة "الصراحة" التي ناصرتهم بل دعت الشيخ أن يخلد للإدارة بعد عمر طويل في صالح االتدريس. ومرد هذا الاستفظاع أننا تواطأنا على صورة لمنهج، نمطية جداً، وبدا لنا أنها الحكمة وفصل الخطاب وأن مراجعتها إلحاد. فنحول بهذه "الوثنية" مسائل في الثقافة قابلة للأخذ والرد مهما طالت عمامتها إلى حالة "طبيعوية" (naturalness) مقبولة على علاتها. فنزع "الطبيعوية" عن المسألة هو الطريق لتحريرنا من خرافة ديمومتها وعلوها على الجرح والتعديل. وستسوقني هذه المراوحة إلى منشأ مناهجنا التعليمية في ظل الاستعمار وسطوة الغرب واستخذاء غيره.
ولن تجد دليلاً على "وثنية" المنهج عندنا و"طبيعويته" أبلغ من أن مطلب الصافي من كتابه مما سبقنا إليه حتى الغرب رائد الطب البيولجي ذاته بينما نجرر أقدامنا ما نزال دونه ففيه أبواب من معارف الغرب المعاصرة مثل الأنثربولوجيا الطبية-السريرية التي تعنى بتفسير الناس لأسباب المرض وأنماط العلاج والعقائد المحيطة بذلك. وفيه أبواب من علم الاجتماع الطبي الذي يدرس الصحة والمرض في ضوء علاقتهما بالنظم الاجتماعية. وهو كتاب يعد طبيب المستقبل لحادثات في الممارسة الطبية أخذت تعترف منذ عهد طال بتنوع الخبرات الطبية، محدثة وغير محدثة، وبوجوب أن تأخذ الخدمة الطبية بهذه التقاليد جميعاً في ما تعارفنا عليه بإدارة التنوع طلباً للشفاء.
تقع دعوة الصافي لتعريض طلاب علوم الشفاء المحدثة لشيء من التراث الطبي في سياق دعوة قائمة منذ عهد بعيد في الثقافة العربية وفي غيرها لتوظيف، أو استصحاب التراث، في التربية والتعليم. وجرت على لساننا عبارات شتى عن هذا المأزق مثل جدل "التراث والمعاصرة" أو "العصر والأصل" وهي إشكالية مستضعفين وطأهم الغرب واستبخس ثقافتهم وسعى لتمدينهم أي خلقهم على صورته. فلست تجد في الغرب هذه الإشكالية. فتراث الغرب هو معاصرته وأصله هو عصره لأنه ينبوع المعاني والقيم والمعارف. وهذا قريب من نادرة السوداني الذي اكتشف يوم نزوله أمريكا أن الدولار فيها يساوي دولاراً. فالغربي في الجانب الموفق من القيم وما عداه ممعن في الخطأ واستنقاذه تبعة معلقة بذمة الغرب.
لا أعرف دعوة أقدم من تخصيب معاصرتنا بأصلنا. ولا أعرف بالمقابل دعوة لم تبلغ من غايتها شيئاً مذكوراً. فقد طال مداها. واستولى الإشكال على لب حداثييّ العرب والإسلام منذ وقفوا على معارف الغرب وبطشه في القرن الثامن عشر في ما سمي بعصر النهضة العربي. وأوقفوا عليها أقلامهم، ولم يحصلوا على الموزانة بعد. فكلما حسبوا أنهم بالغوها تفلتت منهم وبدت كسراب بقيع. وما كبا حصانهم في البحث عن هذه المعادلة حتى شدوا لبلوغها فرساً آخر. ولكننا ننتهي دائماً ونحن أكثر ضلوعاً في الغرب وأكثر تبخيساً لتراثنا.
ومن أدخل الأبواب لعلم الاستضعاف، الذي يحجبنا عن تراثنا ولو شِمنَاه، هو تشخيص الإسفين الغائر الذي دقه الغرب بيننا وبين تراثنا. فما أفسد خططنا لمزاوجة الأصل والعصر إلا ظن الساهرين على هذه المزاوجة بأن تركيب التراث في الحداثة أمر يسير مقدور عليه. فظنوا إثماً أن في وسعهم التحكم في هذه العملية التي هي في نظرهم عملية ثقافية محض أقدار الثقافات فيها سواسية والفيصل في النفع وبارك الله في من نفع واستنفع. وتجسد هذه السماحة الساذجة في قولنا القائل أن نستصحب من التراث الإيجابي منه وندع السلبي، وهذا وهم. فمن لا يملك قراره مجرد حتى من استحقاق فرز السلبي في ثقافته من الإيجابي. فالمعرفة شوكة وما خلا من الشوكة أصبح في خبر كان ثقافياً. فالغرب ليس معرضاً ثقافياً تأخذ منه حسب حاجتك. إنه بالأحرى "مهمة حضارية" معيارها في ذاتها. وقد عض كاتب ما بنان الندم لأننا بقدر ما انتقدنا الاستعمار الغربي كآلة استغلال جشعة لم ننجح أبداً في نقده كمهمة تبشيرية وجدت مسوغها في هذا الاستغلال. فتجد الحداثيون منا يقبلون نفوذ الغرب متى ما عطل آلته الاقتصادية وركز على الفكر. بينما كره المحافظون منا الغرب لنفوذه الفكري (في حد الصليبية لا غير بينما المهمة أعسر من ذلك) وقلما نظروا في منشأه الاقتصادي.
نقطة البداية الصحيحة لتعاطي الحداثة في التراث أن نعي بغير لبس حقيقة استضعافنا. وهذا ما أسميه ب "علم الاستضعاف". وهو علم أن الرعية على دين ملوكها برغم ما قد تعتقده بأنها ربما كانت خلقاً آخر. فهي تظن أنه ربما كان لها الخيار لتروج من تراثها ما شاءت وأن تأخذ من الغرب ما شاءت. لها دينها ولهم دين. ولكن في تطفل الغرب على أقدس اقداسنا وهو القرآن بتوجيهنا أن نسقط آيات بعينها في نطاق حربه على الإرهاب بيان كاف على ضيق فرصنا في الترويج للتراث. وعلم الاستضعاف لا يغير في حقائق الشوكة التي وصفناها. ولكنه يغرس الوعي بها فنأمن من وهم طال مفاده أن الذي بين التراث والمعاصره هو جدل بينما هو في الحق فروض وجبر. ومتى علمنا حقائق الاستضعاف علم اليقين وناجزنا معارف الغرب بذلك العلم أصبح يقيننا قوة مادية فمن الله علينا: "وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ). سورة القصص، آية 5 - 6.
سوء الظن بالتراث، الذي حٌجبنا عنه برغم المزاعم، أصل في ثقافة الصفوة التي تشبعت بالغرب. فكان طلاق هذه الصفوة عن ثقافة أهلها إيذاناً بتبديدها لإرث لا صلاح للنهضة بدونه. فالإرث الماضي رأسمال رمزي لا يستقيم حوارنا مع المستقبل إلا به. فالماضي إمكانية حتى قال قائل إن الناس حين تنشد المستقبل إنما هي معنية بالماضي قبل كل شيء. فشغف الناس بالمستقبل هو شغف أكثر حذاقة وأرقاً بالماضي. ربما بالغ الرجل. ولكنه نبهنا إلى الكساد الذي ينذر أمة من فئة متنفذة مثل الصفوة تخوض بهم بحر المستقبل بغير مركب من الماضي. فالحس بالتاريخ عند ت س إليوت شامل بحضور الحاضر وماضوية الماضي في آن معاً. وكتاب الصافي في غرضه تنوير طبيب اليوم بإرثه الطبي ضرب شديد من هذا الحس العالي بالتاريخ والمعرفة.
لن نحسن تقدير كتاب الصافي حق قدره بغير الاعتراف بأنه من الكتب التي تأخرت كثيراً. فقد سبق للتجاني الماحي لفت النظر إلى الممارسة الطبية النفسية التقليدية منذ عودته من انجلترا في أوائل الخمسينات من القرن العشرين، بل تعاطى التجاني معها في أول عيادة للطب النفسي أنشأها في الخرطوم بحري مما تطرقت إليه في كتابي "بخت الرضا: التعليم والاستعمار" ثم تبعه بزمن أطباء العظام الذين تعاطوا مع خبراء الجبر الشعبي مثل السيدة بت بتي في أم درمان. ولكن مبادرة التجاني وطب العظام ظلت محدودة بمكانها ولم تشع في الخدمة الصحية. والسبب الجوهري في هذا التعذر أن هذه الممارسة، التي تعاطت مع الطب التقليدي، لم تنفذ إلى مناهج التعليم الطبي. فأصل هذا التعليم وقاعدته هي معهد بخت الرضا الذي أسسه الإنجليز في أول الثلاثينات لوضع نظام التعليم في السودان، وانبنت مناهجه على مبدأ "المناطق المقفولة" الاستعمارية. فقد اتفق للإنجليز أن المجتمع من حول المدرسة قفر من الثقافة. ف "قفلوه" دون المدرسة التي صمموها على أنها نبت وحدها لن يرشح عليها من مجتمعها البدائي العاطل قبساً من علم. فصارت المدرسة، كما وصفتها مرة، "المرأة الحسناء في منبت السوء". وظل هذا التعليم الحديث منبتاً عن ثقافة مجتمعه رغم هرج كثير وطويل عن وجوب أن يقوم تعليمنا في العصر على الأصل. ولكن دون نفاذ "الأصل" إلى مناهج التعليم خرط القتاد. ولا يخاطر باقتحام هذه القلعة الحصينة سوى أفذاذ مثل عبد الله الشيخ البشير وصاحبه والصافي الذي كتابه بيدنا.
ترافق مع تحصن مؤسسة التعليم الحديثة من ثقافة محيطها تطوران في الخدمة الطبية جعلا تربية ناشئة الطب على المأثور أمرأ عصياً أو مستحيلاً. فالتطور الأول هو فشو الجامعات الطبية الخاصة التي لا تدرس سوى الطب وبعض متعلقاته كالصيدلة. وقطعت هذه الحيلة التجارية همزة الوصل الجامعة للطب والعلوم الإنسانية والاجتماعية التي هي مرجعية كتاب الصافي المبذول. ومجافاة الجامعة للإنسانيات والاجتماعيات ظاهرة عولمية مرصودة كتب عنها عالم الاجتماع المرموق تيري إيقلتون (Terry Eagleton)، فقرر حقيقة هذا الطلاق الأكاديمي ووصفه بأنه "موت الجامعة" كما نعرفها. وقال إنه، متى تلاشت الإنسانيات من الجامعة، صارت لا جامعة. فهي جذع كل المعارف الأخرى لا غنى عنها للمهندس والطبيب والحقوقي. فقد كانت الإنسانيات في أصل الجامعة لما خرجت لحيز الوجود. وكانت صمام الأمان لمجتمع رأسمالي استرذل الأعراف. وأسعفت، بملكتها في التأمل والنقد، قيم الأريحية والغيرية واللطف التي كانت تحت الحصار. وختم كلمته بقوله إن الجامعة تحتضر على أيامنا لأن الثقافة المتسيدة ملت النقد الذي هو عصير الإنسانيات. وذاع عن عبد الله الطيب منذ ستينات القرن العشرين قوله إن الجامعة إنسانيات وإنما الطب والزراعة والبيطرة فحرف. وهذا ما جاء عند الصافي نصاً مثل قوله إنه يريد بكتابه أن يخرج الطبيب من الحرفة إلى الرحاب.
التطور الآخر هو طغيان "المستوصف الخاص" و"العلاج بالخارج" والتأمين الصحي العولمي للدستوريين ونظرائهم في الخدمة الطبية بما جعلها امتيازاً مستغلقاً لا ينبش مكنونه إلا المال وتمكينه للطب البيولجي على ما عداه. ناهيك ضربه عرض الحائط بتقليد سمح في الطب أرساه الجيل الطبي في خضم الحركة الوطنية مما تعرفنا عليه بجيل "دكتور داؤد"، وهو جيل تمترس في المستشفى الحكومي واستعلى على العيادة الخاصة رأفة بمواطنيه.
ولا يستغرب المرء، وقد صار عنوان الخدمة الطبية المستوصف والعلاج بالخارج، أن تتباعد الشقة بين المهنة العلاجية وعلم اجتماعها وإنسانيتها. علماً بأنه ما يزال 80 إلى 90 في المائة في مثل بلادنا يعتمدون على الطب التقليدي في حياتهم اليومية، بل نجد حتى في بلد كتيوان 60% من سكانها يراوحون بين الطب البيولجي والتقليدي. بل أن صناعة المساج-الدلك بلغ دخلها 1 فاصل 2 مليار دولاراً أمريكياً نصيب تلك التي استخدمت المساج التقليدي 255 مليون دولار. فحتى المال واجد و"مُبتز" متى أفقنا لخبرة الطب التقليدي فيها.
وتأخرت وزارة الصحة عندنا عن الاعتراف بتنوع التقاليد الطبية ووجوب مصالحتها طالما تأخرت كليات الطب بالطبع. ومن المعيب أن نجافي الطب التقليدي في بلد مثلنا بادر في شخص التجاني الماجي لتقحم "مجاهله" قبل كل الناس بما فيها هيئة الصحة العالمية التي تسهر الآن على الترويج لتنوع التقاليد الطبية وتصالحها. فالصين صالحت بين التقليدين البيولجي والتقليدي منذ 1951 ووثقت لمصالحتهما في دستورها لتلزم الحكومة بمراعاة التنوع الطبي. وصارت هذه المصالحة ديدن الهند التي صارت توزع بذور الأعشاب الطبية على فقرائها لتوفر عليهم كلفة الاستطباب. وسجلت نيوزلندة نحو 600 معالج تقليدي في سجل الأطباء يدفع التأمين الصحي لخدماتهم. وأنشأت غانا إدارة للطب التقليدي في وزارة الصحة الوطنية وأصدرت، بمبادرة من المعالجين الشعبيين أنفسهم، قانوناً لمجلس لتنظيم ورقابة الطب التقليدي. ويضغط هؤلاء المعالجون في جنوب إفريقيا للاعتراف بخدماتهم كطب مغاير.
أطور في هذه الناحية من المقدمة مفهوم "البركة" الذي نعى عبد الله الطيب خلو تعليمنا الحديث منه. فقد ظللت في ملامستي للمثقفين التقليديين من المعلمين والمعالجين أعجب بكيف يسلس الناس قيادهم لهم، يؤمنون بهم، ويرجون منهم. في وقت صارت الصفوة الحديثة، بعد تراخي نفحة الحركة الوطنية عنها، ناس "لحوسات" لا يأتمنها أحد حتى "خشم" الباب. وصارت المدرسة الحديثة بعطلها عن البركة تفرخ "تعليماً" لا "تربية" أو "حرفاً" كما يقول الصافي. وربما استفاد عبد الله الطيب مفهومه عن البركة من أهله في التميراب غرب الدامر. فقد كانوا يسألونه، وهو في خضم التعليم في كلية غردون، إن حوى ما كان ما يتلقاه من معارف فيها "علماً" ويقصدون العلوم الدينية. ووضعوا بذلك أصبعهم على موضع الوجع. فكلية غردون كانت معروفة بالتجهيزي أي أنها معمل لتفريخ خريجين من ذوي الحرف ليعملوا "أفندية" في الوظائف الدنيا بدولاب الدولة تحت الإنجليز. وقد وصفت هيذر شاركي (Heather Sharkey) في كتابها " إلفة الاستعمار" (Living with Colonialism) هذا التوظيف كوجه من وجوه التعاون مع الاستعمار لطبقة تظن أنها عنوان الوطنية التي ناصبت الاستعمار العداء. وإذا كثرت شكوانا من فساد "أفندية" الدولة وجفائهم مؤخراً فقد سبقنا إلى ذلك أهل عبد الله الطيب في معرض تشديدهم على خلو معارف كلية غردون من بركة علم الدين أي التراث. فقالوا لعبد الله الطيب في الثلاثينات البعيدة أن علم غردون يخرج "ناس لحوسات ساكت". فحتى سبنسر ترمنغهام (Spencer Trimingham) صاحب "الإسلام في السودان" وهارولد ماكمايكل (Harold MacMichael)، الإداري المؤرخ المعروف، صاحب "العرب في السودان" عابا على صفوة كلية غردون تجردهم عن أهلهم وتغلغلهم في ذواتهم. وربما أرادا بذلك تسخيف فكرتهم الوطنية.
مأمول العلم الذي يريدنا الصافي بكتابه ان نستحصله أن يرد البركة إلى المثقف الذي تشرد في الآفاق. والبركة عندي هي ما يعتقده الناس في مثقفهم التقليدي-الولي ومن دونه. فالبركة قدرة من الرب، رزق منه، تنزلت في صفوة انعقدت لهم فحولة الوساطة بين الكون والناس. فحبر القرآن الذي ينكتب على ألواح خلوته شفاء للسقيم. وهو قائم بالخدمة متفرغ لها. فهو "أيدو لاحقة" و"يفزع" و"يلحق". ويستغاث به من البلايا: "يا أبو قرون من العيون" وناقل دعوة من أراد الصون من "الحرق والغرق والشرق والسلطان والشيطان ومن لسعة العقرب ولدغة الثعبان". ولا تنقطع البركة في المثقف بموته. فمخلفات حمد ود الترابي ما تزال تعالج مرض السعر موثقة بأهزوجة: "دابي الوعر خصيم السعر" ونداءات أخرى مبثوثة في الكتاب.
مطلب الصافي من كتابه هو رد مهنة الطب إلى البركة. ومن أميز من والى استرداد البركة للمعرفة لندا سميث (Linda Smith) المفكرة من صلب شعب الماروي بنيوزيلندا، في كتابها "تحرير مناهج بحثنا من بوائق الاستعمار". فدعت إلى أن يقف المستضعفون على كيف طالت يد الغرب رؤوسهم. فالغرب ومعارفه هما اللذان يؤطران تجربة الأهالي المعاصرة. فقد أناخ الغرب بكلكله على غير الغرب فزج أهله في الفوضى وجذ عروقهم من تواريخهم، وسيماء أرضهم، ولغاتهم، وعلاقاتهم الاجتماعية وطرائقهم الفردة في التفكير والشعور والتداخل مع العالم. فمدار استنارة أوربا عند سميث هي العرقية اقتصرت من دراسة أنساقنا الثقافية بعقد مقارنات بين "نحن" التي هي الغرب و"هم" التي هي كلنا من الآخرين. فصارت الدولة الصناعية هي المقياس. وصار صناع التاريخ أولئك الذين طوروا أبجديات الدولة من مثل الاقتصادي والعالم والبروقراطي والفيلسوف.
وتشدد لندا سميث على ضرورة أن نمتلك سلاح النظرية بمثل ما يناقش البعض بضرورة امتلاكنا نحن معشر المستضعفين السلاح النووي. فنحن من مضطهدي النظريات الغربية بصورة أو أخرى. فحين تحلل نظريات الغرب ثقافتنا فهي لا تسفر عن تعاطف ولا تتقيد بخلقية. ولهذا دعت إلى ما اسمته ب "البحث المضاد" نقوم بها لثقافتنا وثقافة غيرنا. ولن يكون هذا البحث الطريف بغير نظرية. فالنظرية لا غنى عنها لاكتساب حس بالواقع الذي نعيش فيه وامتلاك افتراضات عنه وحدوس وطرائق وتنمية طرق لاصطفاء ما نراه ونفعله فيه وتبويبه وتحديد أولوياته واضفاء الشرعية على خلاصاته ومعالجة تناقضاتنا وريبنا. فالنظرية توفر فضاء للتخطيط والرمي الاستراتيجي البعيد بما تعيننا على أخذ أكبر أمر مقاومتنا بيدنا. ويمكننا استخدام لغة النظرية سبيلاً لتنظيم فعلنا في الواقع ضبطه ويحمينا. فالنظرية تحوي في باطنها طريقة لوضع الواقع في نصابه.
كتاب الصافي ذكي وبادرة غراء في البحث المضاد. نأمل أن يسعف طلاب العلوم الطبية بوعي مبتكر بالمرض كثقافة لا مجرد "سقطات" صحية. فمتى أطلعوا عليه استردوا أنفسهم من وعثاء غربة "جحر الضب" التي قال أفضل البشر نبي الرحمة إننا سنتبع شيع الكفر إليها متى دخلوها. فقد أزعجني مثلاً قول الطبيب الحديث عن تعافي حالة كان قد رفع طبه الجرثومي يده عنها وتركها لأقدارها: "هذا شفاء معجزة". وهو لا يعرف إنه إنما قنع من الحالة بمقتضي طبه البيولجي بينما ربما انفتحت "الحالة" المئيوس منها إلى طب بديل أغلقت الكلية الطبية الحديثة عندنا أبوابها دونه وانطوت في جحر الضب دون الآفاق الأرحب. ووسعت رحمته كل شيء.
[email protected]
/////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.