في اليوم الأوَّل لاندلاع صفوف الرغيف في الأحياء، اقترح إبراهيم الصافي جولة بين الأفران المتناثرة هنا وهناك في حِلَّتنا؛ وصلنا الفرن الأوَّل ورأينا الصف الثلاثيّ مكتظّاً، وقد حُجزَ الناس بماسورةٍ حديديَّةٍ جَلَس عليها أحدهم مُتجهّماً، كان المسؤول بالتأكيد؛ اتجهنا إليه وكنت أخاطبه بمرحٍ أبله: سلام! حسع دي صفوف عيش جاااادة كدة؟ التَفتَ إليَّ، وردَّ بذات الوجه الصارم الخالي من التعابير (من خلفه اكتظَّت طاولات العيش الخشبيَّة خاليةً إلا من رِدَّةِ الخبز المشتَّتة، ووجوه المواطنين الغاضبة بصبرٍ تتجه إلي)، ردَّ ببرودٍ شديد: آي، دي صفوف عيش، جاااادة كدة. القليل من العيش الزيادة مع طَلَب الفول أنقذَ ليلتنا. أمس الثلاثاء 19 نوفمبر 2013م، وعند أوّل زيارةٍ للدكَّان بعد الظهر في حِلَّتِنا، توجَّهت فتاةٌ بسؤالٍ إلى صاحب الدكّان، وكنتُ أَقِفُ من خلفِها، حول وصول العيش من عدَمِ وصوله! التفتّ إثرَ تحيّة جارٍ فلبيني ظريف يتحدث السودانيّة بطلاقة فلبينيّة، فسَرَح خيالي مع ثقافاتٍ أخرى من الممكن أن تنقذنا من هذه الهاويةِ التي كَبَّتنا فيها حكومتنا العبثيّة، فتذكَّرت الرز! عدت إلى البيت فظُبِطَت شوربة العدس والرز وقُطِّع الطماطم والبصَل وتبارزت الملاعق! قبلَ ذلك، أثناء التجهيز للمبارزة، كنّا نتحدث عن ما أسماه الإعلام "ظاهرة" صفوف الخبز (دائماً ما تُختَرَع لغة لتحجيب المشهد بطريقةٍ ما، ياخ الإنقاذ دي بعد تمشي، يا قول صاحبنا، حندّيها شوالات لغة نقول ليها: شيلي ده معاك برضو لو سمحتِ) قلتُ، أثناء التحضير ظَهَرَ لنا على التلفاز الطاهر التوم وسط مشادةٍ بين مزارعٍ يُمثِّل اتحاد مزارعي الجزيرة وبين مدير البنك الزراعي، ووزير الزراعة جالس في الطرف الآخر؛ ثلاثتنا، أبسفة وقرمبوز وأنا، نجلس قبالة التلفزيون أو "المصنَع" بمصلطح أبسفة (التلفزيون هو أكبر مصنع للغة الحكومة)، نجلس وننصدم عندما يقول مدير البنك الزراعي في معرض التراشق بكرة المسؤوليّة واللعب بها داخل التلفزيون الملوَّن أن مشاكل أخرى من الممكن أن تتسبب في هذه الأزمة! - مثلَ ماذا يا دكتور؟ - مثلاً، آآآآ، من الممكن أن لا يكون المزارع على درايةٍ كافيةٍ بتجهيز الأرض! (في تلك اللحظة، وقَعت الكاميرا على ابتسامة المزارع الساخرة التي تحوَّلت، غصباً عنه، إلى ضحكةٍ هَزهازة). قال أبسفة: (مزارعين) ما بعرفوا (يزرعوا)! طبعاً، طبعاً، ما هُم أصلاً بتاعين مزيكة ولاَّ ونجّارين ولاَّ حاجة زي دي!. في ذات السياق، أخبرنا إبراهيم بأن أحدهم كَتب في الفيسبوك تعليقاً على الصفوف، ولم يذكر اسمه، أنّه فهم، ولأوّل مرة، ما الذي يعنيه مصطلح (المصفوفة). نهايتو! البيحصل ده اسموا سلخ الشاة قبلَ ذبحها عديل كده! لكن الحياة تحت رحمة نظام عقائدي، زي ما بيقول أخونا كونديرا، تُشعركَ دائماً بأبديَّة النظام، وكأنوا الحكومة حتكون قاعدة كده للأبد يعني، رغم معرفتنا التّامة بوهميَّة هذه الفرضيَّة إلا أنها تتسرَّب، تجد طريقها، وتمنحنا الكوابيس والتخبّط واليأس. سأحاول أن أفهم: إن كانت فرضيّة (أبديَّة الحكومة) "مُحطَّمة سلفاً"* ببديهةٍ نلمحها في التاريخ بمجرَّد ذكر كلمة تاريخ: لا وجود لخلود الأنظمة، الشعوب باقية والحكومات تتغيَّر؟! لماذا، رغم اعتباطيّتها، تتسرَّب أبديَّة الحكومات وتخرج مع كلماتنا وتعبيراتنا والشحَّة الحارّة التي تخرج من الصدر عند بروز الضحايا من كلّ مكانٍ في البلاد؟ لأن انهيار الأنظمة يُكرِّسُ لأنظمةٍ جديدةٍ دوماً، ولأن التاريخ يركض بعنفٍ ويكرِّر تبديله للأنظمة بأنظمةٍ أشدّ بطشاً لدرجةِ أن يشهد الإنسان خلال حياةٍ واحدةٍ آلاف الأنظمة تحرث جسده وروحه، يبدو، عندئذٍ، الجحيمُ أبديَّاً، وهي فكرة متداولة تقريباً في جميع الكتب واللوحات والمقطوعات والأغاني التي تصف الجحيم، أو التي عَبَرت إلى هناك. إلى هنا؟!. نعم، أصبح تبدّل الأنظمة يحدث بسرعةٍ مُذهلة، وكأنها الأرض وقد زُلزِلت زلزالها وأخرجَت أثقالها، وعندما أقول الأنظمة فإنني لا أتحدث عن الحكومات فقط، وإنما التغيير الذي يحدث داخل أنظمة تفكير كلّ واحدٍ منَّا، الأسئلة المتلاحقة التي يطرحها الواقع اليوم تفوق سرعة ما كان يطرحه في القرون السابقة بملايين المرّات! إن إيصال رسالةٍ من إنسانٍ إلى آخر على ظهر حصان، تختلف عن رسالة اليوم المكتوبة بلغاتٍ ربطت الأمم وكانت هي (غنيمة الحرب) الاستعماريَّة الطويلة، والمستمرَّة بشراهةٍ أكبر في يومنا هذا، والتي هي لكَابَّة نَفسها بنَفسِها، بإيدها وشديدها، شديدها يكمن في ما تظنّه بنتاً أو ابناً لها، في من يفكِّر ويبدّل أنظمته باستمرارٍ وبلا خوف، بجرأة وشجاعة مسؤوليَّة، وذلك ليس بصعبٍ على بشر. تغيير الأنظمة يصل حدَّه الإيجابي النهائي عندما تُساهم أسئلة الواقع الملحّة في تفكيك سلطة المؤسسات المنهارة التي نعيش تحت رحمتها اليوم؛ المؤسسات السياسيَّة والاجتماعيَّة (الذكوريَّة الأبويَّة) والعسكريَّة والثقافيَّة. المسيطرون على هذه المؤسسات وصلوا خِفة وهشاشة النظام الذي يخدمونه ليخدم مصالحهم؛ تفرَّغت لغتهم من كلّ معنى، وذلك لم يفت على ذكاء الناس.