السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    الديوان الملكي السعودي: خادم الحرمين الشريفين يغادر المستشفى بعد استكمال الفحوصات الروتينية    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    عن ظاهرة الترامبية    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أبيي: خِصاء التفكير الإستراتيجي .. والإرادة الشعبية .. بقلم: عاطف كير
نشر في سودانيل يوم 30 - 11 - 2013


نوفمبر 2013
توطئة:
ضمن قضايا التهميش الكثيرة التي نَهدت الحركة الشعبية لتحرير السودان لمعالجتها إبتداءاً كانت قضية أبيي٬ التي ساهمت٬ وتسَّببت في إندلاع حربين أهلييتين في تأريخ السودان الحديث. إبتناءاً علي تلك القضايا التي شكلت وقودها الفكري والسياسي؛ حاربت الحركة الشعبية/الجيش الشعبي لتحرير السودان٬ ثم فاوضت كل الحكومات الموسومة زوراً بال "الوطنية" التي تعاقبت علي حكم السودان منذ إستقلاله في يناير 1956 وحتي إستقلال جنوب السودان في يوليو 2011. الخصيصة التي جعلتنا نتلبث عند الحركة الشعبية لتحرير السودان هي إختلاف طرحها السياسي في معالجة قضايا السودان القومية عن كل المنظومات السياسية والفكرية والعسكرية "الجنوبية" آنذاك٬ ولكونها الحزب الحاكم الذي يرسم السياسات ويتولي من ثم إدارة دولاب الدولة منذ الإستقلال وحتي تاريخه.
هَفَّ لنا٬ وقضية أبيي تدخل منعطفاً جديداً في طريق اللا عودة بعد الإستفتاء الشعبي الذي قرره دينكا نقوك؛ أن نعيد إستقراء محطاتها الكُثر ونعيد إستنطاق المواقف منها٬ بعد التوقيع علي إتفاقية السلام الشامل كآخر المحاولات الجادة لحل المعضلة السياسية في السودان من ناحية٬ وكحل مغاير لما سبقه من حلول٬ حملت لواءه الحركة الشعبية/الجيش الشعبي لتحرير السودان من الناحية الأخري. يحدونا أمل في إستنكاه أين تنكبت الطريق بعد تسونامي الغياب في يوليو2005 وكيف لها أن تَستَصِح من العلات في طريق الهداية إلي صراط الطرح السياسي المستقيم.
إذن٬ إستعراض المواقف وتأثير غياب الراحل المقيم علي مسار٬ وإغتراب الحركة الشعبية وجهازها التنفيذي عن٬ قضية أبيي هي الموضوعات الرئيسة لهذه المقالة.
كورنولوجيا الموقف من القضية:
بعد أن تَساوت موازين العجز والقوة الأيديولوجية والعسكرية بينهما؛ وبعد أن أعيت المجتمعين الإقليمي والدولي الخصومة والحوار العنيف الذيْن إستغرقا جنوب السودان والحكومات المركزية من ناحية في الحرب الأولي٬ والحركة الشعبية والمؤتمر الوطني في الحرب الثانية٬ إنتهي الطرفان إلي التوقيع علي المساومة التأريخية والتي أُشهرت علي العالمين في التاسع من يناير 2005 فيما عرف بإتفاقية السلام الشامل. تَضامت عوامل عديدة موضوعية وذاتية أسهمت في الوصول إلي ذلك الإتفاق/المساومة. العوامل الموضوعية تجلت في مساهمة ومعاناة شعوب المناطق المهمشة بشكل مباشر٬ خوض الحرب٬ وبشكل غير مباشر٬ تفويض الحركة التفاوض نيابة عنهم لإسترداد حقوقهم السليبة وعلي رأسها الحق في الحياة. أما العوامل الذاتية فتمثلت في الكُلفة الباهظة لفاتورتي الحرب البشرية والمادية سيما بعد الإنقلاب الذي تولاه بالرعاية الدكتوران رياك مشار ولام أكول في بداهة التسعينات من القرن الفائت والذي مثل نقطة تحوّل جذرية في مسار الحرب بين طرفيها بعد أن وَشتهُ الصفة والصبغة الدينيتين٬ ما أنهك الطرفين للحد الذي تساويا فيه في العجز٬ هذا بالإضافة إلي دخول البترول كعامل جديد في اللعبة وتأثيره السلبي في تبدُّل قواعدها في السابق وحتي هذا الآن من تسطير المقال.
علي غرار النيابة التي أوكلها شعبي جبال النوبة والفونج لقيادة الحركة الشعبية للتفاوض عنهم٬ كذلك فعل شعب دينكا نقوك في مؤتمر شهير عقد في منطقة أقوك في الربع الأول من 2003 بعد الإختراق الكبير الذي أحدثه التوقيع علي بروتوكول مشاكوس في يوليو 2002 والتنصيص فيه علي حق شعب جنوب السودان لممارسة تقرير المصير من جانب٬ واللغط الذي فجره موضوع حدود جنوب السودان وإعتراض المؤتمر الوطني علي إدراج الحركة الشعبية لتحرير السودان لموضوع المنطقتين (جنوب النيل الأزرق وجبال النوبة) من الجانب الآخر. الضغوط الكثيفة التي تعرضت لها قيادة الحركة من أبناء تلك المناطق٬ جعلها تلجأ للإجتماع بمواطني تلك المناطق طلباً لتفويضها التفاوض نيابة عنهم. وإلتفافاً علي حَرَن المؤتمر الوطني وإعتراضه علي مسألة حدود 1956 وبعد أن كادت تتسبب في إنهيار المفاوضات؛ أُلحقت قضية أبيي بموضوعة المنطقتين وأطلق عليهم المناطق الثلاثة. أُسوة بالحركة الشعبية لتحرير السودان؛ ذهب المؤتمر الوطني إلي الطواف بتلك المناطق بغرض الحصول علي تفويض شعبي بيد أن التفويض كان من الأولي. تأسيساً علي ذلك التعاقُد مضي أبناء دينكا نقوك كغيرهم من أبناء وبنات المناطق المهمشة في شمال وجنوب السودان إلي إعمال مساهماتهم السياسية والعسكرية علي حد سواء إلي أن تحققت المساومة التأريخية آنفة الذكر. توفر جنوب السودان والحركة الشعبية بموجب ذلك الإتفاق علي مكاسب حقيقية تمثلت في سلطة ذاتية حقيقية (حكومة٬ برلمان٬ نظام قضائي ومالي بالإضافة إلي جيش مستقل)٬ فشلت الحركة الشعبية وحكومتها في إستغلال تلك السلطة لحل الكثير من القضايا الخلافية بينها والخرطوم وعلي رأسها قضية أبيي أثناء الفترة الإنتقالية وبعدها كيف فعلت؟!
عقب أداؤه القسم نائباً أولاً لرئيس الجمهورية وقبل تكوين المؤسسات القومية؛ كانت قضية أبيي (رفض المؤتمر الوطني لتقرير الخبراء) أولي الملفات التي سينظر فيها الراحل قرنق٬ 14 يوليو 2005 ٬ ولكن طالته يد المنون قبل أن يُعمل نظره الثاقب لحل الإشكال٬ وكاد الرحيل من فرطِّ هوله أن يعصف بوجود الحركة نفسها ناهيك عما عداها من قضايا. هِزة غياب قائد ومؤسس الحركة الشعبية لتحرير السودان كانت الحدث الأبرز بعد "إنقلاب" الناصر الذي كان وخلف ورائه وميض نار؛ إستغله الإنفصاليون الجنوبيون قبل نظرائهم الشماليين. بالنسبة للجنوبين كان الغياب سانحة لتحوير مسار وأهداف الحركة القوميين وجنوبتها بدلاً عن ذلك؛ أما الشماليين فتراءي لهم حلول أوان النكوص عن الإتفاقيات وتعزيز تقزيمها لمحض حركة جنوبية غير مؤهلة للنظر في٬ والمشاركة في قضايا السودان القومية٬ مما كان له أثر بارز في توجهاتها وسياساتها في السنوات اللاحقة للرحيل٬ علي الرغم إجتهاد الكثير من قياداتها لإثبات بقائها علي ذات الصراط الذي إستهلت به نضالها. عندئذٍ بدأت متاهة قضية أبيي في دهاليز الحركة الشعبية إذ لم يكن لديها٬ الحركة٬ لاحقاً أية رؤية إستراتيجية لحل إعتضال القضية المتزايد بخلاف منهج "ردة الفعل" reaction للفعل الذي يأتيه "الشريك" في حكومة الوحدة الوطنية الواحدة٬ والجار الشمالي لدولة جنوب السودان المستقلة بآخرة٬ مما سنأتي عليه تباعاً في هذا المقال.
رفض المؤتمر الوطني تقرير الخبراء بحجة تجاوزهم للتفويض الممنوح لهم في "تحديد مناطق مشيخات عشائر دينكا نقوك التسعة" علي الرغم من إتفاقهم إبتداءاً علي "نهائيته وإلزاميته" في بروتوكول أبيي ذاته! وأول القصيدة كفر. أُحيل النقاش حول موضوعة تجاوز الخبراء لتفويضهم إلي إجتماعات اللجنة السياسية المشتركة التي كونها أول إجتماع للمكتبين٬ السياسي للحركة الشعبية لتحرير السودان والقيادي للمؤتمر الوطني في 2006 ٬ حيث إتفق الطرفان علي تحديد عدد من الآليات والمسارات قبل الإلتجاء إلي التحكيم الدولي بشأنها كآخر الخيارات المتاحة لهما. إنهزمت تلك الآليات عندما أعيت المفاوضين عن الطرفين الحيلة وترتب علي ذلك العِياء فشل إنعقاد الإجتماع الثاني لذات الآلية٬ المكتبين٬ في 2007 ليبقي الخيار الأخير٬ الذهاب تواً إلي التحكيم الدولي.
في الربع الأخير من أكتوبر 2007 إنسحبت الحركة الشعبية لتحرير السودان من كل مؤسسات الشراكة وآلياتها بما فيها حكومة الوحدة الوطنية إحتجاجاً على تباطؤ الشريك فى، وعدم رغبته تنفيذ الإتفاقية. ودعت مكتبها السياسي للإنعقاد بجوبا فى الفترة من 4 إلي 11 أكتوبر 2007؛ وأسهبت في دراسة أسباب ذلك التباطؤ وعدم الرغبة في التنفيذ وإنتهت إلي إتخاذ العديد من الخطوات بعد إعلانها الأزمة أزمة وطنية منها تكوين لجنة لإدارة الأزمة الوطنية SPLM Crisis Management Team CMT٬ إرسال خطاب من رئيسها لرئيس المؤتمر الوطنى٬ رئيس الجمهورية٬ تقترح فيه سبل الخروج من الأزمة٬ مناشدة الشعب السودانى لدعم قرار إحتجاجها لحماية إتفاقية السلام الشامل وإجراء إتصالاتها بدول الإيقاد، الأمم المتحدة ومنبر شركاء الإيقاد للإضطلاع بدورهم فى دعم تطبيق الإتفاقية. حُسم الخلاف بالتوقيع علي مصفوفة وإصدار قرارات جمهورية٬ ديسمبر 2007 ٬ تضمنت جداول ومواقيت زمانية للحلول التي تواضع عليها الطرفين؛ أما أزمة أبيي فلم تراوح مكانها بفضل النزعة الأكاديمية التي تمتع بها الدارِسة والباحِثة من قيادات الحركة الشعبية في المنهج الإنفعالي الذي أداروا به تلك الفترة دون أن تهديهم دراساتهم وبحوثهم إلي التوصل إلي مرحلة جديدة بذات النظر الذي أعمله الراحل في التنظير لمشروع السودان الجديد٬ وبحث ونظر كل الإحتمالات التي قد تنجم عن النضال الشعبي الذي تقاودته حركته. تلك كانت الدليلة الأولي لتأثير الغياب وتراجع المقاصد النهائية إن لم نقل توهانها.
إنتقال الملف إلي محكمة التحكيم الدائمة Permnant Court of Arbitration PCA شكل نقطة تحول جذري في مسار القضية إستوجبت تعاطياً إستراتيجياً مختلفاً يوازي التطورات التي قد تنجم عن قرار تلك المحكمة وعن ممارسة إستحقاقات إتفاقية السلام الشامل اللاحقة كالإنتخابات العامة وإستفتاء جنوب السودان٬ وهي إستحقاقات كانت علي مرمي حجر من نهاية الفترة الإنتقالية. بدلاً عن ذلك التعاطي تَحنَّط التفكير الإستراتيجي للحركة الشعبية وحكومة الجنوب عند محطة الإحتكام دون غيرها إلي ما بعدها مما وصفناه سابقاً التعامل بردة الفعل٬ الأمر الذي شجع المؤتمر الوطني علي التعامل الإنتقائي مع ملفات الإتفاقية كيفما إتفق هواه. علي أيٍّ٬ أصدرت المحكمة قرارها٬ يوليو 2009 ٬ وعلي الرغم من تحامله علي دينكا نقوك إلا أنهم كانوا به راضون٬ وذهب الوطني إلي إعادة "الخرخرة" وفشلت الحركة الشعبية وحكومتها في تحشيد الرأي العام الدولي والإقليمي وتعبئتهما لحمل الخرطوم علي الإلتزام بتعهداتها وبإحترام قرارات المؤسسات الدولية.
إذعان الحركة الشعبية لتحرير السودان وإستكانتها لتلك "الخرخرة"؛ حمل الطرف الآخر إلي إعمال فكره وخططه بصرف النظر عن إستراتيجيتهما من عدمه لخلق واقع يتماشي مع أهدافهم طويلة المدي٬ فذهب إلي تسليح قبائل المسيرية علي المستوي الشعبي لتأمين وحماية ما سينجزونه علي المستوي الرسمي أو العسكري من ناحية٬ ولحماية٬ والدفاع عن أنفسهم٬ المسيرية٬ في صراعهم التقليدي ضد عشائر دينكا نقوك من الناحية الأخري. عليه إستباحت القوات المسلحة السودانية المنطقة في مايو 2008 وقتلت من قتلت٬ وشردت من شردت في إطار خطة الإزاحة القسرية الممارسة علي شعب دينكا نقوك. ويقمن بنا أن نؤكد أن نجاح المؤتمر الوطني في إستدراج الحركة الشعبية وحكومتها في معارك هو من يختار سوحها وتوقيتاتها غير آبهٍ بال "شويتين بتوع" المجتمع الدولي والإقليمي التي لا تتجاوز الإستنكار والإدانة٬ هو ما جعلها في موضع لا تُحسد عليه الآن بعد أن إستقل الجنوب ودان لها حكمه بالكامل وما درت في أي الإتجاهات تمضي.
يؤكد هذا الظن إستهمام الحركة الشعبية المرحلي للقوي السياسية السودانية بما فيها المؤتمر الوطنى نفسه إلى التلاحى حول أجندة وطنية التى إقترحتها إرتأت فيها منجاة من سيطرة المؤتمر الوطني علي مفاصل الدولة٬ وهي وصفة لتفكيك دولة الحزب من خلال العمل السياسي مهرها بتوقيعه الراحل قرنق في إجتماع قيادة التجمع الوطني الديمقراطي بأسمرا ديسمبر 2002. شملت تلك الأجندة خمس قضايا هى: 1) المصالحة الوطنية وتضميد الجراح، 2) التحوّل الديمقراطى، 3) أزمة دارفور، 4) الإحصاء السكانى والإنتخابات و5) حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان والمشورة الشعبية، تَمنَّع الوطنى وشاركت البقية. بعد إطلاعه على مخرجات ذلك الإجتماع عمد الوطنى إلى تجاهل، وعدم تنفيذ ما تواصت عليه الأحزاب فتنادت الأخيرة تقودها الحركة الشعبية لمرة ثانية للبحث فى سبل حمل الوطنى إلى الخضوع إلى رغبة القطاع العريض الذى تمثله تلك الأحزاب. التنادي والدعوة التي قررتهما الحركة الشعبية لتحرير السودان لم تكن دعوة يسندها تفكير وعمل إستراتيجيين٬ بل كانت دعوة تستهدف إيجاد حلول آنية لراهن المرحلة الإنتقالية. أما القوي السياسية السودانية آنذاك كانت زاهدة في٬ وعاجزة عن التغيير وغير مستعدة له بالكامل فموقفها السلبي من إتفاقية السلام إبتداءاً والطريقة التي تفاعلت بها مع تطبيق بنود تلك الإتفاقية٬ هذا بالإضافة إلي الإستهبال السياسي٬ إن لم تكُ الإنتهازية عينها٬ الذي تعاملت به مع دعوة الحركة الشعبية لعقد مؤتمر كل الأحزاب السياسية السودانية. يشهد علي ذلك زيارة حزبيين كبيرين٬ الأمة والشعبي٬ مدينة جوبا٬ سبتمبر 2009 ٬ عندما تم تأجيل تاريخ إنعقاد المؤتمر٬ من 11 15 سبتمبر إلي 2630 سبتمبر٬ بسبب رغبة المؤتمر الوطني المشاركة فيه٬ موقف الحزبين أجليناه في مقال سابق عَنناه "الذين يتحدثون عن وحدة السودان منافقون يوليو 2010". ذهبت القوى السياسية إلى تقديم مذكرة إلى رئيس وأعضاء المجلس الوطنى الإنتقالى تحثهم فيه على إجازة القوانين المتعارضة مع الإتفاقية والدستور القومى الإنتقالى لتحقيق التحول الديمقراطي المأمول وإجازة قوانين إستفتائي جنوب السودان وأبيي بالإضافة إلي المشورة الشعبية لمنطقتي النيل الأزرق وجبال النوبة. وبدلاً عن التعاطى الإيجابى مع ذلك الموقف، نشرت الحكومة آلتها القمعية فى شوارع الخرطوم وأوصدت كل الطرق المؤدية إلى البرلمان وأعتقلت من أمامه فى 7 ديسمبر 2009 الامين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان ورئيس كتلتها البرلمانية وعدداً مقدراً برلمانييها ودستورييها. من ثم٬ وتحت وطأة الضغط أجاز المجلس الوطنى الإنتقالى فى 29 ديسمبر 2009 ثلاثة قوانين هى إستفتاء جنوب السودان، إستفتاء منطقة أبيى والمشورة الشعبية وفي البال شية من حتي.
الدليلة الثانية علي نجاح المؤتمر الوطني في جرجرة الحركة الشعبية لمعارك هو من يقرر مكانها وزمانها وبالضرورة الهدف من إفتعالها٬ إنتقال الصراع والخلاف من ساحة البرلمان إلى أخرى هى ساحة مفوضية إستفتاء جنوب السودان بسبب عدم الإتفاق على مؤسساتها وهياكلها الإدارية لإصرار المؤتمر الوطنى على السيطرة عليها بهدف عرقلة إجراء الإستفتاء نفسه. بالإضافة إلى لجوئه إلي آخر كروت اللعبة التى بحوزته، المليشيات الجنوبية المسلحة لزعزعة الأمن والإستقرار فى جنوب السودان بهدف الإطاحة بحكومته وتهيئة المجتمع الدولى والإقليمى لقبول فكرة تأجيل الإستفتاء عن موعده المحدد بدعوى عدم تهيؤ الجنوب والجنوبيين لممارسته. قمين بالذكر أن أحد قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان كان قد ناقش٬ وإتفق علي فكرة تأجيل إستفتاء جنوب السودان مع المبعوث الأمريكي سكوت غريشن حينها حفزه في ذلك القرارات الشبيهة التي إتخذها في قضايا مصيرية دون الرجوع إلي قيادته عند ترأسه لواحدة من أهم لجان الشراكة في الفترة الإنتقالية. مهما يكن من أمر٬ أُلهيت الحركة الشعبية بتلك المعركة وركزت كل جهودها لكسبها٬ وفي لا وعيها إرجاء معركة إستفتاء أبيي إلي حين!! وأيضاً دون تفكير إستراتيجي يطوق ذلك ال "حين" بسقف زمني أو بناء خطوات إستراتيجية تجسر المسافة الزمنية تلك لضمان نتائج محسوبة العواقب. وعلي الرغم من أن قانون الإستفتاء٬ جنوب السودان٬ سالف الذكر نص٬ "المادة 67 الفقرة 3"٬ علي إجراء مفاوضات حول القضايا التي تعقب إجراؤه وتترتب عليها تبعات في حالة التصويت لصالح الإنفصال٬ بالإضافة إلي ما علق من بنود إتفاقية السلام الشامل٬ لم تتجاسر قيادة الحركة الشعبية علي إجراء عصف ذهني جاد يوفر حلولاً لما أُستعلق عمداً من قضايا٬ ولا تلك التي قد تنجم عن إجراء الإستفتاء٬ غير التفاوض المفتوح حولها. لمرة أخري تصدرت أبيي تلك القضايا٬ وبينما الطرفان يتباحثان تلك الترتيبات؛ غَذَت للمرة الثانية القوات السوادنية تدعمها مليشيات المسيرية المنطقة في مايو 2011 ٬ لتُثبت ختل المعالجة التي تفتق عنها العقل الجمعي للحركة الشعبية حيال قضية أبيي وهي أن يضمن الجنوب إستقلاله أولاً ويمكنه من ثم التعامل مع القضية بالجدية المطلوبة علي الرغم من إجتياح السودان للمنطقة بهدف عرقلة إستفتاء جنوب السودان نفسه.
إستفتاء جنوب السودان .. إستقلال منقوص:
إستقل الجنوب وإحتل مقاعده في المؤسسات الإقليمية والدولية ومنطقة أبيي لما بعد مستلبة٬ مستباحة وعالقة في إطار سيادة مشتركة بين الدولتين. فرضت المشاكل الإقتصادية التي واجهت دولة جنوب السودان المستقلة حديثاً ظلالها السالبة علي الدولة الجديدة وعلي مستقبل تطور توجهاتها ونموها الإقتصادي والكيفية التي تعالج بها تحدياتها لا سيما في ظل جيرتها لدولة السودان بنظامها السياسي الراهن. فبينما الدولة الجديدة تتحسس طريقها حاول الجار الشمالي٬ ولا يزال٬ إقعادها عن التطور الإقتصادي والسياسي الطبيعي بشتي السبل لمعاقبة شعب جنوب السودان علي إختيار الإستقلال٬ وإستجابة لذلك حصرت الدولة٬ في ظل غياب تام لحزبها الحاكم كمؤسسة٬ تفكيرها الحالم في حسم ملف خلافاتها مع الخرطوم دون رؤية واضحة تضمن لها الإنتباه لمشوارها الطويل في بناء الدولة الأمة ودونكم عامان من التفاوض والمباحثات وجزء عزيز من الوطن وثرواته ظلت مرتعاً لقراصنة العصر الحديث وفُتُّواته.
تأزمت العلاقة بين الخرطوم وجوبا عقب دخول الجيش الشعبي لتحرير السودان منطقة فانطو/هجليج التي يدعي الجنوب السودان تبعيتها له claimed area بما حمل المؤسسات الإقليمية والكونية إلي إستصدار خارطة الطريق٬ مجلس السلم والأمن الإفريقي أبريل 2012 ٬ والقرارات الدولية٬ مجلس الأمن الدولي 2046 ٬ وأيضاً كانت أبيي أحد القضايا الأربعة التي سورها مجلس الأمن في قراره المشار إليه. خارطة الطريق التي صممها وإعتمدها مجلس السلم والأمن الإفريقي في إجتماعه رقم 319 في أبريل 2012 حملت جديداً لم يعهده الطرفان المتخاصمان. إختلفت اللغة التي صدر بها بيان مجلس السلم والأمن عن تلك اللغة المناشدة والحاثة التي ظل يتوسل بها للبلدين لتحكيم صوت العقل وإستشعار مسئوليتهما في حماية الأسرتين الإقليمية والدولية. عليه ألزمت الخارطة الطرفين الإقبال علي القضايا المطروحة بينهما وفق سبع خطوات إجرائية (الفقرة 12) مع تحديد قاطع لماهية تلك القضايا (الفقرة 13) وهي مزيج من القضايا العالقة من تنفيذ إتفاقية السلام الشامل (ترسيم الحدود والوضع النهائي لمنطقة إبيي) وقضايا ما بعد الإنفصال (البترول ووضع مواطني الدولة في الدولة الأخري). علي أن أغلب تلك الخطوات الإجرائية تعلقت بتفعيل آليات لتنفيذ ما تم الإتفاق عليه سابقاً قبل إعلان إنفصال٬ وإستقلال جنوب السودان في يوليو 2011. ويمكن تلخيص تلك الخطوات في ثلاث مسائل أساسية هي الوقف الفوري للعدائيات بين البلدين وإلتزامهما الرسمي لمفوض الإتحاد الإفريقي بذلك٬ الإنسحاب غير المشروط للقوات المسلحة للبلدين إلي جانب حدودهما وفقاً للإتفاقيات المبرمة بينهما و وقف دعم وإيواء المجموعات المعارضة لبلد ضد البلد الآخر.
من ناحية أخري فإن مجلس السلم والأمن الإفريقي لما يشأ أن تفرض أي من الدولتين إرادتهما علي إستئناف التفاوض بينهما فنص في البيان الذي سلفت الإشارة إليه علي الإستئناف غير المشروط للتفاوض علي أربعة قضايا وفق إطار زمني معروف (ثلاثة أشهر). طالب فيها٬ فريق الإتحاد الإفريقي بإحاطته علماً بسير التفاوض بل وتقديم مقترحات تفصيلية لحل القضايا الخلافية التي حددها إن فشل الطرفان في معالجتها خلال الفترة المسموحة بغرض تبنيها وإحالتها إلي مجلس الأمن الدولي لتنفيذها وفقاً لبرتوكول مجلس السلم والأمن والميثاق التأسيسي للإتحاد الإفريقي. ما الذي جاء به مجلس الأمن الدولي في قراره رقم 2046 بعد أن إعتبر الحالة بين السودان وجنوب السودان تشكل تهديداً خطيراً للسلم والأمن الدوليين؟ تبني خارطة مجلس السلم والأمن الإفريقي كما جاءت وكلف الأمين العام للأمم المتحدة بالتشاور مع فريق الإتحاد الإفريقي٬ رئيس منظمة الإيقاد ورئيس الإتحاد الإفريقي بتقديم تقرير للمجلس عن سير التفاوض الذي حدد 2 أغسطس للطرفين للتوصل إلي إتفاق.
بينما إستعصمت جوبا وعلي مدي ثلاثة أشهر٬ 2 مايو 2 أغسطس٬ الفترة التي حددها مجلس الأمن الدولي للبلدين للتوصل إلي حل نهائي لكل ما إختلفا عليه من قضايا بما فيها أبيي٬ بموقفها التفاوضي القاضي بإتفاق شامل أو لا إتفاق؛ كان موقف الخرطوم إنتقائياً إشترط الإتفاق علي الترتيبات الأمنية أولاً أو لا إتفاق. ولتليين موقف الخرطوم المتطرف ذهبت جوبا إلي إيداع مقترح حل متكامل one package لكل القضايا العالقة بين البلدين بما فيها أبيي٬ إلي زيادة حجم المساعدات المالية الإنتقالية Transitional Finacial Assistance TFA من 2,6 مليار دولار التي حددها International Monotoring Fund IMF لسد العجز المالي لحكومة السودان الذي سببه خروج عائدات النفط من ميزانيته عقب إستقلال جنوب السودان٬ إلي 3,028 مليار دولار بالإضافة إلي إعفاؤه٬ السودان٬ عن قيمة البترول الذي تمت "سرقته ومصادرته"٬ بل والإشتراك مع السودان في قيادة حملة دولية لإعفاء ديونه الخارجية . إتخذ المفاوض الجنوبي كل تلك الإجراءات بشكل آحادي دون أن يحصل علي ما يقابله من المفاوض السوداني وسكت عن الإجابة علي التساؤلات الإسترتيجية what if المترتبة علي عدم تنازل الخرطوم عن مواقفها.
في 2 أغسطس٬ آخر أيام المهلة التي حددها مجلس الأمن الدولي ضلت معلومة٬ بطريقة غير مباشرة٬ طريقها إلي المبعوث الأمريكي بريستون ليمان مفادها إمكانية قبول جوبا بزيادة طفيفية علي تعرفة نقل بترولها عبر الخرطوم (63 و 69 سنتاً) بما لا يزيد عن دولار يتيم. إهتبل الرئيس أمبيكي الفرصة وجمع إليه كبيري المفاوضين من البلدين في إجتماع مارثوني هدفه قنص إتفاق يضيف إلي رصيده الشخصي علي المستوي الإقليمي والدولي في حل الصراعات والنزاعات النظيرة. علي الطريقة "الهوليودية"٬ أُلحقت المعلومة الضالة إلي وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون التي كانت في طريقها إلي مدينة جوبا لإجتماع يجمعها بالقيادة السياسية والتنفيذية لجنوب السودان٬ والذي تزامن مع إجتماع مجلس السلم والأمن الإفريقي بأديس أبابا٬ أُستغلت المعلومة بما ساعد علي إنجاز إتفاق إطاري حول البترول لفك الضائقة الإقتصادية٬ ولما تحسن القيادة السياسية ملاعبتهم بذات الكارت لتأمين إتفاق كامل كما كانت تنادي طوال الأشهر الثلاث المسموحة.٬ إنفضت الجولة لتُستأنف حتي تم التوقيع علي إتفاق التعاون بين البلدين في 27 سبتمبر 2012 وشملت كل القضايا وإستبقت أبيي وحيدة ونجح وفد السودان في إحراز نقطة غالية في مباراة تحقيق مصالحه العليا رُغماً عن أنف جنوب السودان ومن خلفه المؤسسات القارية والكونية.
المصالح العليا للسودان في أبيي إرتبطت بشهر مايو٬ لذلك إختارت أن تفيد من التساهل والسيولة السيادية التي تمتعت بها حكومة جنوب السودان٬ وقررت أن تغتال الرمز الشعبي لدينكا نقوك في مايو 2013. الطريقة التي أُغتيل بها السلطان كوال أدول لم تستبقي ما يغلب الشك لغير مصلحة السودان وإستفادته من تنفيذ تلك العملية في ذلك التوقيت٬ وبحسب الرسائل المستخلصة من العملية ذاتها وهي 1) عدم قدرة قوات اليونيسفا علي توفير الأمن٬ وحفظه في المنطقة بحسب التفويض الممنوح لها بموجب إتفاقية 20 يونيو ٬2011 2) إصرار الحكومة السودانية علي رفض أية حلول لا تعتبر المسيرية مواطنون متساوون مع دينكا نقوك٬ 3) عرقلة عمليات عودة دينكا نقوك الطوعية للإستقرار والمشاركة في الإستفتاء المزمع وبالتالي تسهيل وتسريع محاولات إحتلال المنطقة بكاملها. وعلي الرغم من إستيثاق حكومة جنوب السودان من خطط الحكومة السودانية لتهجير أبناء أبيي من دينكا نقوك إستباقاً للإستفتاء المزمع بتوجيهات الرئيس البشير و بتنسيق وإشراف عبد الرحيم محمد حسين وزير الدفاع٬ لم تحرك ساكناً. وتعاونت وزارات الدفاع٬ تأمين "المستوطنين" بنشر أفراد من الوحدات العسكرية والأمنية المختلفة بالمنطقة فضلاً عن المسيرية أنفسهم٬ الصحة٬ بناء العيادات الطبية٬ التعليم٬ بناء المدارس٬ والري٬ الحفائر والآبار للحصول علي المياه الجوفية لتوفير الخدمات الضرورية التي يحتاجها "المستوطنين" الجدد من السودانيين ويحتاجها المسيرية لتغيير نمط حياتهم. والمحصلة تم إغتيال السلطان كوال في هدوء تام٬ وتم الإكتفاء بتكوين لجنة تحقق في مقتله بذات الهدوء ولما بعد تتضح ملامح الحل النهائي لمشكلة أبيي.
الوجه الآخر لعملة غياب الرؤية الإستراتيجية إزاء مشكلة أبيي تمثلت في الحراك السياسي الذي شهدته الحركة الشعبية لتحرير السودان. فطوال سني الفترة الإنتقالية عقب التوقيع علي إتفاقية السلام الشامل درجت المؤسسات التنظيمية الإنتقالية للحركة الشعبية قبل إنعقاد مؤتمرها العام في مايو 2008 ٬ وتلك التي تم إنتخابها بعد المؤتمر تتعاطي الشأن السياسي والمعاشي بما في ذلك قضية أبيي وفقاً لنظرية "رزق اليوم باليوم". علي الرغم من إجازة دستور الحركة الشعبية لتحرير السودان والذي تحددت فيه وبصورة قاطعة كل ما يتعلق بمأسستها التنظيمية بما في ذلك الإجتماعات الدورية والعارضة إلا أنها تنكبت طريقها مرات عددا. يدلل علي ذلك الزعم٬ إنعقاد إجتماعيين لسكرتاريتها القومية بما فيها القطاعين الشمالي والجنوبي آنذاك٬ منذ إنتخاب وتكوين المؤسسات القومية بعد مؤتمرها الثاني حتي يومنا هذا. أما مكتبها السياسي والذي يفترض إجتماعه دوريا أربع مرات في السنة بالإضافة إلي إجتماعاته العارضة التي يدعو لها رئيس الحزب٬ أو تلك التي يطلبها ثلثي أعضاؤه كما قال بذلك الدستور٬ لم تنعقد إلا لدراسة جرم إجترحه٬ أو بحث أزمة سببها٬ المؤتمر الوطني. عليه كانت أغلب٬ إن لم يكن جل٬ إجتماعات المكتب السياسي في الفترة المشار إليها طارئة تعقد كردة فعل! ويقتصر دور تلك الهيئة السياسية علي إدارة الأزمة! عليه في ذلك الزخم ضاع التفكير الإستراتيجي حول أمهات القضايا ذات التعالق الوثيق بحيوات الناس ومعاشهم. آخر العهد بمحاولات التفكير الإستراتيجي تلك كانت ورشة العمل التي نظمتها السكرتارية القومية فى الفترة من 1214 مايو 2010 عقب الإنتخابات العامة وفوزها برئاسة جنوب السودان. ضمت إلى جانب قيادتها، كل الولاة (رؤساء الحركة الشعبية بالولايات) الذين تم إنتخابهم على مستوى الولايات الجنوبية، لوضع السياسات والبرامج والإستراتيجيات التى تحكم عمل حكومة الجنوب للوفاء بالبرامج التى خاضت بها الإنتخابات٬ والوعود التى ساقتها لشعب جنوب السودان الذى إنتخبها٬ إشتملت تلك السياسات على محاور الإستفتاء، الحكم الرشيد، توفير الأمن، الأمن الغذائى وتوفير الخدمات الأساسية. أيضاً لم تنجح الحركة في الوفاء بما قطعته في برنامجها الإنتخابي في العديد من القضايا وعلي رأسها إستفتاء منطقة أبيي٬ حيث أن إجتماعات مكتبها السياسي صارت تعقد بطريقة أشبه بالمشاورات لتحقيق إجماع جزئي بين عدد قليل من أعضائه umini ploitical burea وحتي هذا النوع من توخي الإجماع حول القضايا المصيرية إنعدم بعد إستقلال جنوب السودان فلم يعد لتلك المؤسسة من وجود غير إسمها وهكذا ضاعت قضية أبيي في تلك الهرجلة التنظيمية. وعندما أُعلنت نتيجة إستفتاء أبيي أصدرت الأحزاب السياسية بياناً أعلنت فيه تأييدها وقبولها لإرادة دينكا نقوك وكذلك فعلت الحركة الشعبية التغيير الديمقراطي بعد مشاركتها في توقيع البيان المذكور٬ والحركة الشعبية لتحرير السودان صاحبة الأغلبية في كل المؤسسات القومية التشريعية والتنفيذية لم تفلح في قيادة حملة داخلية واسعة لتوفير الدعم والتأييد اللازمين لنتيجة الإستفتاء٬ كما لم يتصدر إمضاء ممثلها قائمة الموقعين علي ذلك البيان كما كان متوقعاً بحكم ريادتها في قيادة الدولة. بينما ظل نائب رئيس الحزب يستأحد التغريد solo في المنابر العامة والخاصة لاهجاً بالنقد والتقريع وهو ما يجد المرء صعوبة في تفسير الدوافع التي حملته إلي ذلك الفعل٬ أهو إنسداد الأوعية التنظيمية؟ أهو إنحياز وإنتصار لتلك القضايا؟ أم أنها مجرد نكاية تُفرِّج عن غبينة أوغلت صدره؟ كما قال الشاعر نكاية بالنهر تجلس الجزيرة!
في 5 سبتمبر 2013 إبان إجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة٬ إبتعثت حكومة جنوب السودان وفداً رفيع المستوي ترأسه السيد جيمس واني إيقا٬ نائب رئيس الجمهورية. خاطب نائب رئيس الجمهورية تجمعاً لأبناء أبيي بالولايات المتحدة الأمريكية واعداً بعدم خذلان حكومته لأبناء أبيي مرة أخري:
"We will not give up, we will never surrender and we want to assure you that we will not let Abyei down. Never, ever will the Government and the people of the South turn their backs"
وخاطب من ثم أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة دون أن يعقد إجتماعات ضغط موازية لتحريك جمود قضية أبيي مع الأطراف الدولية الفاعلة المتواجدة تحت قبة الأمم المتحدة آنذاك ودونكم الموقف الذي إتخذه مجلس السلم والأمن الإفريقي علي مستوي الرؤساء. في المقابل وقبل إنعقاد القمة الرئاسية الأخيرة بجوبا٬ 22 أكتوبر 2013 ٬ كانت وزارة الإعلام أولي المؤسسات الحكومية التي سمحت لأبناء أبيي العاملين بها التوجه للمنطقة إستعداداً لإجراء الإستفتاء. بعد أن أنعقدت القمة وخرجت بالإتفاق علي ماتم الإتفاق عليه سابقاً قبل مقترح الرئيس أمبيكي الإكتوبري٬ كان أول من أدار ظهره لأبناء أبيي وزير إعلام حكومة جنوب السودان والناطق الرسمي بإسمها. أصدر الوزير٬ قبل القمة٬ "تعليماته" لإدارة التلفزيون القومي بوقف بث كل البرامج التي تتناول إستفتاء أبيي إلي حين إشعار آخر. وألحق ذلك بمؤتمر صحفي أعقب القمة الرئاسية٬ 23 أكتوبر 2013 ٬ أخذ يتساءل فيه عن قضايا كان حريّاً به أن يتشاركها مع زملاؤه في الحكومة القومية بدلاً عن إثارتها علي مستوي الرأي العام وفي الهواء الطلق مما قد يؤلب ذات الرأي عليه وعلي حكومته. تساءل الوزير: "كيف يمكن للتصويت الآحادي أن يحدث إختراقاً في مستقبل أبيي إن لم يعترف لا جنوب السودان ولا السودان بنتائجه؟ ما لا نعرفه ماذا سيحدث بعد هذا القرار؟ هل يمكنهم٬ دينكا نقوك٬ أن يفعلوا ذلك دون السودان وجنوب السودان؟ إلي أين سيذهبون٬ دينكا نقوك٬ إن رفض السودان وجنوب السودان الإعتراف بالنتيجة؟ وحتي إن كانت٬ أبيي٬ ستصبح دولة مستقلة فهي تحتاج إلي الإعتراف" ولكأني بالوزير يتحدث عن مواطنين من كوكب آخر وليسوا من جنوب السودان.
إستفتاء أبيي الشعبي .. هل من خطوات ؟
تلاحي أبناء وبنات أبيي لعقد مؤتمر شعبي Abyei Area Ngok Dinka people's General Conference يتباحثون من خلاله ما تبقي لهم من خيارات لحسم المعاناة الطويلة التي كابدوها. ما الجديد الذي جاء به المؤتمر؟ وما هو الطريق الذي وضع فيه القضية؟
في 18 أكتوبر 2013 عقد مجتمع منطقة أبيي بكل مكوناته مؤتمراً شعبياً للتداول حول خيارين إثنين. الأول: إصدار إعلان يوقع عليه زعماء المشيخات التسع يقضي بضم المنطقة إلي جنوب السودان٬ أو٬ الثاني: إجراء إستفتاء شعبي لتقرير مصير المنطقة ومصير شعبها. إنتهي ذلك الإستبحاث إلي تبني الخيار الثاني وكوّن ذات المؤتمر اللجنة السياسية العليا لإستفتاء أبيي بالإضافة إلي المفوضية المجتمعية لإستفتاءها لتذهب القضية برمتها في طريق اللا عودة. أصدرت المفوضية بعدها التشريعات والقوانين التي تحكم عملية الإستفتاء بما في ذلك الجداول الزمنية للتسجيل٬ التصويت٬ الطعون إلي إعلان النتائج النهائية بالإضافة إلي دعوة المراقبين الدوليين والمحليين كل ذلك بمجهودات ذاتية شعبية خالصة تعاون فيها الجميع لإنجاز الإستفتاء بالطريقة التي تم بها.
ما أن أشهر مولانا منجلواك ألور كوال٬ رئيس المفوضية٬ النتائج النهائية لإستفتاء أبيي الشعبي؛ إلا وتباري الإتحاد الإفريقي٬ السودان وجنوب السودان في رفض وإدانة الإجراء "الآحادي" برمته وفي مقدمة أولئك الدائنين وللدهشة حكومة جنوب السودان!! ليس بعيداً عن ذلك قالة الناطق الرسمي بإسم وزارة خارجية جنوب السودان السفير ميوين ماكول لصحيفة المصير 7 نوفمبر2013 عن ذات القضية. تأتي أهمية تلك القالة من المسئولية التي أُنيطت بوزارتي الخارجية في البلدين للإضطلاع بتسيير ومتابعة تنفيذ إتفاقيات التعاون في الإتفاق بين الرئيسين في الخرطوم يوليو المنصرم. ففي رده علي سؤال الصحيفة حول غموض موقف حكومة الجنوب فيما يتعلق بحشد الرأي العالمي لدعم إستفتاء أبيي؟ رد قائلاً: " .. فأصبح التصويت لإستفتاء أبيي مشكلة كبيرة جداً ومنذ وقت مبكر وأستمر ذلك إلي الآن. في نفس الوقت الدولتان تواجهان مشكلة تحديد من هو مواطن أبيي؟" الإستفهام من عندنا. علي الرغم من الجدل والمحاججة حول موضوع إستفتاء أبيي وأهلية الناخب التي إستغرقت البلدين ردحاً من الزمان يأتي مثل هذا التصريح والذي لا يمكن تفسيره إلا في إطار معنيين إثنين لا ثالث لهما. الأول٬ إنكار الدولة علي شعب دينكا نقوك حق المواطنة في المنطقة٬ أو٬ الثاني٬ جهل الوزارة والمتحدث بإسمها بمواقف حكومته التفاوضية حول تفاصيل القضايا الخلافية ومنها تفصيلة أهلية الناخب٬ وفي كلا الحالتينن هو أمر يؤسف له.
عليه فإن تناقض تصريحات ثلاثة من أرفع مسئولي الدولة وتضاربها تكشف أول ما تفعل عن غربة هذه الدولة عن مصالح شعبها وهموم مواطنيها لا سيما في قضايا نُحتت لها العديد من التواصيف من شاكلة ذات السيادة المشتركة shared sovernigty وكشمير وغيرها. فمنطقة كشمير المتنازع عليها بين الهند والباكستان ساهمت في دخول الدولتين إلي النادي النووي لإمتلاك القوة التي تؤهلهما لفرض سيادتهما علي المنطقة لأهميتها لكل منهما منذ الإشتجار عليها في 1947. فأهمية المنطقة بالنسبة للهند إستراتيجية حيث ترتبط قضية المنطقة بتوازن القوي في جنوب آسيا بين الهند والصين٬ بالإضافة إلي قيام الهند بتنفيذ العديد من المشاريع التنموية الضخمة في المنطقة من طرق وخلافه منذ إندلاع الصراع حول المنطقة إلي أن أعلنتها كولاية دستورية هندية في 1957. أما أهميتها لباكستان فجغرافية سكانية حيث تنبع ثلاثة من أصل ستة أنهار في باكستان من المنطقة تعتمد عليها في مشاريع توليد الكهرباء وري المشاريع الزراعية ما يشكل تهديداً لأمنها القومي في حال سيطرة الهند علي المنطقة وبناء سدود مائية علي تلك الأنهار٬ بالإضافة إلي نقص مقومات الدفاع الطبيعية بين جنوب كشمير وباكستان لحماية حدودها الشمالية ضد أطماع جماعات الباتان الأفغانية٬ يضاف إلي ذلك أن مصالح الإقليم الإقتصادية وإرتباطاته السكانية قوية بباكستان. لكل ذلك سعت الدولتان إلي إيجاد موطء قدم لها في المنطقة من خلال تقديم خدمات فيها لكيما تستألف قلوب مواطنيها وتستميلهم للتصويت لصالح الإنضمام إلي أي منهما في إطار التسويات المقترحة. أن الموقف الرسمي لباكستان هو ضرورة حل النزاع علي ضوء قرارات الأمم المتحدة حققت باكستان عبر دبلوماسيتها نجاحاً في توليد إستجابة دولية بشأن النزاع وحصلت علي قرارات إيجابية من هيئات دولية مثل منظمة المؤتمر الإسلامي٬ حركة عدم الإنحياز٬ منظمة التعاون الإقتصادي والمجموعة الأوربية. فما الذي فعله جنوب السودان للمنطقة؟ وما هي أهمية أبيي بالنسبة له يملك أن يحدثنا عنها أولئك المسئولين؟ إن لم يكُ لشيئ فلكيما نفهم موقف الحكومة الغامض وتحركها تجاه المنطقة. علي النقيض من ذلك النموذج٬ الوضع الإنساني في أبيي فحدث ولا حرج بسبب الدمار الذي ألحقته الآلة العسكرية السودانية بدعم من مليشيات المسيرية لا تخطئه عين وحكومة جنوب السودان تزيد من الأذي النفسي الذي يتعرض له شعب دينكا نقوك بمثل تلك التصريحات غير الموفقة والمواقف المهزوزة٬ فلا هي مجتهدة في تقديم أبسط مقومات الحياة لمجتمعها ولا هي حريصة علي إتخاذ موقف يجنبها الحرج أمام شعبها. لذلك كان حريّاً باللجنة السياسية أن توظف الحضور الكثيف لوسائل الإعلام العالمية بتنظيم جولات في المنطقة تعرِّف بحجم الدمار والخراب الذي تعرضت له وبالتالي عكس الدوافع الحقيقية التي حدت بدينكا نقوك الذين أعيا الصبر حيلتهم فذهبوا تواً إلي إتخاذ قرار تنظيم وإجراء إستفتاء شعبي يحدد مصيرهم ويضع حداً لمسلسل التشريد والإزاحة القسرية٬ ولعكس الواقع الإنساني المتردي في المنطقة بدلاً عن التركيز علي تغطية إجراءات الإستفتاء فقط.
غير أن الإستفتاء الشعبي الذي الذي قرره وأجراه شعب دينكا نقوك في أكتوبر المنصرم يعد سابقة في التجربة الإنسانية الحديثة ستغير كثيراً في المفاهيم والقوانيين الدولية المتبناة من حيث معانيه الموحيِّة والطريقة التي أجري بها. البعض وصفة بالآحادي unilateral وهو ليس بذلك٬ فلا الإتحاد الإفريقي صاحب المقترح أسهم في إجراؤه ولا الطرفين٬ السودان وجنوب السودان٬ الملزمين بقرارات المؤسسات الإقليمية والدولية القاضية بتكليف الرئيس أمبيكي بتقديم مقترح حل نهائي حول أي من الموضوعات التي يختلف الطرفين حولها٬ أسهما فيه بدور. الإستفتاء المنكور كان إرادة شعب تتجاوز وبنص القانون الدولي الإنساني٬ كل الإتفاقيات الموقعة بين البلدين. عليه لا تستقيم من الناحية الأخلاقية حجة الساعين لإلصاق صفة الآحادية علي إرادة دينكا نقوك لا سيما الذين إتخذوا موقف الفرجة عندما كان الشعب في المنطقة يتعرض للإبادة تحت سمعهم وبصرهم ولم يفتح الله عليهم برؤية تساعف علي حل المشكل٬ في عصر أنسنة الحقوق بالمواثيق الحاضَّة علي الكرامة بما فيها من حق الحياة وحق حرية التعبير وحق تقرير المصير الثقافي والسياسي وخلافهما. والذين يقرأون ما بين سطور الإتفاقيات المتعلقة بقضية أبيي٬ عليهم أن يتشوفوا السطور ذاتها الناصَّة علي أهلية شعب دينكا نقوك للتصويت في الإستفتاء قبل إطلاق التواصيف المستفزة.
فعلي الرغم من إنعدام الإمكانيات وضيق ذات اليد٬ نجح شعب دينكا نقوك في تنظيم وإجراء إستفتاء شعبي سلمي خلا من أية أعمال عنف بسبب تصميم أفراده علي إختلافهم علي نجاحه. ففي تجربة عزَّ إنوجاد مثلها ساهمت مجموعة نسائية تسمي بلغة الدينكا pion tok "القلب الواحد" في حفظ الأمن وإستتبابه في المنطقة في كل مراحل عمليات الإستفتاء من تسجيل الناخبين وحتي إعلان نتائجه النهائية٬ كما لعب كبار السن من الرجال أدواراً مميزة في تقنين أهلية الناخبيين بسبب معرفتهم وحفظتهم لتأريخ المنطقة وجغرافيتها فأسهموا في تحديد الناخبين الذين يحق لهم التصويت في الإستفتاء من دينكا نقوك ولم يستثنوا الآخرين من السودانيين المقيمين في المنطقة بصفة دائمة. هذا بالإضافة إلي المسافات الطويلة التي قطعها المواطنين مشياً علي الأقدام للتسجيل والتصويت وحضور الندوات والحملات الدعائية والتوعوية لتعليم الناخبين لم يكن مستغرباً آن يقف بعضاً من المراقبين الدوليين علي نزاهة الإستفتاء وشفافيته التي بذّت إستفتاء جنوب السودان في يناير 2011 من حيث التنظيم وسهولة الوصول٬ والحصول علي المعلومات المتعلقة بإجراؤه علي حسب تعبيرهم.
خلاصة:
الموقف الرسمي الذي ذهبت إليه الأطراف الثلاثة المرتبطة بموضوع إستفتاء أبيي (الإتحاد الإفريقي٬ السودان وجنوب السودان) هو الشجب والإدانة والرفض٬ وتفاوتت ذات الأطراف في الطرق التي عبرت بها عن ذلك. فالإتحاد الإفريقي وصفه بغير القانوني وغير المسئول٬ السودان وإبتناء علي موقف الأول وصفه بالآحادي وهدد بإجراء مثله٬ أما جنوب السودان فما زال حائراً في حسم موقفه غير أنه أدار ظهره متجاهلاً إرادة شعب دينكا نقوك التي عبر عنها بتلك النسبة الكبيرة. لا شك في أن الإستفتاء الشعبي لن يمثل الحل النهائي لمشكلة المنطقة ما لم يتم الإعتراف به من قبل الأطراف الثلاثة٬ غير أن إعتراف جنوب السودان سيكون مفصلياً في إقبال الآخرين. كما أن تلك الإرادة ستشكل حجر الزاوية في أيما حلول مستقبلية قد يطرحها الإتحاد الإفريقي علي الخصيمين لفك الإشتباك الحاصل إن كان ثمة حلول تتجاوز الرستفتاء الشعبي. كما أن مشاركة المجتمع الإقليمي والدولي في إستيلاد تلك الحلول٬ بعد تسوير دينكا نقوك عن إرادتهم الشعبية٬ يستند في المقام الأول علي الموقف الرسمي لحكومة جنوب السودان. لذا علي الحكومة إتخاذ ذلك الموقف علي ضوء تحقيق مصالحها العليا بدلاً عن رجاة موقف الخرطوم التي لا نظنها مستعدة لفقدان المزيد من الموارد الحلابة بعد أن فقدت كل ذهب الجنوب الأسود من قبل وفي وعينا موقفها العدائي من إنفصال جنوب السودان. ولسنا علي ثقة تامة بأن السودان سيدخر جهده لمعاقبة شعب دينكا نقوك علي إرادتهم التي إختارت الإنضمام إلي جنوب السودان فما زال فُتُّوات نظامه علي دست الحكم. عليه لا يجب علي اللجنة السياسية العليا والقائمين علي أمر بحث مستقبل أبيي٬ إختزال القضية ووضع كل بيضها في مجرد ثلة القبول والإعتراف بنتائج الإستفتاء لا سيما الأراء والأفعال الشخصية لمنسوبي السلطة التنفيذية وغياب الرأي الرسمي لذات المؤسسة٬ بل يجب تطوير حلول بديلة وجاهزة في آن معاً. ولكن في المقابل نتساءل عن ماهية الحلول التي يريدها شعب أبيي علي ضوء ذلك الإستفتاء؟ أإستفتاء آخر ينظمه الإتحاد الإفريقي؟ أم إحالة الملف للمؤسسات الدولية؟ أم إيداع الملف طاولة القمم الرئاسية بلا سقف زمني يلزمان به؟ هناك العديد من الأسئلة الوجودية الحائرة التي تستوجب الإجابة عليها بدلاً عن الإستكانة إلي الشائع من التوقعات والتكهنات. مخطئ من يتظني إستعداد دينكا نقوك علي إعادة تدوير مأساتهم التأريخية بقبول الحلول السائلة ذات النهايات المفتوحة لا سيما في ظل الموقف الرمادي لدولة جنوب السودان٬ وفي ظل تنصل الحركة الشعبية لتحرير السودان من المسئولية الأخلاقية المترتبة علي تفويض شعب دينكا نقوك لها. فالركون إلي حتمية قبول حكومة جنوب السودان في نهاية المطاف بنتائج إستفتاء أبيي لا يعدو كونه إستنكاه فطير لا يستند إلي فرضيات ترجح هذه المظنة. فمنذ أن تسلمت حكومة جنوب السودان رسالة٬ ومقترح الرئيس أمبيكي حول أبيي٬ 17 و 21 سبتمبر 2012 لم تناقش قضية أبيي في أيٍّ من مؤسسات الحكم القائمة في البلاد وحتي تاريخه. كما أنه وقبل أن يتم الإعلان عن التشكيل الوزاري الأخير؛ أعلن وزير خارجية جنوب السودان عن توجهات حكومته الإستراتيجية نحو جيرانها وفي مقدمة أولئك الجيران الجار الشمالي٬ كل ذلك قبل أن إعلان التشكيل الوزاري وقبل أن يتواضع الوزراء الجدد علي تلك الإستراتيجية في دولة المؤسسات والقانون المستقلة حديثاً! من الناحية الأخري فإن الملهاة التي وجدت الحركة الشعبية نفسها فيها لا تساعدها علي الإنتباه لغير القضايا التي تتهدد وجودها وبقائها في ساحة الفعل السياسي٬ ولا نظن أن أبيي واحدة من تلك القضايا حالياً٬ ودونكم الإنشغال الحاصل لتفسير حديث رئيسها لدي إفتتاحه للمقر الجديد "SPLM House"!٬ ودونكم أيضاً إنبراء وزير إعلام حكومة جنوب السودان للمساهمة بدلوه في تفسير حديث رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان في غياب أجهزتها التنظيمية.
نجحت اللجنة السياسية لإستفتاء أبيي في تعبئة الشعب وتنظيمه لخوض معركة تقرير المصير التي أديرت بنجاح منقع النظير حتي هذه اللحظة٬ بينما تعثرت مساعيها فيما يتعلق بخطواتها اللاحقة لإعلان نتيجة الإستفتاء فيما يتعلق بتأمين الدعم والتأييد اللازمين. إنقضت أكثر من ثلاثة أسابيع منذ أن تم إعلان نتائج الإستفتاء ولما بعد تخرج اللجنة بخارطة طريق ترسم ملامح المرحلة التالية بسبب التلكؤ والتردد في إتخاذ بعض القرارات لجهة حساسيتها وحساسية الموضوع برمته من الناحية الرسمية٬ ولجهة رغائب بعض أعضاء اللجنة لإسترداف مواقف متنفذي السلطة التنفيذية. علي اللجنة أن تضع في إعتبارها أنها عندما إستهمت الناس وعبأتهم لتنظيم الإستفتاء لم تستأذن أحد وكان لها ما أرادت٬ عليه لا يعدو كونه هدراً للوقت والجهد معاً إنتظار موقفاً رسمياً من الدولة بالسلب أو الإيجاب إزاء الخطوات التالية المتعلقة بمرحلة ما بعد إجراء الإستفتاء وإعلان نتائجه. فأعياد الكريسماس وإحتفالات رأس السنة الميلادية علي الأبواب وهي مواسم يتعطل فيهما عمل كثير من المؤسسات الرسمية المحلية والإقليمية والدولية٬ وكما يقال ساعة في عالم السياسة يمكن أن تغير الكثير فضلاً عن الأيام والأسابيع. أما الجهد والحماسة التي أقبل بها دينكا نقوك علي تنظيم وإجراء الإستفتاء يجب ألا تترك لتفتر وتخبو جِذوتها٬ علي العكس من ذلك يجب إبقائها بإستتباع مزيد من التحركات والنشاط السياسي والإجتماعي والإنساني. من الناحية الأخري علي اللجنة السياسية العليا إحتقاب كل التجارب المعمولة لحل قضية أبيي وإستقرائها بطريقة وتفكير جديدين يتجاوزان المراحل السابقة إلي التفكير في بدائل عملية وقودها الرغبة الشعبية وليس الرسمية ما يتطلب عصفاً فكرياً يتجاوز اللجنة السياسية العليا إلي غيرها من مواعين العمل المدني والسياسي والأهلي. لهذا علي مجتمع دينكا نقوك بدلاً عن المُحوك عند محطة الإعتراف والقبول بنتائج الإستفتاء٬ قيادة حملة إقليمية ودولية تستهدف فرض وصاية دولية علي المنطقة إستناداً إلي القانون الدولي الذي كفل لدينكا نقوك حق تقرير المصير كما كفله لغيرهم للمحافظة علي حقوقهم الحياتية والثقافية والدينية إن كان الإستفتاء الشعبي غير مرحب به بمخرجاته. للأمم المتحدة العديد من القوانين التي تعني بالحقوق المدنية والسياسية للشعوب منها قانون الوصاية الدولية. واحدة من فقرات ذلك القانون٬ المادة 77 ٬ شرَّعت لبعض الفئات علي مستوي العالم شمولها بوصاية دولية تؤول فيها كل المسئوليات المتعلقة بحياة الناس من صحة وتعليم وغيرها إلي الأمم المتحدة ومجلس أمنها. من تلك الفئات٬ الأولي الأقاليم المشمولة الآن بالإنتداب والوصاية٬ الثانية الأقاليم التي قد تقتطع من الدول الأعداء بعد الحرب العالمية الثانية والثالثة الأقاليم التي تضعها في الوصاية بمحض إختيارها دول مسئولة عن إدارتها. الفئة الأخيرة كأنما أُحيكت علي مقاس حكومة جنوب السودان تماماً٬ حيث تسمح لها الحؤول دون فقدان علاقتها الإستراتيجية مع الخرطوم الرسمية ويحفظ لها ماء وجهها أمام شعبها إن تبنت ذلك الخيار كموقف رسمي بعد أن إستنفذت كل خياراتها لحل القضية. قد يقول قائل كيف لدولة أن تخاصم جارتها في المؤسسات الدولية وترغب في إقامة علاقة إستراتيجية معها في ذات الوقت؟ نقول رداً علي ذلك لا سيما إن كان ذلك الجار هو السودان؛ أن الخرطوم وبمنهج براغماتي صرف لتحقيق مصالحها العليا لم تتشوف معيبة من الناحية الأخلاقية وهي تسعي لإسترداف حكومة جنوب السودان في حملتها الدولية لإعفاء ديونها الخارجية وجرها في ذات الوقت إلي المحاكم الدولية بدعوي أن الأخيرة إستولت علي شركة "Sudapet" سابقاً "Nilepet" الآن٬ بل ومطالبتها بتعويض مالي علي الرغم من المساعدات المالية الإنتقالية التي إلتزم جنوب السودان بتقديمها للمساعدة في حل العجز المالي للسودان لكنها لغة المصالح٬ فالعلاقات بين الدول تبني علي المصالح المشتركة.
عليه وتوخياً لنتائج إيجايبة تساهم في دفع الحراك الذي تشهده قضية أبيي٬ فلا بد لذلك الحراك من أن ينطلق من مركز صناعة القرار في جوبا وليس العكس٬ فبجانب المؤسسات الرسمية للدولة توجد كذلك المنظمات والهيئات والبعثات الدبلوماسية. كما توجد كذلك القوي السياسية ومنظمات المجتمع المدني٬ عليه فإن تنظيم لقاءات دورية مع كل هذه المنظومات مجتمعة أو منفردة وإطلاعها علي آخر المستجدات المتعلقة بالقضية وعلي رأسها ماهية مطالب شعب دينكا نقوك سيساعدها علي تعبئة جماهيرها بالولايات الجنوبية وتهيئتها لإستقبال وفود اللجنة السياسية لإستفتاء أبيي التي يتوقع إنطلاقها قريباً بالطريقة التي تؤمن الدعم الشعبي المأمول لتلك المطالب. أخيراً وليس آخراً نود أن نلفت إنتباه اللجنة السياسية العليا إلي أن قوة الفعل التي لازمت إصرار دينكا نقوك علي تنظيم وإجراء الإستفتاء؛ أجبرت العديد من وسائل الإعلام ومحطات التلفزة العالمية إلي تغيير الخارطة البرامجية الخاصة بها علي الرغم من سخونة القضايا التي تعمل علي تغطيتها الآن٬ وعلي الرغم من سياساتها التحريرية التي تحكم عملها وإهتمامات الرأي العام الذي تخاطبه. عليه ليس من الحكمة غض الطرف٬ والإستغناء عن وسيلة ضغط فاعلة ومؤثرة كالإعلام علي إختلاف وسائله من صحف وإذاعات عالمية بالإضافة إلي مواقع التواصل الإجتماعي علي شبكة الإنترنت. بل يجب التعامل معها بشوف ونظر مختلفين لما له من تأثير في تجذير صورة حقيقية عن معاناة شعب دينكا نقوك الطويلة وبالتالي إفتعال تضامن إقليمي ودولي بشأنها يمضي في إتجاه قبول نتائج الإستفتاء أو الإتجاه إلي حلول عملية بديلة. كما لا يجب إغفال إبتداع أساليب موازية تقارب التعتيم الذي تعانيه القضية كانت تلك الأساليب أفلاماً وثائقية أو غيرها تأخذ في إعتبارها التفاوت في التعاطي مع المتاحات الإتصالية٬ فمن يقرأ الصحافة المكتوبة مثلاً قد لا تتوفر له متابعة الصحافة المرئية٬ ومن يقوي علي حضور اللقاءات الجماهيرية قد لا تستهويه متابعة الصحافة المذاعة ذلك فضلاً عن سياسة إعلامية واضحة الأهداف تحدد الغاية منها٬ وفي مقدمة تلك السياسة الإعلامية محافظة اللجنة السياسية العليا من خلال ناطقها الرسمي بعلاقتها بالعامة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.