أما وقد كشفت الإنقاذ عن التشكيلة الحكومية الجديدة، التي تحمل أكثر من إشارة ، فإن كثيرًا من المراقبين للأوضاع في السودان، صاروا أكثر ثقة من أن الإصلاح أو التغيير قد بات ممكناً وقريب المنال؛ لأن معظم الذين وصلوا إلى كراسي الوزراة الآن هم من الشباب الذين عرفوا بالاستقامة والخبرة والتأهيل سياسياً، ومهنياً. وبما أن مفهوم الإصلاح، بأبعاده المختلفة الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والفكرية، كان واحداً من المفاهيم المحورية التي شغلت السياسيين والمفكرين والمثقفين، فقد وضعوا لذلك معايير قابلة للتنفيذ، منها وجود الشخص المناسب في المكان المناسب؛ أي إسناد الأمر إلى أهله، ووضع سياسات وخطط مدروسة يستهدي بها من يتولى المسئولية التنفيذية، وتقوية مؤسسات الدولة حتى تؤدي الدور المنوط بها، بعيداً عن المحاباة والمحاصصة، وكافة الممارسات التي قد تفتح باب الفساد مالياً وسياسياً. ولكي نحقق هذه الغاية المنشودة، لابد من التواطؤ على معنى محدد وتعريف جامع لنوع ومدى الإصلاح الذي نقصده؛ ذلك لأن أنواع الإصلاح تتداخل وتتقاطع مع بعضها، بحيث لا يمكن تحقيق واحد منها في غياب الآخر. وعلى سبيل المثال، كيف يمكن أن يكون هنالك إصلاح في المجتمع دون أن يتوافر على قدر كبير من القيم الرفيعة التي تمنع الناس من الخيانة، والتغول على حقوق الآخرين، وتشيع العدل والصراحة، والتسامح، وحرية التعبير في مخاطبة المسئولين، وفقاً لقول عمر رضي الله عنه (لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها)؛ إذ في غياب هذا المبدأ يستحيل على الناس التعبير عن رأيهم سواء مباشرة أو عبر الأجهزة والمؤسسات المعنية بذلك، وعندها سيكون الحديث عن التغيير أو الإصلاح كالحرث في البحر تماماً. إذن لابد من توفر الضمانات الكافية، والقيم السياسية والثقة، التي تقوم على الرؤى الثقافية والاجتماعية، المشتركة بين مكونات النسيج الاجتماعي، والجهات السياسية التي تشارك في إدارة دفة الحكم أو تلك التي تعارض بطريقة إيجابية؛ حتى يتاح لكل فرد أو جماعة القدر الكافي من الحرية للتعبير عن رأيه، بطريقة سلمية وقانونية أو نظامية؛ من أجل الإسهام في الإصلاح السياسي الذي ظل محوراً رئيساً في خطاب القوى السياسية على مستوى الخارطة الحزبية في البلاد. ومن هنا نريد أن يأتي الإصلاح تدريجياً يأخذ بما صلح من الماضي والحاضر ويستشرف المستقبل، لا أن يكون ثورياً أو فجايئاً لا يلوي على شيء، بل يسعى لجب كل ما قبله، بحجة أنه من ركام الماضي الذي يجب التخلص منه، فالإسلام الذي هو مصدر فكرنا الأساسي حافظ على كثير من الفضائل والقيم التي كانت سائدة في جزيرة العرب، مع تهذيبها وإضافة معانٍ وقيم جديدة عليها تقوم على صحة العقيدة؛ فقد روي عن رسولنا الكريم (ص) قوله:( إنما بعث لإتمم مكارم الأخلاق). إنّ الإصلاح السياسي يشمل مضمون عام هو (تعديل جذري في أساليب الحكم لتلافي كل نواحي النقص أو الخلل) في أداء الواجبات المنوطة بأجهزة الدولة والحكم على كافة المستويات. وهذا المنحى يتطلب بالضرورة إعادة النظر في أمور كثيرة من أجل نشر الوعي الجماهيري بالحقوق والواجبات المدنية والسياسية وصيانتها، وإقامة دولة المؤسسات والمواطنة، وسيادة القانون وتكافؤ الفرص، وتعزيز النزاهة ومكافحة الفساد بكل أشكاله، وحماية المال العام، وتعزيز تماسك النسيج الاجتماعي، عن طريق تقديم القدوة، وبسط الشورى، وضبط الإعلام ومحتواه، وتحسين مناهج التعليم، بحيث تكون وعاءًا يحمل القيم الاجتماعية والروحية التي يؤمن بها المجتمع. علاوة على هذا، يتطلب الإصلاح، بمعناه الواسع، تغيير القيم وأنماط السلوك التي أعتراها بعض الخلل بفعل العوامل والمؤثرات التي تطرأ على واقعنا من وقت لآخر، وتوسيع دائرة الاتصال ونشر المعرفة، والوعي بمستجدات العصر، والإفادة من ذلك كله في تعزيز الهوية الوطنية حتى يكون الولاء الفردي والجماعي للأمة والوطن، وليس لجهة أو قبيلة مثلما هو الحال في السودان الذي ضربته الجهوية والقبلية حتى حدث فراغ يصعب ردمه من قبل الحكومة لوحدها، لأن المسئولية عنه تضامنية تستوجب مشاركة كل الكيانات القائمة، ويتكامل فيها دور المعارضة الراشدة مع ما تقوم به الحكومة حتى لا تتحول المشكلة إلى أزمة يصعب تلافيها. فالوضع الراهن يدل، بما لا يدع مجالاً للشك، أن ثمة فجوة سياسية سمحت بتحرك جهات، غير مؤهلة للقيام بعملية الإصلاح، لتملأ هذا الفراغ، علماً بأن هذه الجهات لا تملك برنامجاً من شأنه أن يصلح من حال البلاد ولا العباد؛ وهي بالتالي ليست بديلاً مقبولاً مهما كان سوء النظام السياسي وضعفه. ولذلك يرى الكثيرون أن المطلوب هو برنامج إصلاحي يستوعب كل الشرائح السياسية من حكومة ومعارضة حتى نحافظ على كيان الدولة من الإنهيار الذي سيؤدي حتماً إلى ما هو أسوأ أمنياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وربما أخلاقياً. عموماً فإن المخرج هو برنامج متكامل، ودستور تتفق عليه القوى السياسية بكافة مرجعياتها، حتى نبني دولة المؤسسات التي تقوم على مبدأ التداول السلمي للسلطة، وتقاسم الثروة، وتوزيع فرص التنمية، ويتاح فيها لكل مجموعة أو كيان سياسي نظامي، الفرصة للممارسة الديمقراطية الحرة والنزيهة، أو بمعنى آخر(تأسيس شرعية النظام السياسي في المقام الأول على احترام الدستور والقانون والأداء السياسي المميز والمرموق، وفق مشاركة سياسية واسعة بهدف المساهمة في صنع السياسات والقرارات، والمشاركة باختيار الممثلين والحكام). إن الإصلاح، حسب إعتقادي قد بات ممكناً، وهذا يستوجب أن تكون الحاكميه للمؤسسات، وليس للأفراد، لتؤدي الدور المنوط بها، دون تغول على صلاحيات بعضها البعض، ومن المطلوب البحث عن آليات لتحقيق هذه المقاصد! ونعتقد أن الوزارة الجديدة مؤهلة للقيام بهذا الدور، شريطة تطوير أسلوب العمل التنفيذي والسياسي، وخطط الدولة، وصولاً إلى مرحلة الحكم الراشد الذي من شأنه أن يخرج البلاد من دوامة الأزمات المتلاحقة. ///////