[email protected] في مقال بعنوان (معزون ام مهرجون؟) نشرته طيبة الذكر (الأحداث) في يوليو 2009 كتبت معقباً على بعض المتزيّدين والمتكثرين في مواقف العزاء والرثاء. جاء في مقدمة ذلك المقال: (ما هذه الامة التي لا تعرف كيف تنعى موتاها فتقول في مقام الموت ما لا يُقال)؟ ولم يكن ليخطر على بالي قط أن أعود، بعد سنوات قلائل، فأتناول تلك القضية الرزيّة مرة أخرى! لأكثر من سبب حرصت على متابعة فيوض المشاعر الانسانية الموّارة التي تدفقت من فوق صفحات الصحف ومنابر الشبكة العنكبوتية في مورد رثاء الراحلة الاستاذة سعاد ابراهيم احمد، تغشت قبرها شآبيب الرحمة والغفران. والاحتفاء بمسيرة حياتها الرحيبة الخصيبة، التي بذلتها في موالاة الحق والخير والفضيلة وإعلاء القيم المثمرة في حيوات الناس. وقد أعجبني ووقع مني خير الوقع كثيرٌ مما قرأته مسطوراً بأقلام رجال ونساء ممن عرفوا سعاد عن قرب وعن بعد، فأجادوا وبلغوا من الاحسان غايته. غير أنني أجد نفسي على الدوام متغيّراً متحيراً أمام اولئك النفر من أصحاب الأجندة الملتبسة الذين تنْبَهِم عندهم الطرق، فيتوهمون أن رثاء الميت لا يكتمل الا بتصفية حساباته السياسية المظنونة مع الأحياء بأثرٍ رجعي. مع أن جوهر الرثاء في اللغة والمصطلح هو مدح الميت لا ذم الأحياء. وعند هؤلاء فإن تلك التصفية لا تتحقق الا بالنيل من خصوم الراحل المفترضين والكيد لهم. واحد من هؤلاء أراد ان يرثي سعاد، فكان سبيله الى الرثاء أن نصب مدفعاً رشاشاً داخل المرثية، وتمترس وراء مدفعه، كما تمترس عبد الفضيل ألماظ وراء مدفع المكسيم، ثم أطلق وابلاً من الرصاص الكثيف باتجاه شيخنا الدكتور عبد الله على ابراهيم، محتسباً أجره عند مناضلي الأسافير الذين يتلمظون الى مثل هذا النوع من (الآكشن)! ولكن شيخنا لا يُضام. ثم أنه لا يحب شغل النضال المجاني المفتعل على حساب الراحلين. لا سيما ان كان الراحل من بين أعز أصدقائه وأحبهم الى قلبه، مثلما كانت سعاد. كتب عبد الله، ضمن ما كتب، في مقام الرد: "وعليه فمن ضعة النفس أن ينتهز الناعي 'سانحة' موت من يحب ليصفي حساباً شيوعياً خاسراً معي. ولو صدق جابر في دعواه بعيبي لما ضر. ولكن جابر كذوب"! دعنا من جابر الكذوب. ولننظر في أمر النعي الذي نقشه على قبر الراحلة حبيبنا الدكتور خالد المبارك، الشيوعي القديم ومستشار العصبة المنقذة الاعلامي بلندن. وقد جاء الرجل في رثائه من حيث لم نحتسب بمزاعم وسخائم لا محل لها في باب الرثاء، غاب عنها النضج وانفلتت الحكمة. خطر لي وأنا أقرأ مرثيته، التي كتبها باللغة الانجليزية ونشرتها صحيفة (سودان فيشن)، أن خالد ربما أراد هو نفسه ان يصفي حساباً مع سعاد بعد رحيلها، وكأن الموت لا يفصله عنها. ولكنني طردت شيطان الظن الأثيم بعد ذلك! زعم خالد أن ولاء سعاد الأكبر كان لوطنها النوبي الصغير، وليس للسودان الوطن الواحد الجامع. وأن قامتها في باب الانتماء للسودان تقاصرت عن قامة الفنان النوبي خليل فرح الذي غلب الانتماء للسودان عنده على الانتماء للنوبة. وزاد خالد فأنشدنا من الشعر أبياتاً ما كنت أظن أن من يحب سعاد أو يعرف قدرها ينشدها وهو في تمام حكمته وصفاء وجدانه. هاك فأقرأ، أعزك الله، وتأمل ما كتب الرجل: "عندما كنت في الولاياتالمتحدة عامي 1999 و2000 جاءت سعاد الى واشنطن. وبالرغم من ان كلينا كان يعمل ضمن قوى المعارضة لنظام الانقاذ فإنني لم أحاول أن أقابلها، لأنها جاءت الولاياتالمتحدة لنشاط يتعلق بالنوبة"!! اجتهد خالد في مرثيته، ما وسعه الجهد، في اثبات عدد من التناقضات يحسب انها طبعت شخصية سعاد. من ذلك أنها وقفت ضد تهجير النوبيين الى خشم القربة في ستينات القرن الماضي بالمخالفة لموقف الحزب الشيوعي، الأمر الذي يضع موضع السؤال، بحسب خالد، حقيقة انتمائها لذلك الحزب. وفي مورد تخطئة موقفها ذاك وبيان عواره صور الرجل بناء السد العالي كإنجاز ثوري يستحق التضحية، ثم أضاف ان النوبيين السودانيين مُنحوا مقابل التهجير امتيازات مهولة، في شكل أراضٍ واسعة خصيبة، فاقت وفاضت بما لا يقاس عن حاجتهم وقدرتهم على الاستثمار! كان طبيعياً، بحكم صلة الدم الوثقى التي ربطتني بالراحلة العزيزة، أن أتتبع بعين راصدة ما كتبه الآخرون عنها حين أظلنا يوم شكرها. ولذات الاعتبارين (صلة الدم والانتماء المشترك للنوبة) فأنني لا أجد نفسي مؤهلاً تماماً للتعقيب على الدكتور خالد المبارك، غفر الله له ولنا اجمعين. هناك من أبناء السودان، الوطن الغالي الذي حملته سعاد في حدقات العيون ثمانٍ وسبعين عاماً، من هم أولى مني بالتعقيب. وسأكتب كلماتي عنها، ان شاء الله، بعيداً عن هرطقات خالد، عندما يناديني منادي الكتابة، ربما في ذكرى مرور أربعين يوما على غيابها. أيها الناس: لا تثريب عليكم اليوم، فمن شهد منكم سرادق العزاء والرثاء المنصوب فليدخل مع الداخلين. ومن أراد منكم ان ينعى سعاد فليقل في مقام النعي ما يشاء، ولا يخف في نفسه ما الله مُبديه! نقلاً عن صحيفة (الرأى العام)