محمد وداعة: الجنجويدي التشادى .. الأمين الدودو خاطري    شركة توزيع الكهرباء تعتذر عن القطوعات وتناشد بالترشيد    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    بايدن يعين"ليز جراندي" مبعوثة للشؤون الإنسانية في الشرق الأوسط    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    دبابيس ودالشريف    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هوامش حول قضية التهميش (حالة دارفور) .. بقلم: د. صديق الزيلعى
نشر في سودانيل يوم 20 - 04 - 2014

ازمة دارفور فى جوهرها ازمة اقتصادية/سياسية/بيئية/اثنية/اجتماعية/ثقافية. لا يمكن تبسيطها بارجاعها لعامل وحيد، مهما عظم شأنه وكبر تأثيره. فالتهميش مثلا شكل سببا اساسيا وعاملا فعالا فى تفجير الازمة، ولكنه ،وحده، لا يقدم تفسيرا كاملا لكل ما حدث، خاصة وان قضايا ومشاكل دارفور معقدة اصلا ، وتعقدت اكثر بمرور الزمن وتداخل عدة عوامل مع بعضها البعض فى تفاعل مركز. لا نعتقد بان اى نظرية احادية الجانب تساعد فى تقديم حلول واقعية تعالج جذور ازمة بحجم ازمة دارفور، خاصة اذا علمنا ان دارفور هى سودان مصغر فى كبر حجمها ( حوالى خمس السودان) وتعدد قبائلها وتنوع بيئاتها الطبيعية وانشطتها البشرية بالاضافة لمجاورتها لاربعة اقطار. ولان للازمة جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والتاريخية فان اى محاولة لمعالجتها عن طريق الحل العسكرى سيكون مصيرها الفشل التام. وحتى اذا تم هزيمة الحركات المسلحة عسكريا وبقيت جذور الازمة، فانها ستؤدى للانفجار مرة اخرى، وربما بشكل اكثر عنفا. كما نعتقد بان الحلول الثنائية لن تؤدى الا لتعميق الازمة واستمرار معاناة الملايين من البسطاء وزيادة الانقسامات القبلية التى اتخذت طابعا تناحريا، يهدد بشكل دائم ، لا رجعة فيه، التعايش السلمى الذى اشتهر به ابناء دارفور لعدة قرون.
نعيد ، بلا ملل، وسنكرر باستمرار بان ازمة دارفور هى تجلى للازمة السودانية العامة، وحتى وان اتخذت طابعا دارفوريا مميزا. فمعظم الاسباب والعوامل التى فجرت الازمة فى دارفور فجرت ازمات فى اجزاء اخرى من الوطن. فبلادنا تواجه مفترق الطرق وازمات مستحكمة تهدد وجودها كدولة مما يستدعى مشاركة كافة قواها السياسية ومنظماتها المدنية وقواتها النظامية فى الجلوس سويا لايجاد حل قبل ان يتشظى الوطن ويتم صوملته بشكل كامل.
هذه المقال ليس دراسة كاملة ، كما قلنا، لازمة دارفور، ولا ينبغى له ادعاء ذلك. انما هو محاولة لابراز العوامل الاساسية التى فجرت الازمة ومحاولة للنظر اليها فى اطارها التاريخى. وهو محاولة للاسهام فى توضيح بعض جوانب المسألة الدارفورية ، وهو يتكامل مع الجهود الثرة التى بذلها العديد من ابناء الوطن وبعض المهتمين بالشان السودانى من الاجانب. كما ان هذا المقال هو محاولة لحفز الاخرين على شحذ اذهانهم والتصدى الجاد لدراسة وتقييم كل محاولات تشخيص ازمة دارفور والاسهامات المحلية والدولية لحلها وتبادل الرأى حول ما تراكم من معلومات ومقترحات خلال المفاوضات التى تمت (حتى الان). كل تلك الجهود للتداول حول الخروج برؤية شاملة تستفيد من قصور تجارب الماضى وللتعلم من الايجابى فى تلك التجارب لتصميم وبناء تصور جديد يستهدف الحل الشامل والعادل للازمة فى اطار وطنى شامل.
ووضعا للمسألة فى اطارها التاريخى العام، قمنا بحصر العوامل المتعددة التى فجرت الازمة ،ثم قمنا بتبويبها وترقيمها حتى تعطى القارئ الصورة العامة المجملة. وننبه هنا ان تلك العوامل ليست كتلا صماء تتحرك لوحدها فى خط مستقيم وموازى للاخريات. وانما هى عوامل متداخلة، تؤثر وتتأثر وتتفاعل وتعمق اثار بعضها البعض، وقد نتج بعضها عن عوامل سبقته واثرت ، هى بدورها، فى عوامل لاحقة. ونرى الا يفهم هذا التقسيم الا فى اطار النظرة الكلية الشاملة للازمة الدارفورية. ومن الطبيعى ان تتكرر بعض النقاط او الاحداث فى اكثر من عامل، وهذا يرجع كما ذكرنا من قبل، لتداخل المسببات والنتائج.
فى راينا ان العوامل/الاسباب التى ادت لتفجر الازمة فى دارفور هى:
(1) قضية التهميش الاقتصادى والاجتماعى
(2) الصراع حول الارض
(3) موجات الجفاف والتصحر
(4) سياسات الحكومات المركزية المتعاقبة
(5) سياسات السودان الخارجية ( منذ الاستقلال وحتى الان)
(6) توفر السلاح الحديث
(7) تشجيع ودعم القبلية
(8) اهمال قضايا المنتج الصغير
(9) تطور الوعى السياسى وفقدان الثقة فى احزاب المركز
(10) حل الادارة الاهلية واهمال قرارات مؤتمرات الصلح القبلى
(11) انعدام الديمقراطية ( على كل المستويات السياسية)
(12) الحرب الاهلية فى الجنوب
(13) الدور السلبى لبعض المتعلمين
( 1) التهميش الاقتصادى والاجتماعى
التهميش هو احد التعابير التى ترسخت ، مؤخرا، فى ادبنا السياسى. وبدون الاغراق فى لجة التعريفات والمصطلحات نقول ان فهمنا للتهميش ، فى اطاره العام، هو ابعاد او عزل او حرمان او تخفيض مستحقات اوتجميد وضع منطقة او مناطق او مجموعات فى داخل قطر ما مما يجعلها فى وضع اسوا من بقية المناطق او المجموعات الاخرى. والتهميش يمكن ان يكون سياسيا او جغرافيا او اقليميا او اجتماعيا. وللتهميش اشكال متعددة تشمل تهميش اقليم او لغة او دين او ثقافة او مجموعة اثنية او جماعة ايدولوجية او طبقة اجتماعية. بل ويمكن ان يشمل التهميش شعبا باكمله وهو مانجده فى الانظمة العسكرية التى تحرم شعبا كاملا من حق اختيار الحكومة التى تقوده. وفى الاطار السودانى تعددت الاجتهادات فى تعريف المناطق المهمشة واكثرها استخداما تلك التى عرفت مناطق الهامش بانها المناطق خارج مناطق الوسط النيلية التى نالت معظم المشاريع التنموية والخدمات الاجتماعية.
اضحت قوى الهامش ، كما تم التعارف عليها ، احدى القوى الاجتماعية التى فرضت وجودها السياسى والعسكرى فى الصراع من اجل التغيير فى السودان. وقوى الهامش تطور طبيعى للقوى الاقليمية التى ظهرت بعد ثورة اكتوبر 1964 واهمها جبهة نهضة دارفور واتحاد عام جبال النوبة ومؤتمر البجا واتحاد ابناء المسيرية واتحاد ابناء دنقلا والتى لعبت دورا مقدرا فى نشر الوعى الديمقراطى فى مناطقها. كما انها امتداد لتضامن قوى الريف التى ظهرت فى الساحة السياسية بعد انتصار الانتفاضة فى 1985 وكانت لها مواقف مشهودة فى الدفاع عن قضايا الريف ودعم الخط السياسى للحركة الشعبية لتحرير السودان. ووجدت العديد من قوى الهامش سندا سياسيا و ايدولوجيا فى اطروحات قرنق حول السودان الجديد. وهكذا هى قوى مؤثرة فى الساحة السياسية السودانية وتعبير اصيل عن الظلامات التاريخية التى عانى منها العديد من ابناء هذا الوطن. وقبل ان نواصل مناقشة قضية التهميش يجدر بنا ان نقدم خلقية تاريخية بما نقصده بتهميش غرب السودان عامة ودارفور خاصة.
بعد استتباب الامر للجيش الاستعمارى الغازى وعند اكتمال ارساء البنيات الاساسية لجهاز دولته، بدات الادارة الاستعمارية فى التخطيط لتنفيذ بعض العوامل التى ادت لغزو السودان ، تحت الشعار الخادع باعادة ممتلكات مصر لمصر. كما هو موثق ، تم غزو السودان لاسباب استراتيجية واخرى اقتصادية. الاسباب الاستراتيجية ،التى اسرعت بالغزو، تمت فى اطار السباق الانجليزى الفرنسى الملهوف للحصول على مستعمرات فى افريقيا ونجاح فرنسا فى احتلال فشودة. بالاضافة لحلم بريطانيا القديم بانشاء امبراطورية استعمارية فى افريقيا ، تمتد من الاسكندرية الى راس الرجاء الصالح.
اهم الاسباب الاقتصادية هى خلق سوق للمنتجات البريطانية وتوفير المواد الخام التى تحتاجها الصناعة الانجليزية. فى ذلك الحين كانت صناعة النسيج، فى لانكشير، هى احدى اهم الصناعات وذات احتياج مستمر للقطن. وتصادف ان مناخ السودان يصلح لانتاج القطن طويل التيلة ، افضل اصناف القطن. اجرت الادارة الاستعمارية المسوحات الاولية والتجارب فوقع الاختيار على الجزيرة لصلاحية وخصوبة تربتها وتوفر مياه الرى الدائم ولوضعها الطبوغرافى الذى يسهل الرى الانسيابى وقربها من الميناء الوحيد. نزعت اراضى المواطنين باسعار اسمية زهيدة وانشا خزان سنار ومدت الخطوط الحديدية وارغم المزارع على زراعة القطن. وهكذا تم الحاق الاقتصاد السودانى بالسوق الراسمالى العالمى واصبح القطن يشكل العمود الفقرى لاقتصادنا القومى.
اصبحت الجزيرة هى البقرة الحلوب للادارة الاستعمارية وهكذا بذلت كل جهودها لانجاح وازدهار زراعة القطن بها. انجاح الزراعة وتقليل المصروفات يستدعى تدريب سودانيين لشغل المناصب الدنيا فى ادارة المشروع وادارة جهاز الدولة. لذلك قامت الادارة الاستعمارية وادارة مشروع الجزيرة بتوفير الخدمات الاجتماعية بحدها الادنى ، وهو وضع رغم تدنيه لم يتوفر لبقية اجزاء السودان، التى حسب التقدير الاستعمارى لا فائدة اقتصادية منها فتجاهلها تماما. اضافة لان معظم تلك الخدمات تم الصرف عليها من اموال المزارعين ، حيث كانت تخصم 2% من الحساب المشترك لمال الخدمات الاجتماعية.
ادى التوسع فى السوق العالمى للقطن والمنسوجات لاضافة مشاريع جديدة فى النيل الابيض والنيل الازرق لانتاج المزيد من القطن. وهكذا ازدهر وسط السودان اقتصاديا فى اطار تلبيته لاحتياجات السوق الراسمالى العالمى. ولكن هذه المشاريع المروية الكبيرة تحتاج لايدى عاملة، خاصة فى موسم جنى القطن. هنا تذكر الاستعمار غرب السودان وامكانية توفير الايدى العاملة الرخيصة منه، خاصة وان موسم لقيط القطن لا يتعارض مع حصاد المحاصيل الغذائية بغرب السودان. بذلت الدولة جهودا لجلب العمالة الرخيصة الموسمية من الغرب لمشاريع القطن بوسط السودان، وهكذا الحق الغرب، جزئيا، بالاقتصاد النقدى. ومنذ ذلك الحين اجتهدت الدولة لتوفير وترحيل الايدى العاملة الرخيصة من غرب السودان وحتى من نيجريا للعمل فى مشاريع القطن المروية. تم ذلك مع الاهمال الكامل لتلك المناطق بالغرب والتى تحولت لمستودعات بشرية للايدى العاملة الرخيصة. هذا هو بداية الاساس المادى للتهميش الاقتصادى والذى نتج عنه تفاوت جيواجتماعى كبير. حيث نجد وفى اطار السودان المتخلف ككل، مناطق اكثر تخلفا وهى ما اطلق عليها " القطاع التقليدى" مقارنة بالقطاع الحديث حيث المشاريع المروية ( هنالك مناقشات اكاديمية حول دقة التسمية لا مجال للخوض فيها هنا). و "القطاع التقليدى" هو قطاع يتميز بالانتاج ( بوسائل بسيطة) من اجل الاستهلاك اساسا وليس للتبادل التجارى، ولم يتم الحاقه تماما بالاقتصاد النقدى رغم تعامله جزئيا بالنقد. استمر هذا التطور الاقتصادى المتفاوت وغير المتكافئ، طيلة الفترة الاستعمارية، مما شكل الاساس المادى للتهميش الاقتصادى لمعظم انحاء السودان.
والملاحظ ان السمة الاساسية لكل خطط وبرامج واسترتيجيات التنمية الاقتصادية التى اعدت او نفذت خلال فترة ما بعد الاستقلال انها كرست التهميش الموروث من الدولة الاستعمارية. فالاستعمار كان يعمل من اجل مصالحه فقط ولكن القوى الاجتماعية التى تربعت على دست الحكم ( منذ الاستقلال وحتى الان) لم يكن يهمها غير مصالحها الذاتية ولم تعمل على ازالة الغبن التنموى الواقع على معظم انحاء السودان. ويمكننا تلخيص واقع الاقتصاد السودانى عند نيل الاستقلال فى النقاط المختصرة الاتية:
* اهمال تام للقطاع التقليدى حيث يعيش 87% من السكان والذى ينتج 56% من انتاج البلاد
* 59% من ايرادات الدولة تاتى من الضرائب المباشرة وغير المباشرة ( دولة الجبايات الموروثة والمستمرة حتى الان)
* تصرف الدولة 31% من دخلها على جهازها الادارى حيث ينال اصحاب المناصب الدستورية وقادة الخدمة المدنية والعسكرية كل الامتيازات التى كان ينالها الكادر الادارى الاستعمارى
* تمثل التجارة الخارجية 13% من اجمالى الانتاج الاهلى السودانى وهى نتاج طبيعى لبلد صاغه الاستعمار كسوق لمنتجاته وكحقل لانتاج المواد الخام التى تحتاجها مصانعه ولذلك احتلت التجارة الخارجية مكانا مقدما
* القطن يشكل 64% من قيمة صادراتنا والسلع الاستهلاكية تشكل 63 من وارداتنا ( اما الالات وادوات الانتاج والتنمية فلها قيمة هامشية فى وارداتنا)
* هنالك اهتمام طاغى بالقطن على حساب كل المنتوجات الزراعية والثروات الاخرى فمثلا الثروة الحيوانية كانت تشكل 3% من صادراتنا فى 1956
* لا يوجد اى اهتمام بالتصنيع حيث كان الانتاج الصناعى يشكل اقل من 1% من اجمالى الانتاج الاهلى فى 1956
* نصيب الفرد من الدخل القومى لا يتعدى 26 جنيها فى العام.
باختصار شديد هذا هو نتاج نصف قرن من الاستعمار الذى شكل اقتصادنا ليخدم مصالحه، فى ظل نظام التبادل غير المتكافئ على مستوى العالم حيث تنخفض قيمة المواد الخام المصدرة وباستمرار وتتصاعد اسعار السلع المصنعة المستوردة.
انطلقت تلك الفئات ، التى حكمت السودان منذ الاستقلال وحتى الان، من مصالحها الذاتية وضيق افقها الاقتصادى. وكان من مصلحتها، كما سنناقش لاحقا، الاستمرار فى المنهج الاقتصادى الاستعمارى بالتركيز على القطن وحصر الاستثمارات فى مناطق وسط السودان والتى توفرت فيها البنيات الاساسية مع اهمال اغلبية القطر. وهكذا اصبح السودان يعانى من التخلف الاقتصادى ويتميز اقتصاده بضيق قاعدته والتمركز مما ادى للتفاوت الشنيع على المستويين الجغرافى والاجتماعى.
تمحورت كل الخطط الاقتصادية فى فترة مابعد نيل الاستقلال ( العشرية، الخمسية، الستية، برنامج سلة غذاء العالم و البرنامج الثلاثى ...الخ) على تركيز معظم المشاريع و الاستثمارات الاقتصادية فى القطاع المروى ( وسط السودان). وكمثال حتى المشاريع النادرة التى نفذت بغرب السودان كانت مشاريع للزراعة الالية التجارية ( كمشروع هبيلا) والتى كان لها اثارها الجانبية المدمرة للبيئة الاقتصادية والاجتماعية والطبيعية. وحيث تم نزع الاراضى من ملاكها الاصليين واعطيت للتجار وكبار رجال الدولة والقوات النظامية، من تعارف على تسميتهم بالملاك الغائبين، باسعار اسمية. ونتج عن ذلك هجرة سكان الارض الاصليين للمدن للعمل كعمال. كما اغلقت تلك المشاريع المراحيل السنوية للرعاة فحدثت صدامات ادت لتدخل الجيش لحماية المشاريع مثلما حدث فى 1976. والدمار البيئي الذى حدث بمناطق المشاريع هو احد نتائج اهمال الدورة الزراعية والقطع العشوائى الشامل للغابات واهمال انشاء المصدات الشجرية. ومن اهم الاثار السالبة لتلك المشاريع هو ان الفائض الاقتصادى المحقق منها لا يعاد استثماره فى المنطقة بل لمناطق الوسط وحتى هنالك يستثمر فى قطاعات غير منتجة ( خدمات ، تجارة، عقارات، تجارة عملة) ، وما تعبير غابات الاسمنت (الذى ظهر فى ستينيات القرن الماضى) الا انعكاسا لذلك الواقع.
وقضية اخرى تشترك فيها كل الحكومات التى تعاقبت على دست الحكم وهى قضية المركزة المطلقة لايرادات الدولة ( حتى ولو كانت تجبى محليا) ومن ثم تتحكم السلطة المركزية فى توزيعها حسب تقديراتها وسياساتها وحسابات من يتولون الحكم ولا توجد نسبة محددة للاقاليم وان وعدت الاقاليم باى مبالغ يصبح الحصول عليها اندر من الحصول على لبن الطير. ولقد سمعنا عشرات شكاوى حكام ووزاء الاقاليم عن اموالهم وهل قصة استقالة والى القضارف فى 2012 بعيدة عن الاذهان!
أما دارفور فقد اهملت تماما ولفترات تاريخية طويلة امتدت لعقود من الزمن. وعندما اقيمت بها بعض المشاريع كانت نموذجا كلاسيكيا للفشل التنموى لقصور فى التخطيط والتمويل والتنفيذ. وهكذا شاركت كل الانظمة ( ولا استثنى احد) فى عملية تهميش غرب السودان. وللتهميش اثار كثيرة على مواطنى الغرب ومنها صغر سوق العمل ، خارج نطاق الزراعة والرعى التقليديان، وذلك انعكاس طبيعى لقلة الانشطة الاقتصادية مما ادى لتعطل اعداد كبيرة من الشباب الذين لا يحملون مؤهلات ومهارات. وزاد من حدة صغر سوق العمل، فى السنوات الاخيرة، العطالة الجماعية لالاف الشباب من خريجى الثانويات والجامعات. وهكذا خلق التهميش غبنا تنمويا وغبنا اجتماعا تفجرا فى شكل غضب سياسى ودعوة قوية لتغيير الاوضاع على المستوى الاقليمى والمركزى.
هوامش حول قضية التهميش ( 2 - 4)
تعرضنا فى الحلقة الاولى لبعض الجذور التاريخية للتهميش ونحاول ، فى هذه الحلقة ، قراءة دور الحكومات المختلفة.
وبعيدا عن اطلاق الاحكام المعممة سنحاول تقديم عرض سريع لدور الحكومات المتعاقبة فى تكريس وتعميق التهميش وشرح ماتم خلال كل مرحلة من مراحل ما بعد الاستقلال حتى نتعرف على اولويات الفئات الاجتماعية الحاكمة وما قامت به ولكى نتدارس استراتيجية اقتصادية بديلة لصالح المنتجين الحقيقيين:
الحكومة الوطنية الاولى:
ناضل شعب السودان حتى حقق استقلاله السياسى فى 1956. تفجرت ، بعد تحقيق الاستقلال، معركة سياسية حول طريق التطور الذى ستسلكه البلاد. كان لتلك المعركة السياسية الفكرية، ومانتج عنها من سياسات، اثار بعيدة المدى لا نزال نعانى ، حتى اليوم، من تبعاتها. فقد رفعت القوى الاجتماعية، التى قادت معركة الاستقلال، شعار تحرير لا تعمير ، فى مواجهة دعوة القوى النقابية واليسارية المنادية بالتعمير والتحرير فى ان واحد وانه لا تعارض بينهما. وكان الافق الاجتماعى للقوى التى ورثت حكم السودان قاصرا على استكمال الاستقلال السياسى (السودنة ، رفع العلم، نشيد وطنى ، تمثيل دبلوماسى عالمى) مع الابقاء على كل الهياكل والبنيات الاقتصادية والاجتماعية التى خلقتها الدولة الاستعمارية. بينما دعت القوى النقابية واليسارية لانتهاج تنمية مستقلة وانهاء كافة اشكال التبعية للدولة الاستعمارية. ذلك الصراع لم يكن تهويما اكاديميا مجردا وانما كان صراعا حول خطين للتطور الاقتصادى الاجتماعى: اولهما يحصر الاستقلال فى الاطار الشكلى والاخر ينادى بتنمية حقيقية لصالح الاغلبية الساحقة من شعبنا ( فى المركز والاقاليم).
نجح انصار التيار الاول ،الذى لم ير اكثر من تحقيق الاستقلال السياسى الشكلى ، فى السيطرة على جهاز الدولة الموروث واستمر فى حكم البلاد ( مدنيا وعسكريا) طيلة فترة ما بعد الاستقلال والى الان. استمرار ممثلو هذا التيار فى السيطرة على جهاز الدولة ادى لتعميق الهوة الاقتصادية بين اقاليم السودان الجغرافية وفئاتها الاجتماعية المختلفة. فقادة تلك القوى كانوا اصحاب مشاريع القطن الخصوصية بالنيلين الابيض والازرق وملاك مشاريع الزراعة الالية فى القضارف ، كما كانوا وكلاء للشركات العالمية التى تعمل فى الصادر والوارد ، وتربعوا فوق المناصب العليا للخدمة المدنية والقوات النظامية. اهتمام هذه القوى بالعائد الاقتصادى السريع جعلها تحافظ على غرب السودان كما تركه الاستعمار مصدرا للعمالة الرخيصة والمواد الخام للتصدير( الحبوب الزيتية والصمغ والماشية).
عملت الدولة الوطنية على دعم النشاط الاقتصادى لتلك الفئات. وقد نالت تلك الفئات الرخص التجارية وتصديقات المشاريع الزراعية والصناعية والتسهيلات المصرفية المريحة والوظائف القيادية فى الخدمة المدنية والقوات المسلحة. بينما لم تنل الاغلبية الساحقة ، فى الهامش وحتى داخل العاصمة، غير الكدح والمعاناة وتدهور احوالها المعيشية.
وكمثال صارخ لسياسة دولتنا الفتية ، تجاه الكادحين من الوسط ، ماحدث فى فبراير 1956 ( بعد اسابيع قليلة من استقلال السودان ) وكشف عن طبيعة تفكير القوى التى ورثت جهاز الدولة الاستعمارى وعقليته الادارية وكما ارسلت رسالة واضحة بانها ستواجه بعنف كل من يهدد مصالحها. ويتلخص الحدث فى الاتى: طالب مزارعو مشروع جودة الزراعى ( مشروع خاص على النيل الابيض لزراعة القطن) بمعرفة حساباتهم وتجمعوا سلميا امام مكاتب ادارة المشروع. استدعت الادارة البوليس التى استخدم الرصاص لتفريغهم وقتل على الفور 25 منهم واعتقل 189 مزارعا تم وضعهم فى زنزانة صغيرة سيئة التهوية. ولم تهتم السلطات بصيحات المزارعين واستغاثاتهم فمات بعضهم اختناقا. اثارت تلك الجريمة غضب الشعب ونظم اتحاد العمال وطلاب الجامعة ونقابة المحامين مواكب ردت عليها السلطة بالعنف واعتقال ومحاكمة قادة المظاهرات وبلغت جملة الاحكام 141 شهرا. وكان هذا احد التجليات الصارخة لبرنامج تحرير لا تعمير. كما انه يهزم الحجة التى تحمل كل سكان مناطق وسط السودان النيلية المسئولة ، مباشرة او بطريقة غير مباشرة، عن تهميش بقية السودان. وهنا يحضرنى موضوع الالاف من شباب منطقة الجزيرة الذين يمشطون اسواق واحياء العاصمة القومية يبيعون الاوانى المنزلية وبعض الخردوات مقابل ارباح زهيدة لا تسمن ولا تغنى عن جوع ، هل هؤلاء مسئولون عن التهميش الجغرافى ام هم انفسهم يعانون التهميش فى اسوا صوره ويكدحون لتوفير لقمة العيش! وينطبق نفس المثال على عمال عطبرة الذين عاملهم كادر ويكفيلد ( خلال العهد الاستعمارى) بمستوى اقل من الحد الادنى اللازم لبقاء الانسان حيا ولذلك ناضلوا بلا هوادة من اجل تحسين اوضاعهم المعيشية!
وفى اطار دعوة اليسار والنقابات لتغيير سياستنا الاقتصادية، طالب اتحاد العمال الحكومة، فى 1958، بتنفيذ اجراءات اقتصادية اهمها: تنويع التجارة الخارجية ، تاميم القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية، اجراء تخفيض فعال فى منصرفات جهاز الدولة الادارى وتحسين اجور العاملين. لم تهتم الحكومة بتلك المطالب مما ادى لان يعلن اتحاد العمال اضراب عام شاركت فيه 42 نقابة عمالية. وكان رد الحكومة هو حملة من الاعتقالات.
وخلاصة القول: سلطة تفصل تعسفيا بين التحرير والتعمير لا نتوقع منها الاهتمام بغرب السودان او اى اقليم اخر.
الحكومة العسكرية الاولى ( 1958-1964):
نتيجة لتصاعد الحركة الجماهيرية المناهضة للمعونة الامريكية والرافضة للارتباط بحلف بغداد الاستعمارى والداعية لسحب الثقة من حكومة ( السيدين) فى جلسة البرلمان المقرر انعقادها فى يوم 17 نوفمبر. قام حزب الامة بتسليم السلطة للجيش.
واهم ما قامت به الحكومة العسكرية فى الجانب الاقتصادى هو وضع الخطة العشرية للتنمية ( 1960-1970). اهم اهداف تلك الخطة هى:
* تحويل 800 الف عامل من القطاع التقليدى الى القطاع الحديث كعمال زراعيين
* 70% من استثمارات الخطة فى المجال الزراعى وجهت لانشاء 3 مشاريع فى المناطق النيلية ( امتداد المناقل – خزان الروصيرص- خزان خشم القربة) وذلك للاستمرار فى زراعة القطن للتصدير. والمعروف ان المستفيد الحقيقى ، من ذلك التوسع فى زراعة القطن، هى الفئات من اصحاب الرخص الزراعية وشركات التصدير.
* التوسع الافقى الكبير فى الزراعة الالية وتقديم التسهيلات المالية والاعفاءات الضرائبية لمن توزع لهم المشاريع ( كبار رجال الخدمة المدنية والعسكرية والتجار ورجالات الادارة الاهلية).
وهكذا تم التركيز على الزراعة المروية و اهمل القطاع التقليدى والذى لم ينل غير امتداد خط السكة الحديد لنيالا لتسهيل نقل الماشية للتصدير وتوفير العمال الزراعيين لمشاريع القطن بوسط السودان.
وشهدت فترة الحكم العسكرى الاول بداية التعاون مع المعسكر الاشتراكى السابق ، فى مجال التصنيع الزراعى، والذى قدم مصانع وزعت على انحاء السودان المختلفة ولكنها فشلت لسوء التخطيط والمصانع هى مصنع بابنوسة لتجفيف الالبان ومصنع واو لتعليب الفاكهة ومصنع كسلا لتجفيف البصل ومصنع كريمة لتعليب الفاكهة.
فترة مابعد ثورة اكتوبر ( 1964-1969):
تميزت فترة ما بعد ثورة اكتوبر بالتوسع الافقى الكبير فى الزراعة الالية وتوزيع مساحات شاسعة فى القضارف والدمازين. وشاب توزيع المشاريع الزراعية تدخلات حزبية سافرة لمنح الرخص والاعفاءات والتسهيلات للاعوان من اعضاء الاحزاب الحاكمة. وشهدت هذه الفترة دخول البنك الدولى لمجال الزراعة الالية وتقديم قروض انشات بها المؤسسة العامة للزراعة الالية. فرض البنك الدولى شروطه بتوجيه تمويله للقطاع الخاص ( سلفيات للالات وللنظافة وللتخزين الخ). وصاحب التوسع الكبير فى الزراعة الالية توسع كبير اخر خارج المناطق المخططة اصلا للزراعة الالية.
وشهدت الفترة دخول الزراعة الالية لمنطقة هبيلا ( وهى اول منطقة فى غرب السودان تدخلها الزراعة الالية). وكان لها اثارها الجانبية حيث انتزعت الاراضى من اصحابها الاصليين ووزعت لاخرين واغلقت المسارات الطبيعية للرعاة ولم يتم الالتزام بالدورة الزراعية او الاحزمة الشجرية لحماية التربة. وتم تحويل ما حقق من فوائض اقتصادية لمناطق اخرى لاستثمارها فى العمل التجارى والعقارى ولم تنل منها المنطقة الاصلية وسكانها اى فوائد.
فترة نظام مايو ( 1969-1985):
بدات سلطة مايو باعلان الخطة الخمسية للتنمية الاقتصادية ( 1970-1975) ثم استبدلتها بالخطة الخمسية المعدلة ثم الغتها واستبدلها بالخطة الستية لتلغى هى الاخرى وتستبدل باستراتيجية جديدة سميت " استراتيجية سلة خبر العالم " والتى ابلغ ما وصفت به ما قاله عالم اقتصاد المانى بانها " سلة خبز العالم الفارغة ". هذه التعديلات والتبدلات فى الخطط الاقتصادية تكشف درجة التخبط والتغير الفجائى فى الوجهة والاتجاه حسب مزاج القيادة السياسية ( وهو داء شاب سوداننا طوال تاريخه).
وبدون الاستفادة من تجربة هبيلا والدمار الذى نتج عنها قررت الدولة فى الخطة الخمسية المعدلة توزيع 10 الف فدان للزراعة الالية فى جنوب دارفور كبداية للتوسع فى الزراعة الالية فى دارفور.
واصلت مايو سياسات الانظمة التى سبقتها فى التركيز على المشاريع المروية فى وسط السودان واساسا على محصول القطن. وقد حدث بعض التنويع لاحقا بادخال محصول السكر فى نفس المناطق النيلية.
شهدت نفس الفترة توسعا افقيا كبيرا فى قطاع الزراعة الالية حيث منحت ملايين الافدنة للتجار ورجال الادارة الاهلية وكبار موظفى الخدمة المدنية والقوات المسلحة والشركات الزراعية الخاصة. وكمثال منحت سلطة مايو حوالى 2 مليون فدان فى القطاع التقليدى لعشرين شركة خلال اربعة اعوام. ومنح قانون الاستثمار الزراعى لسنة 1980العديد من الامتيازات والاعفاءات لتلك الفئات التى منحت رخص مشاريع. ومن الغريب انه تم ، تحت بصر وسمع الدولة، استغلال تلك الاعفاءات فى النشاط الطفيلى فقد تم استيراد بضائع من الخارج ( معفية من الجمارك حسب اعفاءات القانون) لبيعها فى السوق.
كما واصل البنك الدولى دعمه للقطاع الخاص فى مجال الزراعة الالية مما ادى لظهور طبقة راسمالية زراعية كبيرة حققت فوائض مالية ضخمة على حساب مواطنى ورعاة القطاع التقليدى. ومن التغييرات الهامة التى تمت ، خلال عهد مايو، هى تصفية مزارع الدولة فى الزراعة الالية تحت اصرار البنك الدولى. وخططت تلك المزارع لتعمل على تامين احتياطى للغذاء ( ذرة) وتشكل مراكز لمساعدة المزارعين بالخبرة ومكافحة الافات وتاجير الاليات باسعار مخفضة. وهكذا فتح الباب واسعا امام القطاع الخاص.
انه لمؤلم حقا ويحز عميقا فى القلب تجاهل توصيات بنيت على دراسات علمية متخصصة من قبل منظمة العمل الدولية التابعة للامم المتحدة حول استراتيجيات التنمية فى السودان ونشرتها فى تقرير شهير صدر فى 1976. ومن ضمن تلك التوصيات الهامة الدعوة لتطوير القطاع التقليدى ( زراعة ورعى حيوان) وان تطويره لن يكلف نفس حجم تكلفة المشاريع الاخرى ( مشاريع مروية و زراعة الية مطرية). واضافت ان تطوير القطاع التقليدى سيغير حياة اغلبية السكان ويجذبهم للاقتصاد النقدى وسيدفع بعجلة الاقتصاد خطوات للامام. ومن المثير للاهتمام حقا ان التوصيات قد حذرت من تفجر مشكلة الارض مستقبلا فى غرب السودان نتيجة للتوسع فى الزراعة التجارية وازدياد اعداد الثروة الحيوانية والزيادة الطبيعية فى عدد السكان بالاضافة للعوامل البئية والطبيعية الاخرى. كما ركزت التوصيات حول ضرورة الابحاث والدراسات الخاصة بالقطاع التقليدى وقضايا استقرار الرحل والبنيات الاساسية والتمويل. واقترحت التوصيات توفير استثمارات كبيرة للقطاع التقليدى فى الفترة مابين 1985-1995 وان تلك الاستثمارات ستنمى الصادرات السودانية بشكل كبير ( صمغ/ ماشية/ حبوب زيتية الخ) مما سيفيد الاقتصاد السودانى ككل.
وحتى المشاريع البسيطة التى نفذتها مايو فى غرب السودان كانت نموذجا كلاسيكيا لسوء التخطيط والتنفيذ. وكمثال على سوء التخطيط والتنفيذ مشروع تنمية غرب السافنا الذى انشات بموجبه " هيئة تنمية غرب السافنا" فى مارس 1978 وبتمويل من البنك الدولى لتنفيذ مشروعات التنمية المتكاملة. وعند تحليل مكونات الصرف خلال الفترة 1977-1984 تم اعتماد 27 مليون جنيه صرف منها 11 مليون فى مبانى الرئاسة والمكاتب والورشة والمخازن وبعض الاليات والعربات.
ومثال اخر يحمل نفس الادعاءات الكاذبة للتنمية الريفية المتكاملة يعطيه مشروع جبل مرة للتنمية الذى بدء العمل فيه فى عام 1979 بمنحة من صندوق التنمية الاوربى. قدرت التكلفة الكلية للمشروع بحوالى 25 مليون جنيه وجهت كلها لبناء المحطات الارشادية وجلب المدخلات والمحاريث والعربات ومعدات الارشاد والورش. ونلاحظ استخدام المشاريع " كواجهات" لتصريف بضائع دول السوق الاوربية المشتركة والشركات التابعة لها. ويشهد واقع الحال ان تلك المعدات والاليات لم تستغل استغلالا سليما لمصلحة المنتج الصغير الدارفورى ولم تحقق الاهداف المعلنة حول التنمية الريفية المتكاملة وينطبق عليها المثل (Too little too late ). وهنا يجب ان نلاحظ ان تنمية الغرب لا تتم بمجرد انشاء المزيد من المشاريع وانما بمشاريع تنموية بتخطيط جيد وبمعرفة الجهات المستهدفة بتلك المشاريع واشراكها فى التخطيط والتنفيذ والمتابعة وكيفية تحقيق الفائدة المرجوة. وهذه قضية كبيرة لا يتسع المجال للخوض فى تفاصيلها فى هذا الحيز.
وبوضوح تام لم يجد القطاع التقليدى، طوال عهد مايو، اهتماما يذكر فيما يتعلق بتطوير تكويناته الانتاجية والخدمية ويتضح ذلك من ضالة اعتمادات ومنصرفات التنمية على مشاريع هذا القطاع، حيث بلغت الاعتمادات للمشروعات ذات الصلة بالقطاع التقليدى، والمتمثلة فى مشروعات الثروة الحيوانية وتنمية الموارد الطبيعية والخدمات الزراعية ومشروعات الرئاسة فى جملتها حوالى 220 مليون جنيه سودانى خلال الفترة من 1977_ 1984 وهذه تمثل حوالى 22% من جملة الصرف الفعلى لمخصصات القطاع الزراعى فى برنامج الاستثمار للفترة المذكورة. ويحدث هذا رغم ان القطاع التقليدى يعول حوالى 60% الى 70% من سكان البلاد وينتج حوالى 50% الى 60% من جملة انتاج البلاد من المحاصيل الزراعية ويساهم بحوالى 30% من صادرات البلاد الزراعية بالاضافة لثرواته الكامنة ( ثروات حيوانية وغابية وزراعية بالاضافة للتعدد المناخى).
واذا نظرنا للصرف على مشروعات الثروة الحيوانية خلال الفترة 1977- 1984 فان الصرف على قلته ( 6% من جملة الصرف الفعلى للقطاع الزراعى فى برنامج الاستثمار) فنجد انه تميز بالاهمال المتعمد لتطوير امكانات الانتاج الحيوانى بالقطاع التقليدى، وهو القطاع الذى يتمتع بوفرة فى هذا النوع من الانتاج الزراعى. وماتم من صرف فى هذا المجال وجه اساس نحو توفير الحد الادنى من الخدمات الضرورية المتصلة بتامين تدفق الماشية بالاعداد التى تكفل تحقيق الارباح المجزية للقابضين على اسواق التصدير والاستهلاك المحلى للحوم فى المناطق الحضرية. وما انفق ، على قلته، صرف اغلبه على مشاريع حول العاصمة ( مشروع انتاج الكتاكيت – مصنع اعلاف الخرطوم – البان الجزيرة- مشروع استغلال الثروة السمكية) ولم تحظى ادارة ابحاث وخدمات الانتاج الحيوانى باكثر من 2 مليون جنيه ( 5% من مجموع المخصصات لمشروعات الثروة الحيوانية) وحتى هذا المبلغ ( رغم ضالته) وجه اكثر من نصفه على محطات ابحاث الانتاج الحيوانى القائمة فى المناطق التى تفتقر نسبيا الى الثروة الحيوانية مثل محطتى عطبرة والهدى مع الاهمال الكامل للمحطات القائمة بمناطق الانتاج الرعوى مثل محطة الغزالة جاوزت.
اما داخل الادارات الخاصة بالخدمات البيطرية فلقد وجه حوالى 68 % الى دعم خدمات التسويق لضمان استمرارية تدفق صادرات الحيوان مثل انشاء المؤسسة العامة لتسويق الماشية واللحوم وبناء المنازل وتشييد مخازن التبريد ومكاتب بالكدرو وابودليق وفتاشة وجبل اولياء. وحتى مشروع طريق الماشية فقد واجهته مشاكل عدة. وهنا يجب ملاحظة ان اغلب هذه المشاريع هى منح من مؤسسات دولية كمنظمة الاغذية والزراعة الدولية.
ومايهمنا هنا هو اختلال اولويات الصرف وعدم عدالة توزيع الاستثمارات مع ما يتفق مع الحاجات الفعلية والملحة للمواطنين وحقهم المشروع فى التنمية المتوازنة. وهكذا لم يجنى سكان القطاع التقليدى من القبائل الرعوية وغيرهم من تلك السياسات الخاطئة سوى الكوارث الاقتصادية والاجتماعية المدمرة التى ادت الى هلاك اعداد هائلة من الثروة الحيوانية.
اما الموارد الطبيعية ، والتى تهم مواطنى الغرب بصفة خاصة، فلم ينفق عليها الا اقل من 3% من جملة مخصصات القطاع الزراعى ( 1977-1984 ) و صرف اغلب ذلك المبلغ على بنود غير انشائية رغم تعدد الاطراف الاجنبية التى مولت ذلك مثل منظمة الساحل التابعة للامم المتحدة وبرنامج الغذاء العالمى. والادهى وامر ان الحكومة عجزت حتى عن توفير الحد الادنى من الاحتياجات الاساسية لتسيير العمل بتلك المشاريع وحولت بنود الصرف التنموى الى صرف جارى لمقابلة المرتبات وكانت النتيجة ما نشهده من تدهور بيئى متزايد يوما بعد يوم.
فترة الديمقراطية الثالثة ( 1986-1989):
تميزت الفترة بالصراع السياسى الحاد فى المركز للانفراد بالسلطة واهملت الاقاليم كلها تماما وفى مقدمتها دارفور. ورغم ضغوط نواب دارفور على قيادة حزب الامة وعلى الحكومة للاهتمام بقضايا الاقليم الا ان نتائج ذلك كانت مخيبة لامالهم ولامال ابناء دارفور. وابرزت حكومة المركز قدرة عالية ، لا تحسد عليها ، على عدم الجدية وقلة الاهتمام. كما تميزت تلك الفترة بان الهم التنموى ، بالنسبة للمواطنين، تراجع للمرتبة الثانية بعد انفجار النهب المسلح والصدامات القبلية بشكل عنيف ، غير مسبوق، بين بعض العرب والفور. وقد ساهمت تلك الاعتدءات فى تدمير اجزاء هامة من البنيات الاساسية، الضعيفة اصلا، وعطلت الحياة الاقتصادية العادية. بالاضافة للاثر السالب على مجمل النشاط البشرى جراء اقتتال الفصائل التشادية داخل الاراضى الدارفورية تحت سمع وبصر السلطات المركزية ان لم يكن نتيجة لتواطؤها مع بعض الاطراف الليبية/التشادية. ليس ذلك وحسب بل هنالك الاثر الافتصادى لالاف اللاجئين التشاديين الذين تقاسموا لقمة العيش مع مواطنى دارفور.
ورغم استقالة اثنين من نواب الجبهة الاسلامية احتجاجا على مواقف حزبهم من قضايا الاقليم وتحالفه مع حزب الامة وبعض القبائل العربية ضد الفور الا ان الجبهة الاسلامية لم تغير موقفها السياسى وكان ذلك احد الاسباب الاساسية لتململ داؤود يحى بولاد ، منذ الديمقراطية الثالثة، ونقده المتكرر لقيادة حزبه ( الجبهة الاسلامية).
انعدمت خلال تلك الفترة المجهودات المركزية الهادفة لتطوير دارفور او توفير احتياجات المواطنين الاساسية. و من الجانب الاخر ،اصبحت الهموم الاساسية للمواطنين منحصرة فى توفير الحد الادنى من متطلبات المعيشة وصارت سلع اساسية مثل السكر والجاز الابيض والجازولين غالية بشكل لا يطاق.
والاسوا ان المنطقة شهدت تراجعا حتى عن ماتم تحقيقه، رغم انه كان يشكل اقل من الحد الادنى. وكمثال قامت الحكومة ووزير تجارتها الدكتور على الحاج بالغاء امتياز شركة الحبوب الزيتية ( رغم كل النقد الموجه للشركة لقصورها عن اداء واجبها). وهكذا تم ازاحة الشركة، مما فتح الباب واسعا امام كبار تجار الحبوب الزيتية ليراكموا الارباح والثروات على حساب المنتج الصغير فى غرب السودان حيث يتم الشراء منه بابخس الاسعار عند موسم الحصاد وذلك لاحتياجه الملح وعدم توفر صوامع التخزين.
فترة حكومة الانقاذ ( 1989 حتى الان):
واصلت حكومة الانقاذ الاهمال التاريخى للغرب عامة ودارفور خاصة ولكنها اضافت اسلوبها الخاص الذى تميزت به عما عداها الا وهو الانجاز من خلال اجهزة الاعلام وليس فى الواقع. فالمشروع الوحيد الذى بدا به فى الغرب صاحبه ضجيج اعلامى ضخم الا وهو طريق الانقاذ الغربى. والغريب ان هذا الطريق ( ما نفذ منه) تم تنفيذه باموال المواطنين حيث تم بيع سكر الغرب لسنوات مما حقق اموالا طائلة لانجاز الطريق الذى لم ينجز. ثم تطايرت الاتهامات حول اموال الطريق وصرح احد دهاقنة الانقاذ علنا " خلوها مستورة" وهكذا "فقه السترة" يحقق الثراء الحرام والنهب المصلح ويحرم المواطنين من ابسط حقوقهم المشروعة.
وقد اصدرت حكومة الانقاذ قانون الاستثمار لسنة 1990 والذى اعطى امتيازات واعفاءات وتسهيلات لراس المال المحلى والاجنبى. كما قنن توزيع ملايين الافدنة دون اعتبار لحقوق واحتياجات السكان المحليين من زراع ورعاة. وكمثال منحت الحكومة 3.5 مليون فدان فى جنوب دارفور للتجار وكبار موظفى الخدمة المدنية وضباط القوات النظامية ورجالات الدارة الاهلية ( تحوى قائمة المشاريع المصدقة حوالى 434 اسما معظمهم من الفئات المذكورة). وقد تم ذلك دون اجراء اى دراسة للاثار السالبة لتجربة مشاريع الزراعة الالية بمنطقة هبيلا بجبال النوبة.
وتميزت فترة الانقاذ بالتراجع التنموى ( ان صح التعبير) عن طريق البيع والخصخصة. حيث شهد عهد الانقاذ انهيار مشروع جبل مرة بعد ان عصفت به الخصخصة وبيعت المكاتب والمنازل فى زالنجى وبيعت العربات فى دلالات عربات الخرطوم. كما توقفت مدبغة نيالا ومصنع النسيج. وكذلك تراجع الاهتمام السنوى بضبط مياه الخيران ( وهى تجربة ناجحة طورتها مساعدات جمهورية سكسونيا الالمانية). وزيادة فى التراجع فقد توقفت العيادات البيطرية المتحركة ومشروع تحسين الماشية وتسويق الالبان.
ولم تنشئ الانقاذ اى مشروع تنموى حقيقى بدارفور وهو من اكثر اقاليم السودان التى اهملت فى الماضى ولكن الانقاذ على استعداد لصرف 3 مليار دولار لانشاء سد مروى لانتاج الكهرباء. وهنا يجدر بنا ان نتعرض لحجة عدم توفر الامكانيات فى ظل رفع الدولة ليدها عن كل الخدمات الضرورية، رغم انها اكثر حكومة فرضت ضرائب بمسميات مختلفة على المواطنين. وهنا يقفز للذهن سئوال عن مصير مليارات الدولارات التى نتجت عن استخراج البترول وتصديره لمدة عشرة اعوام كاملة؟
أما اكبر اسهامات الانقاذ فى تعميق التهميش بدارفور هو ما قامت به لتغيير الخارطة السكانية بالاقليم. ابتدأ هذا فى عام 1990/1991 باقامة ادارات لقبائل عربية قادمة من تشاد داخل اراضى المساليت وتعيين امراء لتلك القبائل ومنحهم حق توزيع الاراضى على مواطنيهم وعندما احتج المساليت تم قمعهم بعنف مفرط. ثم امتد المخطط لقبيلة الفور عن طريق دعم بعض القبائل العربية لمواجهة الفور تحت شعار مواجهة التمرد المسلح. وخلال تلك الحملة تم حرق مزارع الفور واقتلاع اشجارهم المثمرة ونهب ممتلكاتهم وقتل حيواناتهم وحرق قراهم وقتل ابناء القبيلة. وهكذا انفتحت ابواب الجحيم على دارفور.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.