[email protected] أصبح انفصال الجنوب الوشيك من حقائق السياسة المعارضة المعتمدة. بل دب شيء من هذه الحقيقة في أحاديث بعض رموز الحكومة. ويستغرب المرء لهذا التواضع على أن بلادنا مقبلة على أم الكوارث، الشتات، مع أنه مجرد تكهن. بدأ هذا التخرص بنسبة مئوية راقت للسيد باقان أموم مفادها أن 99% من الجنوبيين سيصوتون للانفصال. ثم صار حدس الرجل فينا عقيدة. والمؤسف أننا قبلنا قدر تفرق البلد كالقضاء لانطلب رده ولكن اللطف فيه. واللطف فيه هو التوقي من شروره بالكونفدرالية. ولم أقرأ فكرة تستدرك هذا المصير سوى ما أذاعه الدكتور حيدر إبراهيم وزملاؤه يدعون إلى تمديد الفترة الانتقالية حتى لا نسجن أنفسنا في مواقيت نيفاشا غير الواقعية المفضية إلى الهلاك. وقد لف مذكرة حيدر ورفاقه صمت رهيب. وعلى رأي المثل: فطب نفسً إذا حكم القضاء. أنا استصعب الانفصال جداً. ولست أملك نسبة مئوية منافسه لنسبة باقان. ولكني مؤرخ أقرأ لوحه وأفتي ما وسعني. ولم أجد فيه دليلاً جاهزاً يرشح تفرق بلدنا أيدي سبأ. بل كلما تأملته رأيت إن الذي سرى عندنا هو قانون الوحدة لا قانون الانفصال. وأريد هنا تخصيصاً أن اقف مع القاريء على عبارة نبيهة وردت على لسان الدكتور منصور خالد عن منطق الوحدة العجيب في السودان. قال منصور إن السودان لم يتفرق بينما تفرقت دول قماشتها القومية أمتن منه. ففد تفرقت يوغسلافيا إلى دول وانشقت أرتيريا عن أثيويبا والسودان باق. حدث هذا برغم أن حرب الجنوب أقدم من حرب أرتريا وأثيوبيا ومن حروب يوغسلافيا الحديثة. والأعجب أن روابط الإرتريين والأثيوبيين الثقافية (المسيحية) أوثق من مثيلاتها السودانية في الشمال والجنوب. وحتى المسلم الصربي البوسني أقرب تاريخياً وثفافيا إلى الصرب الكاثوليك من الشماليين بالنيليين السودانيين. ومع ذلك تماسك الأثيوبيون والإرتريون الحزز وتفرقوا دولا. وجرى نفس الشيء للبوسنة والصرب. ونجا السودان حتى تاريخه من مثل مصائرهم. مثل خاطرة منصور الذكية هي مادة للتأمل والتفكير متى استشكل علينا أمر الوحدة والانفصال. وهذا شغل المثقف لا أكل ولا شرب. ولكن مثقفنا مضرب عن وجع العقل الذي يصنع الأفكار الكبيرة. وقف منصور على هذه الخاطرة العصماء ولكنه تخلص منها ب"غرائب" الصفوة السودانية التي تستعصي على النظر المقارن و تحول الأمور الداعية للتفكر إلى طيلسان. فأنظر قول منصور: " على أن الذي يصيب المرء بخبال هو أن الحالة السودانية، على خلاف كل النماذج التي أشرنا إليها، هي حالة متميزة." لماذا؟ لأن من دعوا للإنفصال في أرتريا والبوسنة حل محلهم في السودان من استماتوا في طلب الوحدة بشروط جديدة مثل حركة قرنق الشعبية. بينما احتل دعاة الانفصال في السودان من حيث النفوذ منزلة دعاة الوحدة البوسنة ووأثيوبيا. اي أنهم كانوا في الأقلية. قال منصور عن "شذوذ" السودان هذا إنه يصيب الشخص ب"الخبال". ولا أدري لماذا؟ كل ما في الأمر أننا في المقارنة المعقودة وجدنا السودان حالة مستثناة من قانون تفرق الدول. وهذا ما يسمى في البحث ب (anomaly). وهذا الشذوذ مثير لأنه يفتح للباحث أفقاً لتفكير مبتكر عن الظاهرة موضوع البحث. ولكن صفوتنا لا تحسن البحث السياسي المقارن وتسوط في شبر موية السودان وتبوط. ومتى وقعت على مادة لمعالجة المستثني أصابها الخبال. وهذه عودة من الغنيمة بالإياب. قال الدكتور آدم الزين مرة أنه بوسعنا احتواء مسألة دارفور بالبحث. ولكن أصابنا الخبال وجرت دماء كثيرة تحت النهر.