هي تجربة شخصية لكنها تعكس أجواءً مضطربة تعيشها العلاقة بين السلطة والصحافة في السودان.. تجربة مثلت اختبارا حقيقياً لإعلان الحكومة السودانية بسط أجواء الحرية للصحافة والعمل السياسي الحزبي توطئة للوصول لحلول ناجعة لانسداد الأفق السياسي في البلاد.. هذه الأجواء استغلتها الصحافة السودانية لأبعد مدى وطرحت قضايا الفساد بجرأة كبيرة.. قضايا تورط فيها عدد من المنتسبين للنظام في مختلف مستويات المسؤولية.. في نهاية الأسبوع قبل الماضي كشفت صحيفة الصيحة السودانية عن قضية فساد في مصلحة الأراضي اهتز لها عرش وكيل وزارة العدل وهو مسؤول رفيع في جهاز حساس معني ببسط العدالة.. وكيل العدل كان مديراً لمصلحة الأراضي لعدة سنوات قبل تعيينه في منصبه الحالي.. والرجل كان محل اتهام الصحيفة باستغلال نفوذه والحصول على عدد كبير من قطع الأراضي كما أنه وباعترافه مارس التجارة والبيع في قطع الأراضي إبان توليه منصب مدير عام الأراضي.. المستندات المرفقة للمادة الصحفية كانت دامغة وكافية لإثارة الزوابع حول الرجل الذي قطع زيارة عمل خارجية. في البداية حاول الرجل أن يدير حوارا مع الصحيفة في كيفية الرد على الاتهامات المثارة حوله، وتوصل الطرفان إلى إجراء حوار معه حول ما نسب إليه.. الوكيل أكد أنه وبرغم من كونه رجل قانون لا يحبذ رفع دعوى ضد الصحيفة، وفي الوقت نفسه أكدت الصحيفة أن الحوار ليس حوار علاقات عامة لتبييض ساحة الرجل بل سيكون ساخناً متضمنا أسئلة محرجة في موضوع الاتهام.. وأجري الحوار بالفعل وتضمن اعترافات خطيرة من جانب الوكيل.. لكن هذا (الوفاق) بين الصحيفة والوكيل لم يستمر كثيراً، حيث انقلب الرجل قبل نشر الحوار بساعات وطلب تأجيله لليوم التالي حتى يراجع ويعدل بعض إفاداته وبعد رجاءات متكررة من جانبه منح هذه الفرصة.. شخصيا – رئيس التحرير – لم أكن مقتنعا بالتبرير وكان لدي إحساس طاغ بأن الرجل يدبر أمراً لا نعلمه وليس في صالح الصحيفة.. في اليوم التالي الذي شهد تأجيل الحوار تقدم الرجل ببلاغ في نيابة الصحافة ضد رئيس التحرير وفي الوقت نفسه دعا بشكل عاجل لمؤتمر صحفي يعقده في مباني وزارة العدل، ودعا فيه فيما دعا رئيس تحرير صحيفة الصيحة.. ولأن القضية المنشورة أثارت ردود فعل كثيفة فقد كان الحضور مميزا كما ونوعا. قبيل انعقاد المؤتمر بنصف ساعة بعث وكيل الوزارة بخطاب مروس رسمي يحمل ختم الوزارة إلى رئيس تحرير الصيحة يطلب فيه رسميا منع نشر الحوار الذي أجري معه.. عند بدء المؤتمر الصحفي كان أمر القبض على رئيس التحرير صادرا وبحوزة شرطيين بلباس مدني خارج الوزارة.. استهل المؤتمر بالآية القرآنية الكريمة التي مستهلها (إذا جاءكم فاسق بنبأ..) وظل الموظف المكلف بإدارة المؤتمر الصحفي يكرر مبتدأ الآية (إذا جاءكم فاسق..) عدة مرات في إشارة إلى فسق الصحيفة.. تحدث الوكيل مدافعاً عن موقفه نافيا جملة وتفصيلا التهمة الموجهة إليه.. بعد مرافعته طلبت الفرصة للحديث وبعد محاولات متكررة منحت الفرصة وبنيت مرافعتي على اتهام الوكيل باستغلال نفوذه للمرة الثانية كوكيل لوزارة العدل لإدارة معركته مع صحيفة الصيحة.. وقلت إن الصحيفة ليس لها مشكلة مع وزارة العدل إذ إن الاتهامات الموجهة للرجل تشمل فترة سابقة لتوليه منصبه الحالي.. وهو الآن يعقد مؤتمراً صحفياً من داخل وزارة العدل كما أنه بعث بخطاب بختم الوزارة يطلب فيه عدم نشر حوار أجري معه في موضوع ليس له علاقة بوزارة العدل.. بعدها أعطيت فرصة واحدة وأنسحب الرجل من المؤتمر وعشرات الصحفيين يرفعون أيديهم طالبين الحديث والاستفسار. بعد انتهاء المؤتمر بتلك الطريقة الدرامية توجهت لمقر الصحيفة وفي الطريق اعترضني الشرطيان اللذان يحملان أمر القبض واقتاداني مباشرة إلى نيابة الصحافة.. توقيت الاعتقال (الساعة الرابعة عصرا إلا قليلا كان مقصودا في حد ذاته إذ تغلق النيابة أبوابها لانتهاء الدوام والخيار أن أبيت ليلتي في الحراسة حتى اليوم التالي حيث يبدأ دوام جديد للنيابة وهي بالطبع جهة حكومية تتبع لوزارة العدل ووكيل النيابة موظف حكومي يأتمر بأمر وكيل الوزارة محل الاتهام.. انتشر خبر الاعتقال بسرعة في أوساط الصحفيين وتحرك عدد من رؤساء التحرير مستنكرين طريقة الاعتقال التي تتم لأول مرة بهذه الطريقة الفظة فضلا عن إيداعي كرئيس تحرير في إطار مسؤولية تقصيرية في أسوأ الاحتمالات مع عتاة المجرمين ومرتادي الإجرام.. تحركات الزملاء دعت المدعي العام يتحرك بسرعة ويأتي لقسم الشرطة ويقدم اعتذارا لطيفا بعد إخراجي من السجن إلى أحد مكاتب قسم الشرطة واستدعى وكيل النيابة الذي كان قد أغلق هاتفه ربما بإيعاز من جهة ما وعاد كل طاقم النيابة في الثامنة مساءً واستمر التحري حتى الحادية عشرة مساءً حيث أطلق سراحي بالتعهد الشخصي. مما يؤكد تعسف الوكيل أن استدعاء الصحفيين كان يتم عبر الهاتف وتتم إجراءات التحري في أقل من ربع ساعة ليعود الصحفي لممارسة مهامه ريثما يقرر وكيل النيابة إحالة البلاغ إلى المحكمة أو شطبه.. لم يحدث أن قبض على صحفي بتلك الطريقة إلا منذ حوالي عشر سنوات ولولا خشية الحكومة من تطور القضية في اتجاه في غير صالحها نتيجة لتحركات الصحفيين واتحادهم لبقيت في السجن حتى اليوم التالي وهذا ما قصده خصمي وكيل الوزارة لعل ذلك يكون فيه (زجرا) للصحافة حتى لا تقدم على انتقاد مسؤول في تلك الدرجة. [email protected]