الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    وزير التربية والتعليم بالشمالية يقدم التهنئة للطالبة اسراء اول الشهادة السودانية بمنطقة تنقاسي    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    عقار: بعض العاملين مع الوزراء في بورتسودان اشتروا شقق في القاهرة وتركيا    عقوبة في نواكشوط… وصفعات في الداخل!    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    سلسلة تقارير .. جامعة ابن سينا .. حينما يتحول التعليم إلى سلعة للسمسرة    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مهارب المبدعيين... أم ريادات وطنية غير واعية؟ ... بقلم: طاهر عمر
نشر في سودانيل يوم 19 - 05 - 2014

في محاولة الدكتور النور حمد في سفره مهارب المبدعيين نجد مراوغة النخب وحوارها لنفسها كما حوار الصحراء لأطرافها كما أورد الروائي الليبي أحمد أبراهيم الفقيه. الهدف من كل الحوارات هو الأحتفاظ بالأفضلية دون تحمل المسؤولية ودون تقديم أي جهد يدل علي الافضلية للأقلية الخلاقة. لذلك نجد أن المقدمة للكتاب تمتاز علي الكتاب وتبزه لان الكتاب لا يقوم علي فكرة لأحد من سماهم الدكتور بالهاربيين.
فالمقدمة لكتاب دكتور النور من قبل الأستاذ عبدالله الفكي البشير أدخل بها كتاب دكتور النور الي الكتب التي تعتبر مقدمتها تكاد تبز الكتاب نفسه كما مقدمة نقض العقل المحض ومقدمة أبن خلدون ولكن مقدمة نقد العقل المحض قد خطها قلم المؤلف نفسه وكذلك الحال مع مقدمة إبن خلدون.
وطبيعي أن يجد جهد الدكتور النور حمد الإستقبال الحار مع الفارق الذي يضر بالكتاب أكثر من أن يرتفع بالكتاب الي مدارج النقد الذي يرتقي بمسار الحركة الأدبية في مسارها ومع تحديد إتجاهها الصحيح. وهذا يدل أن الدكتور قد أكد علي أستمرارية الكسل الذهني للنخب وساعدهم علي أن يرقدوا عافية كما يردد الشاعر أسامة الخواض.
من من شعراء النور الهاربيين قد جاء بالجديد وأحتاج إنتاجه أن يفتح الباب لحقبة غير مسبوقة بعهد؟
فدكتور النور في كتابه مهارب المبدعين قد جسد حالة الوصف الذي يعتبر أول العلم. ففي كتاب النور يظهر إضطراب محمد المهدي المجذوب في مسألة مريسته كما اضطراب صلاح أحمد إبراهيم في خمرة باخوس. ماذا ينبغي أن ينتظر المجتمع من شعراء بهذا الإضطراب والضعف في تحدي أنفسهم هم كشعراء؟ إذا كان هاربين الدكتور النور حمد لم يستطيعوا حماية أنفسهم من مجتمع يحتاج لمساعدتهم فكيف ننتظر منهم أن يقدموا للمجتمع ما يصلحه. فشعراء النور ضحايا ضعفهم وضعفهم نتيجة لغياب المعرفة الحقة.
الهاربون اليوم كثر من المبدعين. فهناك الذين يبنون نقدهم علي المطلق في زمان النسبي. فمثلا, مازال الدكتور حسن موسى يظن حينما يتكي على فكرة إنتهاء الصراع الطبقي قد سبر غور الماركسية. وقد فات علي الدكتور حسن موسى كما يوضح ناقدي الماركسية - الذي فات على ماركس نفسه- من تطور في جانب الفردانية. وهذا ضعف ملازم للدكتور حسن موسى يساوي ضعف المبدعين الهاربين لدكتور النور حمد. ففي زمان يتحدث المفكرون عن الحكومة العالمية وفكرة الإقتصاد الإيجابي تجد مثل الدكتور حسن موسى يتحدث عن الماركسية من منازلهم حاله كحال محمد المهدي المجذوب في إضطرابه الذي جعله يتوج كاهن الغابة والصحراء في زمان قد شغلت العالم هموم قد تجاوزت ذكاءهم الذي إنحصر في التفلسف علي أطار المحلي.
أري أن كتاب النور يحمل عنوان لم يتضمن معناه. داخل الكتاب تحدث عن شعراء ولم نجد إي عرض لنظريات سياسية ولا إقتصادية ولا تاريخ إجتماعي يجسد واقع الحال. بحث النور ومحاولة حسن موسى لنقد كتاب النور تجسيد لطريقة إدوراد سعيد وهو ابن عم لهما في التخصص في نقد الموسيقى. لذلك جاء كتاب الإستشراق لإدوارد سعيد خادم للإسلاميين أكثر من خدمته للتنوير. وكما يقول مأمون فندي هذه مشكلة ادوارد سعيد باحث بلا رخصة فهو يذبح "كيري". كذلك كان حال الدكتور النور حمد عندما تحدث عن شعراء ووضعهم في خانة الإجتماعيين والسياسيين والاقتصاديين ويريد منهم مجهود السياسيين والاجتماعيين أو الإقتصاديين, أو قل أدبا لا يتردد أحد في مناداتهم- بسبب رفعته-بالفلاسفة كما ألبرت كامي او سارتر. الدكتور النور بهذا الجهد قد ساعد على التطفيف الذي تمارسه النخب غير الواعية في السودان من حيث لا يدري وكذلك الدكتور حسن موسى.
التجاني يوسف بشير لم يستطع إنقاذ نفسه وكذلك معاوية محمد نور. فمثلا شيلي كشاعر لم يرضخ الي ضغوطات الكنيسة ولا سلبيات المجتمع وإستكانته. فقد دافع عن أفكاره وأخرج أفكاره التي تتحدث عن ضرورة الإلحاد كتحدي للكنيسة. أين شيلي من محمد أحمد محجوب الذي تسيطر عليه فكرة هيمنة الثقافة العربية والإسلامية بكل معاناتها من صدمة الحداثة؟ بل هو نفسه أي المحجوب ضحية عدم وعيه بأن فكره ماهو إلا ردة فعل لصدمة الحداثة للعالم العربي والإسلامي الذي يقض في نوم عميق منذ الاف السنيين. لم نر من مبدعي النور أي اشارة تدل على انهم إستوعبوا أن عهدهم ليس مسبوقا بعهد ويبنغي مواجهة قضاياه بفكر يقوم علي مرتكزات الحداثة التي أصبحت كشاف للبشرية. لذلك لا نستغرب أن نجد محمد ابراهيم الشوش - حارس الدولة الدينية وكاهنها- يستدل بأشعار شيلي صاحب أفكار ضرورة الإلحاد كاستعراض يضع الشوش في مقام لم يبارح فيه مقام النقد التاثري ايام طه حسين والعقاد. وهل يختلف عنه النور حمد الذي يرى في شعراء الهروب من قضايا مجتمع لم يمتلكوا أدوات لحل معضلاته ولا فلسفة ولا أدبيات السياسة أوالإجتماع أوتاريخ الفكر الإقتصادي؟
أما حسن موسى منتقد النور حمد متوكئ علي الماركسية كما موسى وعصاته. الفرق بين النبي موسى ان عصا موسى قد افرقها من الفهم الفرعوني للعصاة وأدخلها في تحدي الثقافة الفرعونية, أما حسن يستخدم العصاة ضد فرعون بنفس مدلولها عند فرعون نفسه. وهنا نجد ان موسى مبدع هارب وعاد بالجديد الذي يتحدى القديم حينما هرب بعد ان قتل المصري وذهب الي الصحراء وعاد بالجديد وحسن يقول في نقده للنور أن الهارب لا يعود. فالهارب يعود ياحسن بالجديد أما الهارب الذي لا يعود فهو الذي لا يمتلك أي جديد وهذا حال أنتظار النور للحل من شعراء ليس لهم أدوات لحل قضايا المجتمع. فحال النور كحال الذي ياتي ولا ياتي كما يقول عبد الوهاب البياتي.
وهنا نقول ان الذي ياتي من مبدعي النور الهاربين هو الذي ياتي او المتوقع ان ياتي من المجتمع السوداني اي المبدع الشاعر الذي لم يمتلك ادوات حلول لمشاكل المجتمع. او الشاعر المبدع المضطرب مثل حالة صلاح في خمرة باخوس وخوفه من غضب الآلهة او تمني المجذوب ان تكون له القوة ان يستطيع ان يشرب خمر الزنج وتميد رجليه بالرباب وهنا يظهر بؤس المجذوب وصلاح احمد إبراهيم. هنا يعكس كل منهما نفسه كضحية لا حيلة له. فاي شئ ننتظره من الضحية الذي لايستطيع إسعاد نفسه دون تبكيت ضمير بعكس شيلي حينما صرح بضرورة الإلحاد و لم يعكس نفسه كضحية؟
إن مبدعي النور لم تكن لهم قضية او نظرة للوجود كحال ابي العلاء المعري و هو يعتبر تنويري. وكشيلي الذي لم يستطع تاريخ الفكر الإقتصادي تجاهله, أو كشارلس ديكنز في قصة مدينتين, أو هولدرليين في أشعاره التي تنوء بالفلسفة التي عكسها الفيلسوف هيغل في فينومونولوجيا الروح حتي اصبح مشاعا أن الفلسفة والشعر لم يتجاورا في أي يوم من الايام كما تجاورتا في ِعهد هولدرليين وهيغل. فالفيلسوف هيغل كان ممسك بيد الشاعر هولدرليين ولم يتخل عنه إلا حينما سقط نهائيا في ليل الجنون!
أين الفلاسفة الذين يمسكون بأيدي الشعراء في السودان. ثم ياتي النور منتظرا الخلاص من شعراء احوج للشفقة لانهم عكسوا أنفسهم كضحايا! ماء الصخرة كقصيدة لهولدرليين كانت الدرة التي يبحث عنها الفيلسوف هيغل فاين الفيلسوف المصاحب لشعرائنا الذين يعكسون ألامهم السلبية كما يقول الشاعر بابلونيرودا؟ فشعراءنا عاشوا علي الذهني الذي انطفاء دون أن يبلغ المعاش في حيز المكان. لان العقل السائد عقل التجريد الذي يرفع الإنسان عن واقعه المعقد في وقت يحتاج واقعنا الى التراجيدي الذي يجسد حالة الأنسان أمام سؤال الوجود.
مثلما قال رينيه شارل ان زماننا لم يكن مسبوقا بعهد او كما جاء بودلير بالجديد في ازهار الشر, او كما تألق ارثور رمبو في الزورق السكران وترك الشعر كما لم يتركه شاعر من قبل. فالشاعر الذي لم يعكس نفسه كضحية - كحال مبدعي النور حمد- يقول لمجتمعه بعد أن يتحدى عقل مجتمعه الجامد ها قد مهدنا لك فأبصر. فهل مهد لنا شعراءنا لكي نبصر؟ بالتاكيد لا, لان الفيلسوف غاب عن حقول شعرهم عكس حالة الفيلسوف فردريك نيتشة الذي لم يتعرف عليه الفرنسيون إلا كشاعر حتى عام1943 وبعدها عرفه المثقفون الفرنسيون كفيلسوف.
ففردريك نيتشة لم يعجب إلا بالقليل من الفلاسفة والشعراء عبر التاريخ الذي تجسده المغامرة الكبرى للإنسانية. فمثلا نجده يذكر جوته ودوستفسكي وفولتير ويكره فلسفة إيمانويل كانت ويصفه بأنه رجل دين متدثر بثياب الفلسفة ويري في فلسفة كانت الإنحطاط يمشي علي قدمين إثنين! لماذا أحب نيتشة فولتير إذن؟ لأن فولتير هرب وعاش لاجئ ياحسن موسى وعاد وكان يسمع صوت هدير الثورة الفرنسية وكان لا يغشاه الشك في أن التغيير قادم وأن الكنيسة الى زوال وأن الكتاب المقدس سيكون مكانه الرفوف. فأين فولتير من شعراء الغابة والصحراء الذين انتصروا للثقافة العربية الأسلامية في السودان؟ وكانت الغابة والصحراء تجسد أعراض الحمل المؤلمة بخطاب الإسلام السياسي- الخطاب الديني المنغلق- وبالانحطاط الذي يتجسد بسبب غياب النقد الأدبي الذي يحدد إتجاه الحركة الأدبية. وأين فولتير من مبدعي النور حمد واين فولتير من صلاح والمجذوب الذين عاشا في إضطراب؟
يصر الدكتور النور حمد على الإتيان بمبدعيه من مهاربهم ويجعلهم كسحر الحياة خالدا لا يزول. وفي جميع المجتمعات تتعاقب الأجيال في مشهد مهيب في إنتاج الفكر. فمثلا, في فرنسا بمجرد وصول احدهم للقمة, بسرعة يحل أحدهم محله إلا عندنا في السودان يتحدث النور عن مبدعيين قريبا سنتحدث عن مئوياتهم. الناصر قريب الله من مواليد1918 مازال هولاء في القمة في بلاد يسود فيها الكساد الفكري. فبدلا من ان يجتهد هو - أي دكتور النور حمد- ليقدم ما يحتاجه المجتمع السوداني اليوم, يتحدث عن مهارب المبدعيين! والتيجاني كذلك قد مرت مئويته!
أما المحجوب رغم أنه انتقد طه حسين وراى في كتاباته أنفاس أناتول فرانس ولكن المحجوب نفسه إرتضى أن يخدم الطائفية وكان من الذين قد أسسوا لهيمنة اللغة العربية والثقافة الإسلامية بشكل يضعه في مقام واحد مع الريادات الوطنية غير الواعية التي لا تري في التنوع وإحترامه المدخل لحوار الثقافة العربية والإسلامية في حوار مع بقية الثقافات دون أن يكون هدفها الهيمنة على الثقافات الأخرى بسبب الزعم بأنها تمتلك الحقيقة كاملة. ينتقد محمد أحمد محجوب طه حسين إلا أن طه حسين يمتاز عليه بأنه قد كان له مشروع نهضوي- رغم أن الزمان قد تجاوز مشروع طه حسين النهضوي- فأين مشروع محمد أحمد محجوب من مشروع طه حسين؟
يفخر الاوروبيون بأنهم ورثة العقل الإغريقي والروماني. والعقل الإغريقي والروماني منبعث من أساطير الإغريق ومجسد حيل العقل ومكر التاريخ لذلك مازالت للفكر الأوروبي نوافذ يطل بها علي أسئلة الوجود. فألبرت كامي في العبث الفعال إنتصر للحياة! وفي كتاباته جعل الإنسان مواجها لنفسه لذلك لم يستسلم أبدا فكان وحيه من أسطورة سيزيف جاعلا منها صورة لحياة الإنسان العادي وفيما يقابله في الواقع اليومي المعاش. فحكم الآلهة لا يشغل سيزيف من أن يستمتع بالحياة. ففي صراعه للصخرة وتدحرجها من القمة متعة الحياة عند سيزيف ريثما يعود الى الأسافل ليعاود الكرة. ومبدعي النور لايستطيعون إسعاد أنفسهم دون تبكيت! أولم يحن الوقت الي مفارقة الخطاب التجريدي غير المكافئ للحالة الإنسانية التي تحتاج الي التراجيدي كما في أبداع ألبرت كامي.
ذات يوم كان السودان جزءأ من العالم القديم وجزءأ مؤثرأ في ثقافة البحر الأبيض المتوسط أيام الفراعنة السود. يستطيع الشعب السوداني الأخذ من تراث الإنسانية وخاصة في زماننا هذا حيث يتحدث العالم عن الحكومة العالمية وفكرة الإقتصاد الإيجابي. وسوف لن نستطع الإنسجام مع العالم إلا إذا إستلف السودان جزءا مما أعطاه الى تراث الإنسانية أيام كان الفراعنة السود جزء فعال في العالم القديم أي أيام ثقافة البحر الأبيض المتوسط. فالفراعنة السود كانوا أمة ذات قوة وشدة ودوس. ليسوا ضعفاء ينتابهم تبكيت الضمير من فكرة البحث عن السعادة كصلاح في ي امريا وخمرة باخوس, أوالمجذوب في تمنيه شرب خمر الزنج وارجل تميد بالرباب! فمن تراث الإنسانية يستطيع الشعب السوداني الإنتصار على الخطاب التجريدي الذي يقيد صلاح والمجذوب والمحجوب. ولكن أوروبا لم تفتخر بانها وريثة العقل الإغريقي الروماني إلابعد غربلة التراث والإنتصار علي الكنيسة التي حكمت لألف عام.
اليوم العالم يتخلق ليولد من جديد ويمكن أن نقول أننا نسير باتجاه نقاط الأنقلاب حيث يولد الفلاسفة والحكماء والأنبياء كما يقول المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي. فعلي الشعب السوداني أن يبتدر محاولة العمل الهادف بوعي يسوق شعوب السودان باتجاة مسيرة الإنسانية بدلا من إنتظار من يأتي من مهارب المبدعيين.
يذكرني كتاب النور بقصة عنترة وهل غادر الشعراء من متردم, ولكن رغم هذا السؤال جاء عنترة بالجديد في كل بيت من معلقته ذات الثمانية وتسعين بيتا وهذا ما جعلها تختار كمعلقة. ولكن في مهارب المبدعيين لم نر الجديد الذي أتى به عنترة! بل راينا القسور الذي يحجب التلازم مع فكرة الإنسان المتفوق, لذلك كان حال مبدعي النور بائسا يجعل فردريك نيتشة يضحك من بؤسهم, بل يصفهم بمروجي فلسفة العبيد.
ولكن مهلا ففردريك نيتشة قد ضحك من سقراط وإفلاطون في عالمه المثالي فما بالك من شعراء كصلاح أحمد ابراهيم ومحمد المهدي المجذوب- مضطربين لا يستطيعان إساعد نفسيهما دون تبكيت ضمير. فردريك نيتشة يرى في الثقافة اليهودية والمسيحية الأم الشرعية لترويج ثقافة العبيد. فكذلك يرى في الثقافة الإغريقية بتعدد آلهتها الحقبة الذهبية. إذا أمعنت النظر تجد أن محمد المهدي المجذوب ,حينما يتمنى أن تكون له القوى أن يشرب خمر الزنج وتميد قدميه بالرباب, يوافق فردريك نيتشةعلي فترة الحقب الذهبية ولكن يفتقر للشجاعة التي يسبقها الراي التي يمتاز بها فردريك نيتشة!
والحقب الذهبية التي تقابل عوالم فردريك نيتشة عندنا تقابلها أساطير الخصب في حضارة الفراعنة السود في السودان. ونفس أساطير الخصب عند الفراعنة السود الكامنة في أعماق صلاح أحمد إبراهيم قد أعانته ودفعته دفع أن يمتدح خمرة باخوس ولكن بضعف إكتسبه من الثقافة العربية الإسلامية وموقفها من الخمر وأساطير الخصب. فردريك نيتشة كمبدع هارب عاد بالجديد الذي إنتقد العقل وقد أصبحت أفكاره مهدا لكل أفكار مابعد الحداثة.
بالعكس نجد أن مبدعي الدكتور النور حمد ,دعك من أفكار مابعد الحداثة, بل صدمة الحداثة, جعلتهم بهذا الضعف والوهن الذي جعلهم يطرحون أفكارا ترتكز علي الدين والعرق في مواجهة الحداثة كتشنجات مآلها الزوال ولكن مازال ضجيجها عاليا في خطاب الإسلاميين والعروبيين والطائفية ومدرسة الغابة والصحراء وفكرة الإحياء وفكرة أهل القبلة وفكرة الوسطية.
فمبدعي الدكتور النور حمد هربوا وعادوا للمجتمع بمايزيد غربتهم كمبدعين, عديمي حيلة, بل قيدوا المجتمع بأفكاره بعد ما أكدوا صحتها بخوفهم! فكيف يتحرر مجتمع يتردد مبدعيه في إسعاد أنفسهم وهذا ظاهر في تبكيت الضمير عند كل من صلاح أحمد إبراهيم ومحمد المهدي المجذوب؟
في كتاب الدكتور النور حمد مدح للهاربين الذين لم يحالفهم الحظ بأن يأتوا بالجديد كما جاء بالجديد كل من فردريك نتيشة وفولتير والنبي موسى حينما عاد من الصحراء من هروبه بعد قتل المصري. لذلك نجد كتابات الدكتور النور حمد ونقد الدكتور حسن موسى لها لم تكسر الحلقة المفرغة والمحكمة الإغلاق. فأفكار النور وأفكار حسن موسى الناقدة لها تمثل حلقة مفرغة وهكذا تستمر المماحكة التي تصيبك بالدوار. وداخل هذه الحلقة المفرغة ومحكمة الإغلاق يقبع كل من النور حمد ومبدعيه الهاربيين وحسن وموسى والحبر يوسف نور الدائم وخالد محمد فرح وابراهيم القرشي- كلهم في الهم شرق - متشنج من صدمة الحضارة. وكلهم في الهواء سوا كما يقال في ألف ليلة وليلة.
ربما يخرج الطيب صالح بفضل مصطفى سعيد الذي يتشابه مع مأساة فاوست. وبسبب مصطفى سعيد ربما يحب فردريك نيتشة الطيب صالح كما أحب جوتة. فهل الطيب صالح نيتشوي؟ ربما! ألم تر أن الطيب صالح أحب أشعار المتنبي في آخر عمره كما أنتقده الدكتور أحمد محمد البدوي؟ والمتنبي بشهادة عباس محمود العقاد داروني نيتشوي بمعناها الزائف!
لا أظن أن فردريك نيتشة يستطيع أن يحب عبدالله بولا - أستاذ حسن موسى- ولكن ربما يكون عبدالله بولا قد أحبه حينما إستخدم اسلوب فردريك نيتشة في جينيالوجي دي لا مورال في شجرة نسب الغول التي طافت شهرتها الآفاق. فشجرة نسب الغول لعبد الله بولا يظهر فيها إستخدامه لواحد من أهم طرق فردريك نيتشة للبحث وهي الجينيالوجي وهي طريقة مبتدعها فردريك نتيشة وكذلك أستخدام فردريك نيتشة لفكرة القناع يعتبر بدعة نيتشوية بامتياز.
فكرة هروب المبدعيين هي توضح عدم قدرة مبدعي الدكتور النور حمد علي التفكير الذي يأذن بالفكاك من الخرافة المعششة في رؤوس مبدعي السودان! وحيثما غاب العقل عشعشت الخرافة. فحقبة مبدعي الدكتور النور حمد يسبقها عهد منذ متردم عنترة والسودان منتظر حقبة تأذن بالتغيير ليست مسبوقة بعهد كما يقول رينيه شارل. فالسودان اليوم في أزمة في زمان ساد فيه النسبي والعقلاني. ومازال مفكري السودان يغلب علي تفكيرهم المطلق. فالساحة السودانية أسيرة المطلق الديني الذي يجسده خطاب الإسلاميين والمطلق الذي يجسده خطاب الشيوعيين وبينهم الدكتور النور حمد مع مهارب المبدعيين في إستعراضه لحيلة العاجز.
بقى التنويه الى أن واحدا من أهم مبدعي السودان - رغم جبار الصدف الذي يحول بين الإنسان والحياة التي تنطوي على إرادة القوة - فهو الأستاذ محمود محمد طه! فهو قطعا سيكون من بين الذين يحبهم فردريك نتيشة لأنه قد قابل الموت بابتسامته الجبارة لأن الرجل له إرادة القوة. سيحب فردريك نيتشة الأستاذ محمود محمد طه كما أحب السيد المسيح لأنه يمتلك القوة التي تصب في مجرى الحياة الهادرة رغم أن فردريك نيتشة يرى في المسيحية كأكبر منبع لفلسفة العبيد.
وكما أسلفنا القول فإن فردريك نيتشة قد أحب عددا قليلا من المفكريين عبر التاريخ وعبر المغامرة الكبرى للإنسانية. فحبه للأستاذ محمود سيكون لأن الأستاذ محمود محمد طه قد جسد مقولة نيتشة أن الفيلسوف عدو الزمن الجميل. أن الفيلسوف يمثل الضمير السئ لزمانه وهذا الدور قد لعبه الإستاذ محمود بجدارة. فكان الضمير السئ لزمانه وعدو الزمان الجميل لنخب فضلت الوظيفة والبيت الكبير. فكان محمود مزعجا للنخب التي أدمنت الفشل. نخب لم تتسلح ضد القيم التي لايروج لها إلا العبيد بالمفهوم النيتشوي. لذلك أستغرب من طرح النور حمد- تلميذ الأستاذ- في تمجيده للضعفاء الذين لا يحبهم فردريك نيتشة! أمثال مبدعي النور هم من المروجيين لفلسفة العبيد بالمفهوم النيتشوي.
الأستاذ محمود قد حجز مقامه من بين من يحبهم فردريك نيتشة وياتي من بعده- رغم إضطرابه البادي- الطيب صالح الذي يشابه مأساة فاوست. أما تلاميذ عبدالله الطيب سيزدريهم فردريك نيتشة! أولم أقل أن فردريك نيتشة لم يحب إلا عددا قليلا من الفلاسفة عبر التاريخ وعبر المغامرة الكبرى للإنسانية؟ هل استخدمت القناع النيتشوي كما في هكذا تكلم زرادشت؟ الأستاذ محمود يهدي أفكاره الى الإنسان. وفردريك نيتشة يتوق الى الإنسان المتفوق.
ياشعوب السودان أنهضوا ضد مروجي ثقافة العبيد من أمثال الأمام الصادق المهدي, وحسن الترابي, وعبد الوهاب الأفندي, وعبدالله علي أبراهيم, وكل تلاميذ الدكتور عبدالله الطيب. فمن بين من يحبهم فردريك نيتشة أثنان فقط من السودانيين وهم الأستاذ محمود محمد طه والطيب صالح. أنهضوا إذا أردتم التخلص من فلسفة العبيد التي يروج لها في خطاب النخب الفاشلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.