وصلتني دعوةٌ كريمةٌ من الأخ ياسر يوسف إبراهيم وزير الدولة في وزارة الإعلام، ومقرر اللجنة العليا للإعداد للمؤتمر القومي الثاني للإعلام، للمشاركة في ورشة الإعلام الخارجي، ضمن الورش الإعدادية لهذا المؤتمر. وأحسبُ أنّ الكثيرين لديهم غياب مفاهيم عن الإعلام الخارجي، إذ أن بعضَ المستشارين الإعلاميين في سفاراتنا بالخارج، يحسبون أن دورهم يقتصر على رد الفعل، وذلك من خلال التصدي للحملات الإعلامية ضد الحكومة أو النظام في الخارج، ويغفلون دورَهم الأساسي في إبراز السودان من خلال منظومات عمل مختلفة، تعمل جاهدةً للإفادة من الوسائط الإعلامية والصحافية، في إبراز وجه السودان بصورةٍ إيجابيةٍ. وبعضُ هؤلاء المُستشارين يغفلون – أيضاً - أن أهمية الإعلام تكمن في بسط الحقائق والتعريف بالوقائع المتعلقة بالبلاد التي يمثلونها. ومن المؤلم أننا ابتلينا بعجز بعضهم، لا لشيءٍ إلا لأن بعضاً ممن وضعوهم في واجهات إعلامنا الخارجي، ظنوا - وإنَّ بعضَ الظنِّ إثمٌ - أنهم يمثلون قدراً من انفتاح النظام على الآخر، وسيعملون جاهدين لإعلاء صوت هذا النظام الذي ارتقى بهم تلكم المراقي. ولكن في حقيقة الأمر، أنّ هنالك مفاصلةً نفسيةً، ومباعدةً فكريةً، تُشكل اضطراباً في مفاهيم هؤلاء عن الإعلام الخارجي، فهم أكثر حرصاً على الدفاع عن أنفسهم من بعض النُّعوت التي تُلحق بهم صباحَ مساءَ. ولذلك نجد من تمرسَ في السياسة، وتقلب في التيارات الحزبية والفكرية، يعجز عن رد بعض من هم في درجة تلاميذه، لا لشيءٍ إلا لذاك الانفصام الفكري الذي يعاني منه، فلا هو قادر على دفع الحُجة، ولا هو مقتدر على تقديم رؤىً وأفكارٍ تُقنع مُحاججيه. وفي رأيي الخاص، أن الإعلام الخارجي هو منظومة تحدد أُطرها، وترسم خارطتها وسائطُ إعلامِ الداخل، لأن هذه المزاوجة هي التي ينبغي أن تتكامل في مُعالجة الإشكاليات التي يُواجهها النظام، أو تتهم بها الحُكومة. فالسودانُ منذ أمدٍ بعيدٍ، يغفل أهمية الإعلام الخارجي، بحُجة أنّه مهما بذل من جُهدٍ، فلن يستطيع هذا الإعلام الخارجي من زعزعة معتقدات البعض عن السودان، بدءاً من اعتراض لبنان على دخول السودان في منظومة الجامعة العربية، وانتهاءً باخفاقاتنا الجلية في المحافل الدولية. وعلى الرُّغم من أنّ جاليات سودانية عديدة انتشرت في مشارق الأرض ومغاربها، لم تفلح جهةٌ رسميةٌ في استقطاب هذه الأعداد الغفيرة، لتكون صوتَ حقٍّ للسودان، وليس معولَ هدمٍ له. واستوقفني بالأمس القريبأ أنني قرأتُ مقالاً لأحد المعارضين ذكر فيه أنه كان يتوقع أن يحتل السودان مركزاً متأخراً في التقرير الأميركي الأخير، ولكنه وجد أن التقرير رفع اسم السودان درجةً عن العام الماضي، فأحزنه ذلك بحُجة أنه معارضٌ لنظامِ الإنقاذ، وكانت توقعاته جزءاً أصيلاً من أمنياته لوطنه. فأمثال هؤلاء ينبغي معالجة قضاياهم ومراراتهم عبر وسائط إعلامنا الخارجي، حتى لا تكون الصورةُ عن بلادهم قاتمة للغاية، أو يتمنون ذلك. وأذكر بشيءٍ من الحزن والمرارة، أن كان لي زميلٌ في صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية، إبان عملي فيها لسنين عدداً، يعمل في قسم المنوعات، وفي ذلك الوقت أُنشئت قناة ال"إم بي سي"، في تسعينات القرن الماضي، وبدأت تبث برامجها طوال اليوم من لندن، فوجد صاحبنا سانحةً طيبةً لتقديم انتقاداته الفنية لهذه القناة الوليدة بشكلٍ يومي، مما اضطر رئيس التحرير إلى إنذاره، ودعاه إلى الكف عن نقد تلكم القناة. وشهدته بعد بضعة أشهرٍ فرحاً جزلاً بإنشاء فضائية السودان، فعجبتُ لأمره، فقلتُ له لمَ أنت فرحٌ كل هذا الفرح بالفضائية السودانية؟، فأجابني قائلاً: كل الذي عجزتُ أن أقوله عن قناة ال"إم بي سي"، سأقوله عن القناة السودانية. هكذا يتضح – لنا - جلياً، الصورة النمطية السالبة عن السودان، والاستخفاف بأهله. ومما لا ريب فيه، أنّ هذه الصّورة النمطية السالبة، أسهم بقدرٍ ملحوظٍ في تشكيلها السودانيون أنفسهم، وغياب مفاهيم الإعلام الخارجي عن مؤسساتهم داخل السودان وخارجها. أخلصُ إلى أنّ الإعلام الخارجي الذي يمكن أن يشكل مُضاغطة موجبة، ويزيل تلكم الصورة النمطية السالبة، لا يتأتى إلا بالتّخطيط السليم، وفقاً لأهداف مرجوة، ورؤىً محددة، وتصور متكامل بين المنظومتين الإعلاميتين، الداخلية والخارجية، في سبيل رسم صورة حقيقية للسودان والسودانيين. ومن الضروري – أيضاً - أن نلغي الفهم الخاطئ للإعلام الخارجي، بأنّ من مطلوباته التصدي بالحق وغيره لمواجهة التحديات، بل يجب عليه أن يكون مبادراً، مقراً بالأخطاء، وواعداً بتصحيحها. ومن المهم أيضاً المزاوجة بين الفهم الإعلامي والفهم السياسي، وفقاً لرؤية سياسية، تعمل على إقناع المخالفين، وكسب المؤيدين، وإبراز الوجه الحسن للبلاد خارجياً. وليفهم المسؤولون أنّ الإعلام لم يعد وظيفةً، بل هو صناعة تتكامل مقوماتها، لرسم الخارطة السياسية للبلاد، ويستشكل على الإعلام الخارجي أن يكون فاعلاً، وذا أثر فعّال، بينما إعلام الداخل مُكبلٌ بالقيود، وحظر النشر، ومهمش في تأثيره، ومُغيبٌ عن تشكيل الرأي العام تجاه القضايا الكبرى للوطن. والمأمول أن المؤتمر القومي الثاني للإعلام، سيناقش قضايا الإعلام الداخلي والخارجي بجرأة وحُرية، وصولاً إلى معالجات عاجلة وآجلة، لجعله إعلاماً مواكباً ومُبادراً، ومُشكلاً حقيقياً للرأي العام السوداني، تجاه الكثير من القضايا الوطنية، والتي أحسبُ أنّ من أهمها في وقتنا الراهن، العمل على تسريع خطى الحوار الوطني، وتعجيل انعقاده، لإنفاذ مُبتغاه من أجلِ العباد والبلاد. ولنستذكر في هذا الخصوص، قولَ الله تعالى "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ". وقول الشاعر العربي عمرو بن الأهتم السعدي وكلُّ كَرِيم يَتَّقِي الذَّمَّ بالقِرَى ولِلخَيْرِ بينَ الصّالحينَ طَريقُ لَعَمْرُكَ ما ضاقَتْ بِلاَدٌ بأَهْلِهَا ولكنَّ أَخلاقَ الرِّجالِ تَضيقُ نَمَتْنِي عُرُوقٌ من زُرَارَةَ لِلْعُلَى ومنْ فَدَكِيٍّ والأَشَدِّ عُرُوقُ