لم أستغرب كثيراً عندما قرأت دعوة الأخ كرم الله عباس والي القضارف السابق ورئيس اتحاد مزارعي ولاية القضارف، إلى إنشاء حزب المزارعين، لأن الأحزاب الفئوية أحياناً تُصيب نجاحات كبيرة في العمل السياسي، وتظل حاملةً لرايةِ اسم المنشأ، على الرغم من أن عضويتها قد تخلو تماماً من صفة المنشئين الأوائل. وأحسبُ أن حزب العمال البريطاني وهو حزب سياسي، يُحسب على يسار الوسط في بريطانيا. ويرجع تاريخ إنشائه إلى عام 1900 حين تكونت لجنة لتمثيل العمال في البرلمان، وقد وجد حزب العمال جذوره في تنظيمات خارج البرلمان فقد كان عبارة عن اتحاد لجماعات معينة، ومصالح محددة، تميزت بالتنوع، ومن أهم هذه الجماعات حركة نقابات العمال. وأصبح الحزب منذ عام 1924 ثاني أكبر الأحزاب في بريطانيا، وتولى الحكم لأول مرة في الفترة من عام 1929 حتى 1931 بدعم من حزب الأحرار. وشكل مع حزب العمل الإسرائيلي مثالاً حياً لأسماء الأحزاب التي يبدو عليها أنها أحزاب فئوية، ولكن في حقيقة أمرها أنها ليست كذلك، فقد كان حزب العمال البريطاني في منشئه حزباً أراد به العمال مواجهة الأحزاب المحافظة والأحزاب الليبرالية آنذاك. واختط الحزب في مساراته الأولى توجهاً يسارياً، ولكنه في الفترة الأخيرة ابتعد كثيراً عن طريق اليسار، وصار أقرب إلى اليمين في عهد توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق. كما كان حزب العمل الإسرائيلي عند منشئه يهدف إلى أهداف فيها قدر من المقاربة من حزب العمال البريطاني، إذ أن كليهما أراد الفكاك من قبضة اليمين المحافظ، بالميل يساراً قليلاً، وتبنيا عند تأسيسهما قضايا العمال. فحزب العمل الإسرائيلي هو أحد الأحزاب الرئيسية في إسرائيل وأكثرها وصولاً إلى السلطة في تاريخ إسرائيل، وقد تم تأسيسه عام 1930 من مجموعة من الاتحادات ذات الطابع الاشتراكي باسم ماباي. وكان ديفيد بنغوريون أحد مؤسسيه، وهو الذي أصبح فيما بعد أول رئيس لإسرائيل، انقسم الحزب في تاريخه عدة مرات ليصبح اسمه "حزب العمل" عام1988. وأحسب أن الأخ كرم الله عباس يتجه إلى ما اتجهت إليه أوروبا في مطلع القرن الماضي، ولما كان كرم الله عباس مزارعاً محترفاً، يهوى الأرض والزرع معاً، جاءت دعوته التي أطلقها في مؤتمر صحافي أول من أمس (الأحد) بدار اتحاد مزارعي السودان في الخرطوم، تأكيداً لهذه العلاقة الحميمية مع الزرع والمزارعين، وحجاجه في هذه الدعوة أن جميع الأحزاب السياسية – حكومةً ومعارضةً – لا قيمة لها، ولن تحقق آمال وتطلعات الشعب السوداني، حسب تعبيره. وزاد على ذلك، بأن السلطات السياسية أمعنت في إهمال المزارعين ومحاربتهم، على الرغم من أنهم يمثلون 85% من سكان السودان. وفي رأيي الخاص، أن دعوة الأخ كرم الله عباس إلى إنشاء حزب للمزارعين، تحتاج إلى مزيدِ دراسةٍ، وإلى قدرٍ من الفهم، بحقيقة أهداف هذه الدعوة، حتى لا تكون دعوة حزبية فئوية محصورة في قطاع محدد من السودانيين. وينبغي أن يُفصّل الأمر تفصيلاً سياسياً واعياً – وإن كان الشيطان في التفاصيل – ليستقطب عضويةً من خارج قطاع المزارعين، كما فعل حزب العمال البريطاني. إذا اقتصرت هذه الدعوة على المزارعين وحدهم، ستكون أقرب إلى منظومة نقابية، منها إلى حزب سياسي، يتجه بكُلياته إلى معالجة قضايا السودان من منظور إعطاء أولوية لمعالجة قضايا الزراعة في السودان، باعتبارها الثروة القومية للبلاد. وأكبر الظن عندي، أن الأخ كرم الله عباس انطلق بهذه الدعوة بعد أن فاض الكيل به من الإصلاح، فأراد أن يبحث عن أدوات جديدة، وآليةٍ قويةٍ، لإحداث الإصلاح من خلال الدعوة إلى إنشاء حزب للمزارعين، عسى ولعل أن يتصدى هذا الحزب لمكافحة الفساد، بدءاً من قطاعه الزراعي، ثم الانطلاق إلى قطاعات الإنتاج الأخرى، وإحداث حراك إصلاحي سياسي اقتصادي. وأظن – وليس كل الظن إثماً – أنه أراد أن يراهن على المزارعين في تنظيم أنفسهم في منظومة سياسية، وتهيئة الظروف الملائمة لمواجهة قضايا الإنتاج، برؤيةٍ ثاقبةٍ، وإرادة قوية، مستصحباً في ذلك أن حزب المزارعين المقترح، سينضم إليه الملايين من المزارعين ومن غيرهم، في سعيهم الدؤوب إلى صياغة أوضاع البلاد، ورسم مستقبلها. فلا غَرْوَ أن انتقد الأخ كرم الله عباس بشدةٍ انتشار الفساد بكل أشكاله في مفاصل الدولة، داعياً إلى رؤية سودانية جديدة عبر حزب المزارعين، لتوحيد جهود وقدرات الشعب السوداني في جعل السودان سلة غذاء العالم بحقٍ وحقيقة، عبر تفجير طاقاته الزراعية وإمكانات أرضه البكر الخصوب. أخلصُ إلى أن دعوة الأخ كرم الله عباس ينبغي أن تجد حظها من المناقشة الموضوعية، باعتبارها ماعوناً بديلاً لمواعين السياسة في السودان. ومن الممكن أن يكون حزب المزارعين صانعاً للخلاص الوطني، ومؤثراً تأثيراً إيجابياً في تخفيف المضاغطات الاقتصادية والمالية على العباد والبلاد، بزيادة الإنتاج. كما أنه لا ينبغي أن يترك الأمر على الأخ كرم الله عباس وحده، باعتباره الداعي إلى إنشاء حزب المزارعين، ولكن بتضافر الجهود، وتقديم أفكار ورؤى حول هذا المشروع السياسي الجديد، يمكن إحداث بلورة للفكرة من جهات عديدة تؤمن بأن مثل هذا التوجه يُسهم في إحداث نقلة نوعية في مسار الحراك السياسي في البلاد. ولن يتم كل ذلك إلا بإخلاص العمل، وصدق الإرادة، وفهم الفكرة، ومن ثم العمل على تنفيذها، مستصحبين في ذلك إنشاء أو تأسيس الأحزاب الفئوية التي صارت بعد تأسيسها بسنوات أحزاباً قوميةً، شاركت في الحكم بقدرٍ ملحوظٍ، كما ساهمت في المعارضة بشكلٍ معلومٍ، في إطار التبادل السلمي للسلطة في دول منشئها. فلذلك ندعو الوسائط الصحافية والإعلامية إلى بحث الفكرة ومناقشتها نقاشاً موضوعياً، والبحث عن إمكانية إنفاذها مع مراعاة الظروف المحيطة حالياً بالسودان. ونستذكر في هذا الخصوص، قول الله تعالى: "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ". وقول الشاعر العربي دريد بن الصمة: نَصَحْتُ لِعارضٍ وَأصْحَابِ عَارضٍ وَرَهْطِ بَني السّوْدَاءِ والقَوْمُ شُهَّدِي فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ سَرَاتُهُمُ فِي الْفارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ فَلَمَّا عَصَوْنِي كُنْتُ مِنْهُمْ وَقَدْ أرَى غَوَايَتَهُمْ وَأنَّنِي غَيْرُ مُهْتَدِي أمَرْتُهُمُ أمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى فَلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إلاَّ ضُحَى الْغَدِ