قبل عام من الآن، في الوقت الذي كان فيه مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بصدد الاستماع إلى تقرير خبيره المستقل وتوصياته بشأن أوضاع حقوق الإنسان في السودان، وعلى وجه التحديد في 25 سبتمبر/أيلول 2013، كانت قوات الأمن السودانية تقود حملة قمع عنيفة لإخماد تمرد شعبي اتسعت رقعته بصورة سريعة لتشمل مدن رئيسية في البلاد، بما في ذلك العاصمة الخرطوم. انطلقت شرارة تلك الاحتجاجات إثر إعلان الحكومة عن نيتها تطبيق تدابير تقشف اقتصادي تم بموجبه رفع الدعم عن المحروقات، إلا أن هتافات المحتجين في الشوارع سرعان ما تحولت إلى المطالبة بتغيير النظام و"حرية، سلام وعدالة". وأشارت تقارير منظمات حقوقية إلى مقتل نحو 200 من المتظاهرين السلميين خلال الأيام الثلاثة الأولى من انطلاق الاحتجاجات. رغم ذلك، فإن أقل ما يمكن أن يُقال عن قرار مجلس الأممالمتحدة لحقوق الإنسان الذي تمت إجازته بشأن السودان في ذلك الأسبوع إنه كان ضعيفاً. إذ فشل ذلك القرار في الاعتراف بالعنف المتواصل في مختلف أنحاء البلاد، كما فشل أيضاً في ممارسة المزيد من الضغوط على الخرطوم لحملها على احترام حقوق الإنسان والسعي لتحقيق العدالة بشأن القتلى المدنيين. انتهى الأمر –للسنة الثالثة على التوالي- بقرار حول السودان جاء خالياً من أي بند ينص على تمكين خبير الأممالمتحدة المستقل من الوصول إلى مناطق النزاع وإلى منظمات المجتمع المدني والمدنيين المتأثرين بالأحداث. وعلى الرغم من أن الخبير المستقل أورد في تقريره الذي صدر في الآونة الأخيرة أنه تمكن بالفعل من الوصول إلى مناطق نزاع، فإن كل ما أتيح له اقتصر على اجتماعات مع السلطات التي فرضت قيوداً مشددة على حركته ولقاءاته. يُضاف إلى ما سبق أن لغة القرار تضمّنت فحسب "مخاوف" بشأن الوضع الإنساني في دارفور وولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، وتجاهلت تماماً عمليات القتل الواسعة التي طالت المدنيين في هذه المناطق كنتيجة لعمليات القصف التي تقوم بها الحكومة. فشل القرار أيضاً في تسليط الضوء على الاستخدام المفرط للقوة ضد المحتجين وتعذيب المعتقلين السياسيين والإشكاليات التي يتسم بها قانون الأمن الوطني السوداني لسنة 2010، الذي يمنح حصانة كاملة لأفراد الشرطة وعناصر جهاز الأمن والمخابرات الوطني – الأمر الذي يشكل حاجزاً أمام المحاسبة والعدالة في الجرائم التي يقترفها العاملون في الأجهزة الأمنية التابعة للدولة. على الرغم من أن العام 2014 شهد عمليات استهداف ونزوح غير مسبوقة للمدنيين في النيل الأزرق وجنوب كردفان، فإن تقرير الخبير المستقل، الذي تم تسليمه في الآونة الأخيرة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في دورته رقم 27، جاء خالياً من أي إشارة إلى الحقائق الأساسية التي تعكس خطورة عمليات القصف المكثفة التي استهدفت مناطق المدنيين، كما جاء خالياً أيضاً من تسليط الضوء على مستويات نزوح المدنيين في هذه المناطق وفي دارفور أيضاً، حيث تشير الأرقام إلى مستويات نزوح مماثلة لتلك التي حدثت خلال السنوات الأولى من النزاع. وفقاً لمجموعة نوبا ريبورتس Nuba Reports الإعلامية المستقلة، فإن عدد القنابل التي استهدفت مناطق المدنيين في كل من جنوب كردفان والنيل الأزرق خلال عام 2014 يقدر بنحو 756 قنبلة. ويتجاوز هذا العدد جملة القنابل التي أُسقطت على هذه المنطقة خلال عام كامل منذ اندلاع النزاع قبل ثلاث سنوات. واشتملت المناطق المستهدفة على المستشفى الوحيد في جنوب كردفان وعدد من العيادات التي تديرها منظمات دولية غير حكومية، فضلاً عن عدد من المدارس والأسواق والكنائس والمساجد. اضطر نحو نصف مليون مدني في دارفور للنزوح خلال الأشهر الأولى من عام 2014 نتيجة لعمليات القصف الجوي للقرى المأهولة والهجمات البرية التي تشنها الحكومة السودانية، التي نشرت قوات الدعم السريع، التي تتألف من جماعات مسلحة شبه عسكرية تمولها وتدعمها حكومة الخرطوم. وفي الوقت الذي ينادى فيه النظام الحاكم في الخرطوم بإجراء حوار وطني يشمل جميع الأطراف، لا تزال الحريات اللازمة لإجراء مثل هذا الحوار خاضعة للعديد من القيود. إذ أن جماعات المجتمع المدني المؤيدة للديمقراطية تتعرض باستمرار للمضايقات والحظر بدون توضيحات كافية من السلطات، كما لا تزال الرقابة سيفاً مسلطاً على وسائل الإعلام المستقلة وعلى رقاب الصحفيين في الصحافة الورقية والصحافة الإلكترونية على حد سواء. . التقرير الذي أعدّه خبير الأممالمتحدة المستقل لمجلس الأممالمتحدة لحقوق الإنسان هذا العام، والذي من المفترض أن تتم مناقشته رسمياً الأسبوع المقبل، ينطوي على لهجة تعبر عن إحباط عميق إزاء عدم تعاون الحكومة السودانية، ويتضمن إشارة واضحة إلى "عدم الاستجابة" لمكاتبات رسمية تحتوي على "مناشدات عاجلة"، فضلاً عن الفشل في تطبيق توصيات سابقة تضمنت إجراء تغييرات على قانون الأمن الوطني لسنة 2010، ووقف الهجمات التي تستهدف منظمات المجتمع المدني، و"الرقابة المفروضة على الصحافة والاعتقال والاحتجاز بصورة تعسفية". أورد التقرير بصورة واضحة أيضاً أن النظام الحاكم في الخرطوم فشل في إجراء التحقيق اللازم وتحقيق العدالة فيما يتعلق بمقتل المحتجين الذين لقوا مصرعهم خلال احتجاجات سبتمبر 2013 بدعوى عدم وجود "شهود عيان" وصعوبة تحديد القوات التي كانت تعمل في مناطق محددة. ويقول الخبير المستقل إن تقرير الحكومة السودانية حول احتجاجات سبتمبر "لا يقدم دليلاً على إجراء تحقيق شامل ومستقل بشأن انتهاكات حقوق الإنسان التي حدثت". ويضيف التقرير أن مزاعم السلطات السودانية بأن الأشخاص الذين أطلقوا النار على المحتجين "في وضح النهار" لا يمكن تحديدهم لا يعدو كونه أمراً: "غير مقبول لا أخلاقياً ولا قانونياً". وتعكس هذه المخاوف المناشدات التي ظلت تطلقها مراراً الجماعات الحقوقية بإجراء تحقيق مستقل وشامل حول انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها قوات الأمن خلال الاحتجاجات. من واقع التجربة المباشرة للعمل في مجال حقوق الإنسان، فإن المناورة السياسية والمفاوضات التي تحدث في أروقة مجلس الأممالمتحدة لحقوق الإنسان –لا سيما من جانب غالبية الدول الأفريقية الأعضاء التي تربطها علاقات صداقة مع الحكومة السودانية- تحد من قدرة وتأثير المجلس وتختزلها في نهاية الأمر إلى سياسة الأمر الواقع التي تضع الأجندات السياسية في صدارة أولوياتها وتتجنب المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان تماماً. ما يحدث في أروقة مجلس الأممالمتحدة لحقوق الإنسان يمكن أن يثبط عزيمة أكثر الناشطين صلابة في مجال حقوق الإنسان، إلا أذا أتوا بتوقعات محدودة ومثالية متوازنة. وفي واقع الأمر، ليس هناك ما يمكن وصفه بالمثالي في عملية تتحدث فيها الدول مع بعضها بعضاً وتتخذ في إطارها قرارات على نحو تنعدم فيه الشفافية. أما المجتمع المدني، فإنه في الهامش يحاول جاهداً الحصول على موطئ قدم ويسعى للضغط عبر الدول "الصديقة". ويمكن القول إن الوضع أشبه بالتواجد في دولة من أكثر الدول قمعاً في العالم. سيجتمع مجلس الأممالمتحدة لحقوق الإنسان الأسبوع المقبل للنظر في أوضاع حقوق الإنسان في السودان وإجازة قرار جديد حول السودان في وقت لاحق من الأسبوع. والأمل معقود على اختياره خبيراً مستقلاً جديداً للسودان. ويتعيّن على الدول الأفريقية الكف عن مساندة النظام القمعي في الخرطوم باسم التضامن الإقليمي، وينبغي عليها أن تكون مسؤولة عن تسمية الأشياء بأسمائها. أما الدول الغربية، فيجب عليها أن تبدي ما يتطلبه الوضع من عزم سياسي، وتستمع إلى مناشدات المساعدة من منظمات المجتمع المدني. كما يجب على الدول الديمقراطية الأخرى أن تكف عن النظر إلى الجدل بشأن حقوق الإنسان في السودان كونه آت من ساحة معركة نائية بين الغرب وبقية شعوب العالم. ترى، هل ستقدِم الدول الأعضاء على إدانة الهجمات الموجّهة مع سبق الإصرار على المدنيين وعمليات النزوح الجماعي القسرية وتعذيب المعتقلين والقوانين التي تحمي علناً عناصر الأجهزة الأمنية من المحاكمة على عمليات التعذيب التي يمارسونها؟ أم ستوجّه هذه الدول رسالة قوية مفادها أن السودان يمكن أن يفلت من المحاسبة على القتل، وسيفلت مستقبلاً من المحاسبة على مثل هذه الجرائم مثلما حدث في السابق؟ *ناشطة سودانية، مهتمة بحقوق الإنسان والفن والثقافة والفلسفة والقراءة. تتواصل داليا في تويتر على العنوان @daloya ولها مدونة بعنوان http://daloya.blogspot.com/