شهدت الأيام الأولى من المفاوضات الجارية بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية – قطاع الشمال – حراكاً إعلامياً كثيفاً، إلى الدرجة التي تضاربت فيها المعلومات، فأثرت على مُخرجات التحليلات. وذهب بعضهم إلى أن الجولة السابعة تشهد أسلوباً جديداً، في إحداث المُضاغطات، لا سيما من الحركة الشعبية – قطاع الشمال – التي أثارت جدلاً داخل أروقة المفاوضات وخارجها، بحركةٍ بارعةٍ من رئاسة وفدها، إذ أنها ضمت مني أركو مناوي رئيس حركة تحرير السودان والتوم هجو القيادي بالحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل) ونائب رئيس الجبهة الثورية. يقيناً كان هدف الأخ ياسر سعيد عرمان رئيس وفد الحركة الشعبية – قطاع الشمال – تحريك أجندات غير ما اتُفِقَ عليه من أجندة التفاوض، في الجولة السادسة، لتكون الجولة السابعة بمواءمةٍ سياسيةٍ مختلفةٍ، عما هدفت إليه الآلية الأفريقية رفيعة المستوى برئاسة ثامبو أمبيكي ووفد الحكومة السودانية برئاسة البروفسور إبراهيم غندور. وأحسبُ أن الكثيرين يتفقون معي أن الأخ ياسر سعيد عرمان اكتسب خبرةً ثرةً في كيفية إشغال المفاوضات بالهوامش دون المتون، لذلك نلحظ أن تشكيل وفد الحركة الشعبية لم يستقر إلا بعد جُهدٍ جهيدٍ من الآلية الأفريقية، وممانعة قوية من وفد الحكومة السودانية لوجود مناوي وهجو، إلى أن تم استبعادهما. ولكن وفد الحركة الشعبية حقق مقاصد من وجود تلكم الشخصيتين، منها أنه أكثر حرصاً على أن تشمل أجندة التفاوض قضايا الوطن كلها، ولا تنحصر على قضية المنطقتين في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق. وكانت الماكينة الإعلامية لوفد الحركة الشعبية تسرب الكثير من التفاصيل المتعلقة بمُجريات المباحثات، ولكن تُغلفها بأسلوبها الخفي وأهدافها التي تنطلق عبر ألفاظٍ غير محددةٍ، وعباراتٍ طنانةٍ، تجد قبولاً لدى المتلقي حتى وإن كانت غير صحيحةٍ، فها هو مبارك أردول الناطق الرسمي لوفد الحركة الشعبية المفاوض يُصدر تصريحاً صحافياً بليلٍ، يُشير فيه إلى أن الحركة الشعبية تُريد إنهاء الحرب، وفق اتفاق شامل يؤدي إلى التغيير وتحقيق مطالب الشعب السوداني في الحرية والمواطنة والطعام. ويختمه بعبارتين خلابتين، إحداهما تأكيد إصرار الحركة على موجهات إنهاء الحرب والاتفاق الشامل بقوله: "ولا بُدَّ من ذلك، وإن طال السفر"، تأكيداً لطول صبرهم، وأكيد عزيمتهم. وثانيهما إحداث قدرٍ من المقاربة والخصوصية مع المتلقي حتى وإن كان في تعبيرٍ عُرف في الأكاديميات الصحافية ب"التضليل الإعلامي"، مغلفاً بشيءٍ من الخصوصية والحميمية ووحدة الهدف، فاقرأ – يا هداك الله – قوله: "خصوصية قضايا المنطقتين ودارفور يجب أن تُناقش من خلال آلية متفق عليها، ولا يتم تذويبها في سوق عكاظ سياسي". فهو بلا أدنى ريب يقصد بسوق عكاظ سياسي، مؤتمر الحوار الوطني، فبالله كيف للسان حال حركة يُعبر عن الحوار الوطني المأمول من مُخرجاته ومآلاته مُعالجة قضايا الوطن والمواطنين كافة، بأنه سوق عكاظ سياسي، ويرمي بالعبارة أيضاً أنه مجمع كلام، وليس ملتقى حلول. ولما كان الأخ ياسر عرمان حريصاً على إحداث قدرٍ من الحراك الإعلامي قبل الوصول إلى توافق سياسي، حرص على أن يحضر في معيته عدداً من صحافيي الحركة الشعبية - قطاع الشمال - أو الذين يجد شعار العقيد الراحل جون قرنق "السودان الجديد"، من بقايا اليسار السوداني، هوىً مستطاباً في أنفسهم. أخلصُ إلى أن وفد الحكومة السودانية لخَّص رئيسه البروفسور إبراهيم غندور إجابته حول سؤال طُرح عليه في بعض مواقع التواصل الاجتماعي، عن مدى تفاؤله أو تشاؤمه من الجولة السابعة من المفاوضات، بأن قال: "متشائل" يقصد منه أنه مُتأرجح بين التفاؤل والتشاؤم، ولكني أردتُ تحليلاً أن أُغلِّب تفاؤله على تشاؤمه من خلال تصريحاته الصحافية ومُداخلاته الإنترنتية. وأكبرُ الظنِّ عندي، سيكون أكثر رضىً بالاتفاق مع الحركة الشعبية، إذا حصل على اتفاقين لا ثالث لهما، الأول المزاوجة بين وقف العدائيات ووقف إطلاق النار الشامل، والثاني إلغاء الاتفاق الثلاثي الخاص بالمساعدات الإنسانية في المنطقتين، والتوافق على إيجاد صيغ جديدة لمعالجة الأزمة الإنسانية. أحسبه إذا حقق هذين الهدفين، يسهل عليه استصحاب تسويق الدعوة الرئاسية التي أطلقها الأخ الرئيس عمر البشير لكافة الأحزاب والقوى السياسية، بما فيها الحركات المسلحة، وذلك يوم الاثنين 27 يناير 2014، في ما عُرف بخطاب "الوثبة" الرئاسي الذي تضمن في طياته المرتكزات الأربعة، فالسلام يتطلب وقف إطلاق النار الشامل، والانخراط في مداولات الحوار الوطني. والمرتكز الثاني موجه صوب القاهرة للإتيان بعد قولٍ لينٍ مع السيد الصادق الصديق المهدي رئيس حزب الأمة القومي، لتفعيل مضامينه المتعلقة بالحريات. أما المرتكزان الآخران، الاقتصاد والهوية السودانوية، فسيكونان في لُبِّ الأجندات الوطنية للحوار الوطني. وإذا ما أُطفئت الحرب بإحلال السلام، فينبغي إن جنحوا إلى السلم أن تجنح الحكومة والمشاركون في الحوار الوطني إلى السلم والتوكل، باعتقاد أن الله يحب المتوكلين والمحسنين. ولنستذكر في هذا الخصوص، قول الله تعالى: "وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ". وقول الشاعر العربي زهير بن أبي سلمى: وَمَنْ لَمْ يُصَانِعْ في أُمُورٍ كَثِيرةٍ يُضَرَّسْ بِأَنْيَابٍ وَيُوْطَأْ بِمَنْسِمِ وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ يَفِرْهُ وَمَنْ لا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ وَمَنْ يَكُ ذَا فَضْلٍ فَيَبْخَلْ بِفَضْلِهِ عَلَى قَوْمِهِ يُسْتَغْنَ عَنْهُ وَيُذْمَمِ