مثل الملتقى الذي دعا اليه الرئيس عمر البشير في أوائل هذا العام 4102 في قاعة الصداقة بالخرطوم إحدى الصور المكثفة لرغبة الامة في تغيير عاجل لحكم الأمر الواقع وتلهفها العارم لأي جديد ينتشلها من الاحوال غير الطبيعية التي تعيشها منذ أمد طويل، إذ كان ملفتا أن احتشد المواطنون بأعداد كبيرة آنذاك لمشاهدة اللقاء على أجهزة التلفزيون داخل البلاد وخارجها حسب وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وحضر اللقاء زعماء الاحزاب السياسية الرئيسية بأشخاصهم . ومع ذلك وبصرف النظر عن التحليلات الكثيرة التي خاض فيها الخائضون آنذاك أصيب الشارع السوداني بخيبة أمل كبيرة حيث لم يجب خطاب الرئيس عندئذ على أي من الاسئلة الحائرة المبهمة في أذهان المواطنين بكافة مستوياتهم والتي تتلخص في أن الجمهور توقع وقتئذ أن يعلن الرئيس أي تحرك أو يأت بأي جديد يخلصهم مما هم فيه ، وقد اشتط البعض وتوقع أن يعلن الرئيس تنحيه عن الحكم ، ولذلك كانت خيبة الامل كبيرة تعادل اشتطاط ذلك البعض. من بين التعليقات المعبرة عن الاحباط العام أن تبادل المتواصلون عبر مواقع الانترنت تعليقا بليغا بعد اللقاء في شكل كاريكاتير مك و ن من صورة كبيرة للرئيس البشير ضاحكا ملء فيه وقائلا بالبنط العريض "غ شيتهم" لا يزال نظام الانقاذ الذي استولى على الحكم بانقلاب عسكري في 0191 يتشبث بالسلطة من خلال تكتيكات بدعوى الاصلاح ويبدو أن ذلك الملتقى قد تم الترتيب له بدءً من إعفاء نائب الرئيس علي عثمان طه وجوقة من الوزراء ، ليتفرغوا لأدوار أخرى تطيل من عمر النظام كما هو واضح ولامتصاص بعض الغضب الشعبي. وجاءت بعد ذلك الدعوة الي حوار قصد منه توفير أرضية لجمع بعض الاحزاب والجماعات المعارضة غير البريئة ذات المصالح المتبادلة بهدف تقاسم السلطة ليس إلا. والآن وبعد سنة تقريبا من ذلك الوعد بالحوار لم يتم شئ نحو تحقيقه ، بل ما يزال كل شئ على الارض يؤكد فعلا نية مبيتة للتسويف والخداع من خلال الممارسات المعهودة من أحاديث ممجوجة واستخدام للقوة لفرض الامر الواقع المر، ونجح النظام في كسب الوقت وإلهاء الناس اعلاميا الى أن تتم لعبة تسمى انتخابات وحين أصبحنا على مشارف 4102 أعلن حزب المؤتمر التجديد لرئاسة البشير للحزب ومن ثم ترشيحه لرئاسة الدولة ليظل النظام بقيادة المؤتمر الوطني في سدة الحكم. هذا هو الواقع الذي يمكن تلخيصه في أن الحكومة طرحت موضوع الحوار بدون جدية وبدون رؤية غير أملها في أن تستميل من تسطيع من معارضة الداخل أو الخارج ليشاركها السلطة تحت مظلة نظام الانقاذ وحزب المؤتمر الوطني . هذا جانب من قصة الحوار الذي ترقبه الناس. لقد استهلكنا فترة الحكم الوطني كلها تقريبا في صراع على سلطة الحكم من أجل المصالح الحزبية والشخصية فقط مع غياب كامل لخطط جدية لبناء الوطن. وقد استأثر حزب المؤتمر بشقيه الوطني والشعبي بنصف فترة الحكم الوطني بفرض هيمنته بالقوة ولم ينجح في ادارة البلاد طوال ربع قرن، ونتيجة لسوء وفساد إدارتها نرى اليوم رأي العين دولة فاشلة في كل الجوانب؛ فالحكومة مقعدة عن القيام بواجباتها كلها نحو مواطنيها ومقعدة عن أداء أدوارها الخارجية بعزة وكرامة. إن برامج الاصلاح التي يدعيها النظام ما هي إلا حيل متكررة لخداع البسطاء . ألا تتناقض الدعوة الى الحوار تماما مع الدعوة الى انتخابات لن تكون شرعية ناهيك أن تكون نزيهه أم لا. لقد ظلت الحكومة تنتهج سياسة القوة وحدها لاخضاع معارضيها إلى أن انفصلت البلاد الى دولتين ، وما زال هنالك معارضون جديون يحملون السلاح في وجه الحكومة. إن كل المعطيات تدعو الى التشاؤم من مصير مدمر اذا استمرت البلاد في حالة الفشل. لكل ذلك يحتم الواجب الوطني على الحزب الحاكم أن يتنحى عن الحكم لأن ما فشلت في تحقيقه خلال ربع قرن سوف لن يتسنى له تحقيقه أبدا بل سيزداد الامر سوء بالتأكيد. نعم للحوار ولكن يجب أن يكون شاملا للجميع غير مقيد ويؤدي فورا الى انهاء حالة الاقتتال مع المعارضين في عدة مناطق من البلاد والى اتاحة الفرصة للبلاد للافادة من كفاءات ومهارات أبنائها جميعا في ادارة مؤسساتها بما في ذلك بل في مقدمتها مؤسسات الحكم. إن الاحزاب في كافة الدول الناجحة تقي د مضارباتها وتكتيكاتها السياسية بضوابط وخطوط حمر وطنية لا يتخطاها أحد ، سواء كان على كرسي الحكم أم في المعارضة. إن أحدث مثال في هذا السياق هو تخلي حزب النهضة التونسي قبل أشهر عن الحكم الذي حصل عليه ومارسه فعلا من خلال انتخابات عامة مشهودة ، وقالوا إن تخليهم عن السلطة كان من أجل إنجاح الحوار الوطني التونسي ولمنع "انزلاق البلاد الى ما لا يحمد عقباه" حسب المفردات التي استخدموها. وهاهي تونس تنجح مجددا في اجراء انتخابات برلمانية مشرفة وها هم يستكملون مسيرتهم الديمقراطية بانتخابات رئاسية ناجحة رغم التحديات الجدية التي قابلوها، وبذلوا مقابلها تضحيات كبيرة تحديا لمحاولات إثنائها عن طريق تداول السلطة سلميا وجرها الي طريق العنف والاقتتال لاقصاء بعضهم البعض. لقد ضرب التونسيون مثلا فهل نتدبر أمرنا ونحاكي التجربة التونسية في التخلي عن السلطة من إجل حوار وطني شامل وشفاف ، لا تغيب عنه أية مجموعة معارضة ذات شأن سواء مسلحة أم غير مسلحة.