أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    شمس الدين كباشي يصل الفاو    لجنة تسييرية وكارثة جداوية؟!!    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    المريخ يتدرب بالصالة    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    سوق العبيد الرقمية!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خاطرات وذكريات في الدبلوماسية (1و2) .. بقلم: مصطفى عبد العزيز البطل
نشر في سودانيل يوم 16 - 12 - 2014


[email protected]
(1)
ليست خواطرى أنا ولا ذكرياتى أنا، فليست لى فى الدبلوماسية خواطر ولا ذكريات. وأنّى يكون لى مثل ذلك وقد بلغت من العمر عتيا، ولم تمسسنى السفارة من قبل ولم أكن دبلوماسيا؟!
إبتعادى عن صنعة السفارة – لأصدقك القول - لم يكن زهدا فيها واشاحة بوجهى عن وجهها، فالحق أننى وصديقى ورفيق درب الشباب الباكر، عادل أحمد خالد شرفى، كنا قد عقدنا العزم، ونحن بعد على مدارج الطلب بجامعة محمد الخامس بالمغرب، على أن نلتحق بوزارة الخارجية، فور إكمالنا لدراستنا بقسم العلوم السياسية، وأن نتبوأ مكانا عليّا يليق بنا فى سلكها الدبلوماسى. وسلخنا سنواتنا فى حمى الملك الحسن الثانى، قدس الله سرّه، نغوص غوصاً فى أحشاء كتب السياسة والقانون والعلاقات الدولية، نعدُّ المشرفية والعوالى، ونهيئ لمقبلات الأيام زادها وعتادها، وقد خلنا أن الله بعد أن هيأ الإنسان لخلافته على الأرض، هيأنا – عادل وأنا - لخلافته على وزارة الخارجية!
وقد جلس عادل لإمتحان الدبلوماسية المعهود، ضمن مئات ممّن إستوفوا المؤهلات المقررة وكان ترتيبه الأول بإطلاق، وانتظم بعد ذلك فى سلك الدبلوماسية فخدم بلاده بعزم وجدارة فى عديد من بلدان العالم شرقا وغربا، وإرتقى مراقى الدبلوماسية صُعُدا فبلغ درجة الوزير المفوض. ولكن السفارة تأبّت على عادل، أو لعله تأبّى عليها، وكان هناك من يتربص، فتركته الوزارة وتركها، وهجرته المهنة، التى تجرى منه مجرى الدم، وهجرها.
أما الفقير لربه فقد إلتحق بأحدى اجهزة الخدمة المدنية عقب تخرجه، وكان عند فتح الباب لامتحان السلك الدبلوماسى قد ترقى الى تلك الدرجة المشهورة فى زماننا ذاك (دى اس). ونصحه الناصحون بأن يتمهل بعض الشئ ريثما تعلن الوزارة عن مسابقة إختيار دبلوماسيين فى درجة سكرتير ثان لا سكرتير ثالث، إذ لا يعقل ان يُقدّم موظف حكومى "رفيع" فى الدرجة ( دى اس ) لوظيفة السكرتير الثالث فى الدرجة ( كيو)! وإنتظرت واصطبرت، عملا بالنصيحة، حتى تعلن وزارة الخارجية عن إستيعاب سكرتيرين ثوان، فأدخل وأغيظ عادل بأن أكون رئيسا عليه. ولكن رياح الدنيا كادت أن تقتلنى أنا بغيظى، فقد هجرت الخارجية كليا والى الأبد تقليدها باستقطاب كادرات ذات خبرات نسبية من الوزارات الأخرى لشغل وظائف السكرتير الثانى!
(2)
وأسمعك – أعزك الله – تقول: كفانا من نرجسيتك وحديثك المغرور عن نفسك وصديقك وكأنكما مركز الكون، وقل لنا: ذكريات من وخواطر من هى أذن؟ ولا أضيع من وقتك أكثر مما أضعت، فأجيبك بأنها ذكريات وخواطر السفير المخضرم الدكتور أحمد محمد دياب، الذى كدح فى سلك الدبلوماسية السودانية كدحا، لعقود ثلاث إلا قليلا، وما برح يرفدها من علمه وتجربته، حتى أهل فجر الثورة المنقذة فوضعت على رأسه تاج "الصالح العام". واستقطبته - بعد ذلك - دولة قطر مستشارا للشئون السياسية بوزارة خارجيتها.
وقد صدر الكتاب، تحت العنوان الذى تراه على صدر المقال، عن مركز عبدالكريم ميرغنى الثقافى بأم درمان. وأكثر ما أغرانى بمطالعته الصفحات الرائعات الماتعات الأربع التى سطرها فى تقديمه غابرييل غارسيا ماركيز السودان، أديبنا الكبير الطيب صالح، الذى ثمّن الكتاب ونسب اليه صفات مقدّرة حُق للمؤلف أن يعتز بها، و لخص محتواه تلخيصا دقيقا معبرا حيث كتب: (هذه الفصول الممتعة، هى مزيج من الذكريات، ولمحات من السيرة الذاتية، ونظرات دقيقة متمعنة فى تقلب الأحوال فى السودان على إمتداد أكثر من ثلاثين عاما. وقد وفق الكاتب، الدكتور أحمد دياب، أيما توفيق أنه إتخذ أسلوبا سلسا جميلا يمتاز بالبساطة وروح الدعابه). وإختتم أديبنا الكبير مقدمته بالقول: (لا توجد فى هذا الكتاب مرارات أو عنتريات أو تصفية حسابات، بل هو سجل أمين لحياة خصبة مثمرة ).
فأما كون الكتاب "سجل أمين" لحياة صاحبنا فذلك مما لاشك فيه، ومن آيات أمانته أنه تضمن وقائع وتفصيلات مما تتحاماها الأقلام ويتحاشاها الكتّاب. ومن مثال ذلك سرده لواقعة إستضافته بمنزله، إبان عمله فى سفارة السودان بنيروبى فى النصف الثانى من الستينات، لوزير الداخلية المغفور له الأمير عبدالله عبد الرحمن نقد الله، إذ اسقط فى يد صاحبنا عندما أزف وقت الصلاة فسأله الأمير عن "سجادة الصلاة"، فأضطرب وأضطر للإقرار بأنه ليست لديه سجادة صلاة فى بيته، ففتح الأمير حقيبته وأخرج منها سجادة، ثم سأل مضيفه: (القبلة على وين)، وقبل ان ينعم الله على صاحبنا بكلمة أضاف الأمير نقدالله: (أنت ما عندك مصلاية، معقول حتعرف القبلة؟!)
(3)
أضحكنى وصف المؤلف لوقائع أول يوم خطت فيه قدماه مبنى وزارة الخارجية فى العام 1963، بعد اختياره كسكرتير ثالث. كان المؤلف يدخن الكدوس (الغليون)، برغم أنه كان حديث التخرج من جامعة الخرطوم، فدخل والكدوس فى فمه من الباب الخلفى للوزارة، وكله ترقب وتشوق لأن يبدأ أول يوم فى حياته الجديدة. ثم سمع صاحبنا ورأى شخصا طويلا ضخما يلبس البدلة الكاملة وربطة العنق يقف فى الطابق العلوى يناديه: (يا أفندى .. يا أفندى. تعال هنا فوق) فصعد إليه. (مين إنت يا أفندى؟)، أجاب: (أنا سكرتير تالت جديد). وبدون أى مقدمات مد الرجل الضخم يده وأمسك بالكدوس من يد صاحبنا وكسره كسرا فإنقسم الى نصفين، ورماه فى الأرض من الطابق الثانى، ثم أردف قائلا: (سكرتير تالت؟ وجاى أول يوم ماسك كدوس؟ واُمّال لمّا تبقى سفير حتجى ماسك إيه؟) وهذا الرجل الضخم، كسّار كدوس أحمد دياب، على وزن (كسّار قلم ماكمايكل)، هو نفسه السفير ووزير الخارجية الأسبق محمد ميرغنى مبارك، وقد كان عند كسره كدوس صاحبنا مديرا للشئون الإدارية بالوزارة.
وقد عمل دياب فى مراحل لاحقة - وإرتاحت نفسه للعمل - تحت إمرة محمد ميرغنى. الا أن حادثة معينة يحكيها الكتاب بتفصيلاتها عن هذه الشخصية لفتت إنتباهى بشدة، وكدت أتشكك فى الرواية بكاملها لمجافاتها منطق الأشياء ومصادمتها لكثير من الأعراف المستقرة. ملخص الحادثة أن السفير محمد ميرغنى ترك حقيبته الصغيرة فى مكتبه بسفارة السودان بنيروبى وذهب الى الحمام، وعندما عاد وجد أن الحقيبة مفتوحة. وعلى الرغم من أنه وجد جميع محتوياتها فى مكانها كاملة بدون نقصان إلا أنه أصر إصرارا شديدا على معرفة من الذى قام بمحاولة فتح الحقيبة. وقد بلغ من تشدد السفير إنه قام بإستدعاء الشرطة المحلية، حيث تقرر إجراء (كشف البصمة) على طاقم السفارة بأسره من دبلوماسيين وإداريين وغيرهم. وقد تم ذلك بالفعل إذا قامت الشرطة الكينية بأخذ بصمات أصابع جميع الدبلوماسيين بالإضافة الى الملحق العسكرى، المقدم (آنذاك) ميرغنى سليمان خليل، الذى أصبح فيما بعد مديرا للاستخبارات العسكرية وسفيرا فى تركيا. وإنتهى التحقيق البوليسى الدقيق ومضاهاة بصمات أعضاء السفارة الى لا شئ، إذ قرر المتحرى أن الحقيبة فتحت بضغط ذاتى!
وأجدنى شديد التعجب والاستغراب من هذه الرواية، إذ يبدو لى أن قيام السفير بإلزام طاقم السفارة الدبلوماسى والإدارى والعسكرى بالخضوع لإجراءات تحقيق بوليسية مهينة، بل وشديدة الإذلال، على نحو ما تقدم، بواسطة شرطة بلد التمثيل ينطوى على غلو وشطط يتخطى أسوار المعقول، ولله فى بعض سفراء السودان شئون! رحم الله الوزير والسفير محمد ميرغنى أن كان قد غادرنا الى دار البقاء، وأطال فى عمره وبارك فيه أن كان على قيد الحياة.
(4)
يتنقل الكتاب بقارئه، بخفة ويسر وحيوية، بين دول العالم المختلفة التى عمل بها المؤلف، ويتناول ضمن ما يتناول، المؤثرات الحضارية والعناصر التاريخية صاحبة القدح المعلى فى تشكيل الواقع السياسى والثقافى لكل دولة. وقد وقفت مليا عند حديث المؤلف عن جمهورية تنزانيا، وتحديدا عن الثورة الدموية التى إندلعت فى العام 1963 فى زنجبار، وكان من مؤداها قيام دولة إتحادية بين الجزيرة التى تنام فى أحضان المحيط الهندى، ودويلة تنجانيقا الرابضة على الساحل الإفريقى الشرقى.
والسائد فى الفهم العام أن الثورة الشهيرة فى زنجبار، إنما كانت ثورة عنصرية محضة أشعل نارها السود، ذوى الأصول الإفريقية، بهدف إقتلاع قواعد وبنيات العنصر العربى القابض على مقدرات الجزيرة المنتجة للقرنفل والهيل والبهارات، من جذورها وإنهاء السيطرة العربية، والإنتقام لتجارة الرقيق التى تورط فريق من بنى يعرب فى آثامها. ولكن صاحبنا يقول لنا أن ذلك هو الوجه الظاهر من الأمر، ولكن الحقيقة هى أن مخططى وقادة ورموز تلك الثورة لم يكونوا من الأفارقة السود، بل أن معظمهم كان من أصول عربية.
وكانت العقول المفكرة وراء الثورة من الشباب العربى أصحاب الميول اليسارية والمتشبعين بالفكر الماركسى، ممن درس فى الدول الأوربية الإشتراكية وكوبا. وأن تجربة فيدل كاسترو كانت المثل الأعلى لأولئك الشباب، الذين رأوا فى حكم السلطان والنخبة العربية فى زنجبار مظهرا من مظاهر الطغيان الرأسمالى ضد الكادحين من عمال ومزارعين. وقد فوجئت بما أورده الكتاب فى هذه الجزئية، ثم تضاعف إحساس المفاجأة عند مطالعتى لقائمة أسماء هؤلاء (الشباب) ذوى الأصول العربية والإنتماءات الماركسية، من منظرى الثورة فى زنجبار والذين كانت لهم اليد الطولى فى إشعال فتيلها، إذ وجدت فى موقع متقدم من القائمة سالم أحمد سالم، وزير خارجية تنزانيا الأسبق والسكرتير العام السابق لمنظمة الوحدة الأفريقية.
ومهما يكن من أمر فأن إفادات الدكتور السفير فى شأن ثورة زنجبار لو صحت وإستقامت على سوقها، فإنها تضعنا – بغير شك - أمام معضلة تاريخية تستوجب البحث والتحرى. ذلك أن نموذج الثورة الافريقية الدموية، التى تطفح غلاً وحقدا، وخيالات الرجال السود، يجزون الرؤوس بالفؤوس، وجثث الرجال والنساء العربيات تتساقط تحت اقدامهم فى زنجبار، ما إنفكت تحتل موقعا مركزيا فى الذهن العربى العام، فضلا عن توظيفها فى السودان على وجه التخصيص، كأداة تحريضية فاعلة فى العمل السياسى التعبوى. فما زلنا نذكر كيف أن قادة كيانات سياسية معينة، ومشايعيهم من السياسيين والإعلاميين، ظلوا ردحا من الزمن يرددون فى الناس جهرة بأن التغيير العسكرى فى 1989 ما جاء الا ليحول دون تكرار الأنموذج الزنجبارى فى السودان، الذى كان، بحسب هؤلاء، قد أصبح قاب قوسين أو أدنى من التجلى.
ولكن الصورة الراسخة فى العقل العربى عن الثورة فى زنجبار تظل على حالها، ولأن السودان يَعِدُّ نفسه فى ملة العربان، ولأن بعض أهله كاثوليك أكثر من البابا، فقد قررت وزارة الخارجية، عند زيارة النائب الأول لرئيس الجمهورية اللواء محمد الباقر أحمد لتنزانيا فى العام 1973، أن ترفض الجانب من برنامج الزيارة الذى يتضمن زيارة ضريح القائد عبود كرومى، وهو تقليد مراسمى فى تنزانيا يحترمه جميع زوارها، وذلك على أساس أن عبود كرومى كان من قادة ثورة زنجبار.
ظل أحمد دياب يضرب أخماسا فى أسداس وقد حار به الدليل، هو يجهد ذهنه بأمل الوصول الى وسيلة أو عذر مقبول ينهى به الى السلطات التنزانية رغبة السفارة فى إلغاء ذلك الجزء من البرنامج على نحو يحقق المراد ويحول فى ذات الوقت دون خلق أى نوع من الحساسية لدى دولة التمثيل. وما لبث صاحبنا على هذا الحال حتى جاءه الحل الناجز على يد دبلوماسى أصغر منه درجة، إقترح عليه أن ترسل السفارة خطابا الى وزارة الخارجية التنزانية تعلنها فيه أن اللواء محمد الباقر أحمد مسلم من أتباع المذهب الوهابى الذى يحرم زيارة القبور، وإن زيارة ضريح القائد عبود كرومى تتعارض مع عقيدته ومذهبه. وقد قبل التنزانيون ذلك الإعتذار الكاذب الملفق، فلم يكن الباقر وهابيا ولم ينتم الى المذهب الوهابى المتشدد فى يوم من الأيام.
وأن دلت هذه الواقعة على شئ فإنما تدل على أن من بين كادراتنا الدبلوماسية من سبق بعض عتاة السياسيين فى إكتشاف " فقه الضرورة " وتوظيفه لتحقيق الأغراض لمشروعة... وغير المشروعة!
(5)
لا يهمنى فى قليل أو كثير ما إذا كان سفراؤنا ودبلوماسيونا يرتدون الزى الأفرنجى أو الزى الوطنى إبان وجودهم خارج البلاد. فالسؤال المهم هو: ماذا أنجزت، وليس ماذا لبست! غير أن المؤلف شديد الإعتداد بما يصفه بالزى الوطنى، ويحدده عناصره فى ثلاث: ( الجلابية والعمة والعباءة ). ويقول أنه كان يرتديه أثناء تأدية واجباته الدبلوماسية فى كل الدول، وأنه جنى من وراء ذلك فى بعض الأحيان إمتيازات، وتعرض فى أحيان أخرى لمضايقات، وواجه فى أحوال بعينها إحراجات. ولكنه مع ذلك يحث زملاءه وأبناءه من رجال السلك الدبلوماسى على التمسك بالزى السودانى، إذ هو بحسب المؤلف: (يفتح الباب لتمييز السودانى بصورة مباشرة، وتأكيد سماته الخاصة منذ الوهلة الأولى، ويؤكد إستقلالية الشخصية السودانية وتفردها عن غيرها).
وليس صاحبنا مبتدعا أو متفردا فى دعواه تلك إذ هناك الكثير ممن يعتدون بالزى الوطنى ويجعلون من أرتدائه شأنا مبدئيا. كان أول من عرفت من هؤلاء الوزير السابق والعالم الدكتور عون الشريف قاسم، رحمه الله. وقد صحبته فى مهام رسمية خارج البلاد فكان لا يعرف غير الزى الوطنى لباسا، وعندما سألته عن ذلك أجابنى: (أنا أؤمن بالأصالة فى الزى. أعبّر عن أصالتى بزيّى، وقد توقفت تماما عن إرتداء الزى الأفرنجى). وثانى هؤلاء هو الإمام الصادق المهدى، الذى عملت الى جانبه ردحا من الزمن، إبان توليه منصب رئيس الوزراء فى حقبة الديمقراطية الثالثة، وصحبته فى رحلات عمله داخل البلاد وخارجها فلم أره فى غير لباسه الوطنى، الأبيض فى الغالب والملون فى أحيان نادرة. ولكننى فى حالات استثنائية تعد على أصابع اليد الواحدة، رأيته خارج البلاد وهو يرتدى البدلة الاوربية الكاملة، ثم يلبس معها طاقية سودانية!
وقد سمعت أن آلافا مؤلفة من موظفى الدولة وعمالها باتوا فى يومهم هذا يرتدون الزى الوطنى الى أعمالهم كل صباح. غير أننى أذكر مقالا للراحل الكبير الوزير والسفير جمال محمد أحمد، نشرته فى زمن مضى صحيفة (الأيام)، جاهر فيه جمال للمرة الأولى برأيه أن الجلابية والعمة والعباءة لا تمثلان زياً وطنياً سودانياً بأى مقياس، كما يسود الإعتقاد، وأن ذلك وهم محض. ونافح عن رأيه ذاك بتقديم نماذج من مناطق وقبائل، وإشارات الى ثقافات السودان المختلفة، معدداً أنواع الملابس التى يرتديها السودانيون وأوصافها، وانتهى الى أن العمة والجلابية والعباءة ليست لباس الغالبية فى السودان، بل ربما كانت لباس الأقلية!
وأنتقد جمال توجيها رسميا كان قد صدر من جهة عليا، فى نهايات العهد المايوى، يقضى بإلزام سفراء السودان بإرتداء الجلابية والعمة والعباءة عند تقديم أوراق إعتمادهم، وقلل من شأنه وسخّفه. ورأيى صورة كربونية من رأى الوزير والاديب الكبير الراحل. غير أننى - كما أسلفت – لا أبالى ولا أكترث مقدار خردلة بما يلبسه هؤلاء وأولئك. وهل فرغت أنا من كل شئ فى دنياى، فلم يبق لى إلا الفتيا فى أمر ما يلبس الرجال والنساء وما لا يلبسون؟!
**********
الحلقة الثانية:
(1)
ها نحن نعود لنقف معاً – مرة أخرى - على شاطئ ذكريات السفير المخضرم الدكتور أحمد محمد دياب، ونقلِّب صفحات كتابه الموسوم بذات العنوان الذى تراه على صدر المقال. وقد قرّظ الكتاب، كما أسلفنا، وقال في شأنه القول الحسن أديبنا الكبير الطيب صالح، وإذا قال الطيب فصدقوه، فإن القول ما قال الطيب.
ولعلنا نقف عجلين فنشير إشارة عابرة الى الكم المقدّر من الرسائل الالكترونية التى بعث بها إلينا نفر كريم من أهل المهنة الدبلوماسية الحاضرين والسابقين. عبّر بعض هؤلاء عن ضيق بالرواية التى وردت فى الجزء الأول الأسبوع الماضي، نقلاً عن الكتاب موضوع العرض، بشأن حادثة سفارة نيروبي وبطلها الوزير والسفير السابق المغفور له محمد ميرغني. بل أن منهم من قطع بنفي الرواية في جملتها وتفصيلها، ونقل اليّ شهادة الملحق العسكري السابق بنيروبى، العميد (م) ميرغني سليمان خليل، الذي أورد الكتاب إسمه بإعتباره واحداً ممن أرغمهم السفير الراحل على الخضوع لإجراء فحص بصمات الأصابع، ونسبت إحدى الرسائل اليه قوله بأن الرواية مصنوعة وأنها من نسج خيال المؤلف.
غير أنني تلقيت في ذات الوقت من سفراء ودبلوماسيين آخرين مكاتيب تعضد الرواية كما جاءت في متن الكتاب بنصّها وفصّها، وتذكر بأن خبرها توارد إليهم فى زمانها وأوانها على لسان شهود معاصرين من الثقات. وقد حرت وحار دليلى فى أمر الخلاف بين أهل الحُلل الفاخرة وربطات العنق الساحرة هؤلاء. ومهما يكن من أمر، فإننى أكاد أقطع بأنه ليس هناك من معاصرى الوزير والسفير السابق المرحوم محمد ميرغنى، من يجادل فى أن إسم الرجل إرتبط، أوثق رباط، خلال سنى عمله فى وزارة الخارجية، وقبلها فى سلك الشرطة، بالشطط والمعاسرة التى بلغت حواف اللامعقول فى إنفاذ القوانين واللوائح، وفى إلزام العاملين تحت إمرته بالخضوع لمنظومة من ضوابط وقواعد ضاقت صدور أكثرهم بها.
وفى حوار مع وزير المالية الأسبق السيد/ عوض عبد المجيد، نشرته صحيفة (ظلال) عام 1994م، تطرق الرجل الى مناهضة طلاب جامعة الخرطوم للسلطات فى العهد الاستعمارى، وذكر بأن ضابط الشرطة آنذاك، محمد ميرغنى (الذي تولى السفارة والوزارة بعد ذلك)، كان شديد البأس على الطلاب المشاركين فى التظاهرات المنددة بالإستعمار، وأنه كان يطاردهم ويضربهم ويلهب ظهورهم بالسياط. وقد جاء المانشيت الرئيسى للحوار مع وزير المالية السابق هكذا: (وزير خارجية نميرى ضربنى بالكرباج)!
(2)
يقول المؤلف، الذى شغل وظيفة مدير عام الشئون السياسية بالوزارة، أن الخارجية أصبحت فى ذلك الزمان (مؤسسة لها وضع خاص فى هيكل الدولة لا يقل عن رئاسة الجمهورية وجهاز الأمن القومي والقوات المسلحة). والعاملون بتلك الوزارة مغرمون بمثل هذه المقولات، وحين إبتدعت رئاسة مجلس الوزراء فى نهاية السبعينات تقسيما قطاعياً لوحدات الجهاز التنفيذى، وأطلقت على وزارتى الخارجية والدفاع ورئاسة الجمهورية مسمى " قطاع السيادة " استبد الفخر بأهل الخارجية وقرت أعينهم بذلك المسمى فكانوا يستخدمونه، غدواً ورواحاً، فى الأقوال والكتابات، بمناسبة وبغير مناسبة. ولأستاذنا أحمد دياب أن يقول فى شأن وزارة الخارجية ما يسر باله ويرضيه، ويسر رفقته من السفراء والدبلوماسيين ويرضيهم. ولكن الذى أعلمه يقيناً أن وزارة الخارجية لم تجاوز قط كونها سكرتارية فنية تابعة لرئاسة الجمهورية طوال العهد المايوى!
وما من شك فى أن بعضاً من الوزراء فى ذلك العهد كان لهم بريق وسحر خاص، ولكنه بريق ذواتهم وسحر أسمائهم. تسطع أنجمهم فى السماء حينا من الدهر ثم تخبو بعد إلتماع. ومن هؤلاء الدكتور منصور خالد، الذى تولى مقاليد وزارة الخارجية، والمغفور له الدكتور جعفر محمد على بخيت، والاستاذ بدر الدين سليمان وغيرهم. ولكن الوزارات التى تولوا شأنها لم تتعد قط كونها وحدات تنفيذية فى الهيكل التنظيمى العام لجهاز الدولة. وزعْمْ المؤلف بأن وزارة الخارجية كان لها، عهد إشرافه على إدارتها السياسية، دور ووزن يعادل القوات المسلحة وجهاز الأمن، لا يعدو فى ظنى أن يكون تفكيراً رغائبياً بأثر رجعى. والتفكير الرغائبى من أصهار أحلام اليقظة. والثابت عند علماء النفس أنه ليس هناك ثمة ضرر من أحلام اليقظة، لو أنها مورست باعتدال.
(3)
تطرق الكتاب الى مسألة التعيين السياسى فى السلك الدبلوماسى، وهو هاجس ظل يؤرق مضاجع دياب وزملائه على توالى الأزمان السياسية. والتفرقة بين الإحترافيين والخوارج فى فقه وزارة الدبلوماسية قائمة الى يوم الساعة. والخوارج هم المئات من ضباط القوات المسلحة السابقين والوزراء المقالين، وغيرهم ممن حشدتهم الحكومات الشمولية فى مناصب السفارة، فأطبقوا على أنفاس المحترفين المتلمظين الى السفارات وعدّموهم السنتْ والنِكل والدايم، وهؤلاء إن لم تكن تعلم من مفردات العملة المعدنية التابعة للدولار الأمريكى.
وجاءت الثورة المنقذة، بعد ذلك، ففاقمت الأمر اذ جعلت التعيين السياسى هو الأصل والإنتماء الإحترافى هو الإستثناء. ثم زادته ضغثاً على إبالة فملأت الوظائف الوسيطة والدنيا بكادرات من عضوية كيان سياسى بعينه لم يحسن بعضهم كتابة إسمه الأول باللغة الإنجليزية الا بشق الأنفس.
وقد كنت أظن أن بلاء التعيين السياسى وباء يخص الأنظمة الشمولية دون غيرها، وأن الحكومات الديمقراطية مبرأة منه براءة الذئب من دم يوسف. ولكننى استفدت من مطالعة المذكرات أن الأحزاب السياسية فى حقبة الديمقراطية الثانية، التى أعقبت ثورة إكتوبر، كانت لها بعض مساع لإختراق المهنة الدبلوماسية ومباشرة التعيين السياسى لم تكلل بنجاح. ومن أمثلة ذلك سعى الحزب الإتحادى الديمقراطى لتعيين أحد أقطابه، وهو المرحوم الدكتور أحمد الطيب عابدون سفيراً بالخارجية. وقد انتهى أمر تلك المحاولة فى حينها الى أزمة سياسية بالغة التعقيد نقلت القضية من حيز السلطة التنفيذية الى ساحة البرلمان الذى عارض المسعى وهزمه. وقد أثلج ذلك القرار بلا ريب صدور قوم مؤمنين فى وزارة الخارجية آنذاك.
(4)
كنت قد أشرت فى الجزء الأول من هذا العرض الى ما ذكره أستاذنا الطيب صالح فى كون المذكرات جاءت (سجلاً أميناً) لحياة صاحبنا وللوقائع ومجرياتها. يبدو لى أن أمانة المؤلف لم تقتصر على ما يتعلق بشخصه وحده، بل شملت أيضاً ما نقله عن الآخرين، فقد نقل عن المرحوم السفير يوسف مختار قوله (الشيوعيين هُبل). ونعتْ الشيوعيين بالهبالة، مما قد لا يُسر له الشيوعيون السودانيون قطعاً. وقد عرفت أنا فى حياتى عدداً كبيراً من الشيوعيين، إبتداء من عبد الله القطيني وصلاح حسن ( رب إرحمهما كما ربياني شيوعياً صغيراً فى مدرسة عطبرة الثانوية الحكومية منتصف السبعينات). وأغلب الشيوعيين الذين عرفتهم كانوا من خيار الناس وأفاضلهم، وأكثرهم فطنة ونباهة. قليل جداً ممن صادفت من الشيوعيين تنطبق عليهم صفة "هبيل". ويعقد الأمر تعقيداً أن صاحبنا نقل أيضاً عن المغفور له السفير الدكتور بشير البكرى أنه استهجن وصفه بأنه شيوعى ولو على سبيل الدعابة، فقال: (أنا زعلان لأنك وصفتنى بأننى شيوعى، وهذه تهمة لا تليق بى إطلاقاً)!
وقد يخفف من وطأة الأمر على شيوعيينا الأفاضل فى السودان ان يعلموا بأن الشيوعيين الموصوفين بالهبالة هم شيوعيو بلغاريا، لا السودان. فقد ساء صاحبنا وصحبه سوء المعاملة وطول الإنتظار فى إحدى مطاعم صوفيا، حيث قصدوا وجبة الغولاش البلغارية الشهيرة وموسيقى السيموفونيات الكلاسيكية مثل "الدانوب الأزرق"، التى يعشقها السفير الدكتور بشير البكرى، وطمعوا فى الحصول على خدمة أفضل، فنهض السفير يوسف مختار وطلب مقابلة مدير المطعم فجيئ له به، فأخذ السفير يتحدث اليه بلغة فرنسية رفيعة لفترة قصيرة جداً، تغيرت بعدها ملامح المدير وبدأ ينظر الى الدكتور بشير البكرى نظرة تجمع بين الدهشة والإحترام الفائق. وأنطلق مدير المطعم ومعاونوه بعد ذلك فى سعى محموم لتجهير طاولة طعام خاصة للجماعة وعليها كل أنواع الأزهار والورود والشراب والمقبلات، وحولها النادلون والنادلات رهن الإشارة.
سأل الدكتور بشير البكرى عن تفسير لما يجرى، وعما قال السفير يوسف للمدير فأجاب: (إنت طبعاً عارف الشيوعيين ديل ناس هبل. أنا قلت ليه إنت سكرتير عام الحزب الشيوعى السودانى وجاى فى زيارة رسمية لبلغاريا. بس تانى ما قلت حاجة. و انت شايف المعاملة إتغيرت كيف؟) أترى أن هذا السفير كان يمثل النسخة السودانية من شخصية (منسي) التى نسج حولها الطيب صالح فصول كتابه الشهير الحامل لنفس الإسم؟ لا يهم، فها أنا قد نقلت بأمانة مطلقة، ما نقله صاحب المذكرات بأمانة أكثر إطلاقاً. والكرة الآن فى ملعب السكرتير العام للحزب الشيوعى السودانى، ولا شأن لى بالأمر بعد ذلك إذ لا ناقة لى فيه ولا جمل. فلست أنا من اُنتحلت شخصيته ووُصم أصحابه بعد ذلك بالهبالة!
(5)
للمؤلف الدكتور أحمد محمد دياب علائق قديمة، سابقة لقيام إنقلاب مايو 1969م، ببعض قادتها ورموزها. أبرز هؤلاء هو الرائد مأمون عوض أبوزيد، عضو مجلس قيادة الثورة الذى تولى رئاسة جهاز الامن القومى ووزارة الداخلية فى مراحل مختلفة من العهد المايوى، رحمه الله. والصلة بمأمون تعود الى عهد الصبا فى أم درمان وما تلاه من الشباب الباكر فى مدرسة وادى سيدنا الثانوية، ثم ترسخت وتوطدت تلك العلاقة فى معترك الحياة العريض. وبحسب صاحبنا فإن من أبرز صفات مأمون أنه (خجول وبسيط ووفى). ووصف مأمون بالوفاء يتفق فيه مع صاحبنا دياب الإمام الحبيب السيد/ الصادق المهدى شخصياً، فقد سمعت منه إبان رئاسته لمجلس الوزراء، فى النصف الثانى من الثمانينات، قوله عن الرجل أنه كان أكثر رجال الثورة فى مايو وفاء لعهوده مع قادة المعارضة.
ويبدو لى أن مأمون فى شبابه الباكر كان بسيطاً أكثر مما يتوقع المرء، فقد سأله سائل بحسب دياب فى محل للساندويتشات، بعد أن صرح بأنه لا يرغب فى أى نوع من اللحوم، عما إذا كان يفضل ساندويتش زيتون، فأجاب مأمون بأنه "لا يحب الحاجات الحلوة". واكتشف صاحبنا عندها أن مأمون لا يعرف الزيتون!
وقد شاءت أقدار الله الغالبة لهذا الفتى الخجول، الذى لم يعرف الفرق بين التين والزيتون، أن يلعب أدواراً محورية ساهمت بقدر كبير فى صياغة تاريخ السودان السياسى. ومما لفت نظرى فى المذكرات حوار معين دار فى الأيام الاولى لانقلاب 25 مايو 1969م، فقد عرض مأمون - عضو مجلس قيادة الثورة - على المؤلف، الذى كانت له تجربة قصيرة كمساعد للسكرتير الأكاديمى لجامعة الخرطوم، منصب مدير الجامعة، فسأله دياب الذى كان يظن الأمر هزلاً: " وكيف يكون ذلك؟". أجاب مأمون: " يكون بقرار من مجلس قيادة الثورة". رد المؤلف: "إن حدث ذلك يكون الأمر فوضى". هنا قال مأمون: " لماذا يكون فوضى؟ عندما قام كاسترو بالثورة فى كوبا عين رئيس إتحاد الطلاب مديرا للجامعة ". فأجاب المؤلف؛ "أولاً أنت لست كاسترو والسودان ليس كوبا". رد مأمون: " والله يا المثقفين الواحد ما عارف انتو عايزين شنو بالضبط"!
ولا أعرف مادة أفضل من مادة هذا الحوار القصير يمكن أن يخضعها مؤرخ حصيف للدراسة والتحليل، لو أنه ابتغى صورة نابضة ومعبرة عن هشاشة الذهنية السياسية ورخاوة الأرضية الفكرية التى كان يقف على صعيدها صغار الضباط من ثوار مايو هؤلاء غداة انطلاقتهم الكبرى كما أن المؤلف كان على صلة شخصية بقائد الإنقلاب جعفر نميرى، وهى صلة بدأت فى العام 1961م، أى قبل الانقلاب بثمانية أعوام، وترد فى عدة مناطق من المذكرات روايات عن الرئيس السابق. وقد وجدت أكثرها ثراء وجاذبية ذلك اللقاء الذى جرى بينهما فى القاهرة، بعد سقوط النظام ولجوء الرئيس المخلوع للإقامة فى عاصمة الكنانة. فقد أحسن النميرى إستقباله فى منزله بمصر الجديدة، ثم سأله فجأة إن كان قد التقى الدكتور منصور خالد مؤخراً، ثم عاجله بسؤال عما إذا كان قرأ كتاب منصور الأخير ( ذى قوفرنمنت ذى ديسيرف ) باللغه الإنجليزية فكان الإيجاب هو الإجابة. وهنا اندفع جعفر نميرى بصوت عال: ( لماذا يستخدم منصور كلمات إنجليزية صعبة فى هذا الكتاب؟ لقد فتشت فى عدد من القواميس عن معانى بعض الكلمات ولم أجدها)!
وكانت لصاحبنا هنا إجابة مطولة أنقلها بحرفها: (ذكرت له أن منصور يستعين بعدد من المحررين خاصة عندما يكتب بالإنجليزية، وهو يمتلك ثروة هائلة من الوثائق والمقتطفات تساعده فى إعداد كتاباته، وإنه يضع الأفكار الرئيسية والخطوط العريضة للكتاب، ثم يقوم بمراجعته بعد أن يعد فى صورته النهائية بواسطة المحررين). ولو صح فهمى لهذه الفقرة فإن منصور يكتب أفكاره بلغة عادية، ثم يعهد بما كتب الى محررين متخصصين يتولون صياغتها بلغة عالية. وواضح أن هذا ينطبق فقط على الكتابات باللغة الإنجليزية، أما العربية فلا أظن أن وراءها محرراً غير منصور نفسه.
وللنميري مع الكتاب المشار اليه بقية من قصة. فقد قام الرئيس السابق من مكانه وأتى بالكتاب نفسه ووضع يده على غلافه الذى يحتوى على صور لشخصيات سودانية لعبت أدواراً محورية فى الحركة السياسية الوطنية، مثل السيد عبد الرحمن المهدى والسيد على الميرغنى والأزهرى والمحجوب وزروق وجون قرنق. ثم التفت نميرى الى صاحبنا قائلاً: ( لماذا لم يضع منصور صورة عبد الخالق محجوب مع هؤلاء؟). ولما رأى الدهشة على وجه المؤلف استطرد الرئيس المخلوع: ( نعم أنا اختلفت مع عبد الخالق سياسياً، ولكنى لا أنكر دوره ودور الحزب الشيوعى فى الحركة الوطنية السودانية)!
(6)
ولما كان الفقير الى ربه قد عمل طيلة العام الإنتقالى، بُعيد إنتفاضة إبريل، الى جانب رئيس الحكومة الدكتور الجزولى دفع الله، فقد كان طبيعياً أن يشتد انتباهه لما ذكره المؤلف عن تجربته مع الدكتور الجزولى عند زيارته لباريس لمخاطبة الجمعية العامة لليونسكو. وقد وصف صاحبنا رئيس وزراء الإنتفاضة بأوصاف ثقيلة بعض الشئ، ولا جناح عليه. فإذا لجأ كاتب المذكرات الى تغبيش المشاعر وتلوينها، وتذويق الإنطباعات وتحسينها، فقدت المذكرات قيمتها وأصبحت من مزجاة بضائع العلاقات العامة.
وبحسب كلماته فأن دياب أخذ على شخصية الجزولى (الصرامة والتقوقع والتزمت). ومن بين ما قاده الى هذا الإنطباع، ذى القوة الثلاثية، واقعة تدقيق الدكتور الجزولى فى مسودة الخطاب الذى أعده له السفراء ليلقيه على الجمعية العامة، ثم اعتراضه على ما جاء فى مستهله من مخاطبة للأمين العام لليونسكو أنذاك بعبارة: (أخى مختار أمبو..)، متسائلاً: (كيف أخاطب الرجل بأخى وأنا لا أعرفه ولم ألتقِ به فى حياتى)! وذهبت سدى محاولات السفراء لإقناع رئيس الوزراء بأن صفة (أخى) جدُّ ملائمة لمخاطبة صديق للسودان، مثل أمبو، توطدت علائقه بحكوماته وشعبه عبر السنوات. ولم تفلح لغة الدبلوماسية فى التغلب على عقلية العالم الذى يرى الأشياء كما هى.
والذين عرفوا الدكتور الجزولى فى أول عهده برئاسة الوزارة – وكاتب هذه الكلمات من بينهم - رأوا فيه شيئاً من هذا التشدد. وهو تشدد لا ينقص – بحسب كلمات دياب نفسه – شيئاً من شخصية الرجل أو ينال من صفاته الأيجابية المتعددة. وكنت قد لاحظت فى الشهرين الاولين لرئاسته للوزارة شيئاً من ذلك التوقف الملحاح عند بعض الجزئيات والتفاصيل، وأذكر أنه وجّه إنتقادات الى مسودة بيان كان يفترض أن توجهه الحكومة الانتقالية الى الراحل العقيد جون قرنق، أعده وزير الأشغال العامة د. أمين مكى مدنى، وطلب رئيس الوزراء إدخال تعديلات عدة عليه أو إعادة صياغته، فرفض أمين طلب الرئيس وقد ضاق ذرعاً بملاحظاته التى لا تنتهى، وردَّ عليه باللغة الإنجليزية: (آيام نوت أ درافت رايتر)، يعنى أنه ليس كاتب مسودات، وتلك ترجمة حرفية للمعنى الأصلى الرابض فى جوف العبارة وهو: (أنا مش سكرتير)!
كما كان الدكتور الجزولى شديد الحساسية تجاه بعض البيانات التى يعدها ويصدرها وزير الخارجية الأستاذ أبراهيم طه أيوب دون تمريرها على رئيس الوزراء، قد غضب غضبة مضرية حين صدر بيان سياسى مشترك عقب زيارة قام بها للسودان الرئيس حسنى مبارك دون إستشارة رئيس الوزراء أو علمه. ولعل أيوب كان يؤثر تفادي ( عكلتة ) رئيس الوزراء، فيتجاوزه غير هياب ولا وجل. وذات الشئ ينطبق على وزير إعلام الإنتفاضة البروفيسور محمد بشير حامد الذى لم يرض رئيس الوزراء عن مبادرته، دون التشاور معه، بتسمية المغفور له الاستاذ على حامد والاستاذ محجوب محمد صالح رئيسين لدارى الصحافة والأيام على التوالى.
ولكن الدكتور الجزولى دفع الله كان أكثر وداعة ومرونة فى النصف الثانى من حقبة رئاسته للوزارة، فقد قمت بصياغه معظم البيانات التى ألقاها على الشعب من خلال جهازى الإذاعة والتلفاز، فلم يدخل عليها إلا تعديلات عادية طفيفة، كما قمت - وفق خطوط عريضة حددها هو - بصياغة الخطاب الذى ألقاه فى السادس والعشرين من مارس 1986م بقاعة الصداقة، فى نهاية فترة رئاسته، متضمناً مجمل إنجازات حكومته خلال العام الإنتقالى، دون أى تعديل منه فى نص الخطاب، اللهم إلا طلبه تغيير الآية القرآنية فى المقدمة. ولعله أدرك عند خواتيم تجربته أن البيانات والخطب السياسية ليست على ذلك القدر من الخطر، وأن الناس قلما يحفلون بها أو يحسنون الإستماع اليها.
(7)
ولو أنك قرأت كتاب السفير الدكتور احمد محمد دياب بكامله، لأمتعتك الذكريات المتداعية والخواطر الثرة عن فترات خصيبة شديدة الحيوية، عاشها المؤلف فى دول عدة من إفريقيا وأوربا والشرق الأوسط. وعن الصلات الحميمة مع عدد من الشخصيات الدولية الفاعلة فى حقول السياسة والثقافة. ولعل الآخرين من رفاق دياب ممن خدم بلاده فى سلك الدبلوماسية، وأحسنوا خدمتها، يجدون فى مبادرة صاحبنا بتسجيل مذكراته ونشرها حافزاً لهم على ترسُّم خطاه فينفقون من عصارات تجاربهم وركام معارفهم، لتكون صدقة جارية وعلما يُنتفع به، عسى الله أن يُثقل بها ميزان حسناتهم يوم المبعث.
*********
اعادت صحيفة (السوداني) نشر هذا المقال من ارشيف الكاتب
///////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.