د.صبري محمد خليل / أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه بجامعه الخرطوم [email protected] الوظيفة هي مجموعة من الواجبات والمسئوليات تحددها سلطة ذات اختصاص، وهى احد عناصر الاداره كعملية تتضمن توجيه وتخطيط وتنظيم وتنسيق ورقابة وصنع قرار، باستخدام الموارد المادية والبشرية لتحقيق هدف ما، ونجاح الاداره في تحقيق أهدافها يتوقف على جمله من الشروط الذاتية والموضوعية ، وبعض هذه الشروط يتصل بطبيعة المنظور الذى يلتزم به المجتمع تجاه الوظيفه، وهنا يمكن التمييز بين منظورين للوظيفة : أولا: المنظور المؤسسي للوظيفة : وهو المنظور الذى يرتكز على التمييز بين الوظيفة والشخص الذى تستند إليه الوظيفة (الموظف)، فالمؤسسة هي " كيان يقوم على مبدأ تنظيم معظم نشاط أعضاء مجتمع أو جماعة حسب نموذج تنظيمي محدد مرتبط بشكل وثيق بمشاكل أساسية أو بحاجات مجتمع أو اجتماعية أو بأحد أهدافها" ، وبالتالي فان( الفكرة الأساسية التي تميز المؤسسة عن غيرها من أشكال التنظيم الاجتماعي هي استقلاليتها عن العناصر المتشكلة منها و تميزها عن هذا العناصر بحيث أنها تضيف إليها شيئا جديدا لم يكن موجودا لديها من قبل) (ويكيبيديا، الموسوعة الحرة).والتزام المجتمع بهذا المنظور هو احد شروط نجاح الاداره في تحقيق أهدافها. المنظور الشخصي للوظيفة: وهو المنظور الذى يخلط بين الوظيفة والموظف (الشخص)، ويجعل العلاقة بينهما علاقة تطابق ، ومن أسباب شيوع هذا المنظور الشخصي للوظيفة تخلف النمو الاجتماعي للمجتمع المعين، حيث أن هذا التطابق بين الوظيفة والموظف هو من مخلفات الأطوار القبلية،حيث لا يوجد مثلا تمييز بين (وظيفة) شيخ القبيلة و (شخص) شيخ القبيلة،وهو ما يمتد ويشمل ذريته من خلال مبدأ التوريث. وشيوع هذا المنظور في مجتمع ما هو احد معوقات تحقيق الاداره لأهدافها. موقف الفكر الادارى الاسلامى من المنظورين: وقد تجاوزت المجتمعات الغربية لحد كبير و منذ فتره طويلة المنظور الشخصي للوظيفة واستبدلته بالمنظور المؤسسي لها . أما الإسلام كدين فلا يتناقض مع المنظور المؤسسي للوظيفة، لكنه يتناقض مع المنظور الشخصي لها، وخير تأكيد على ذلك واقعه عزل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لخالد بن الوليد (رضي الله عنه) حتى لا يربط المسلمون بين النصر( ذو الشروط الموضوعية) و(شخص) خالد بن الوليد ، روى سيف بن عمر أن عمر ( رضي الله عنه ) قال حين عزل خالداً عن الشام ، و المثنى بن الحارثة عن العراق ) إنما عزلتهما ليعلم الناس أن الله تعالى نصر الدين لا بنصرهما ، وأن القوة لله جميعاً ) (البداية والنهاية :7/93)، وورد أيضا في)البداية والنهاية( أن عمر( رضي الله عنه ) كتب إلى الأمصار ( إني لم أعزل خالداً عن سخطة ولا خيانة ، ولكن الناس فُتنوا به فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع))7/81)، ويقول ابن عون(ولي عمر فقال : لأنزعنَّ خالداً حتى يُعلم أن الله تعالى إنما ينصر دينه . يعني بغير خالد ) ) سير أعلام النبلاء (1/378(. معيار الكفاية وإسناد الأعمال لغير المسلم: وتأكيدا لاتساق المنظور المؤسسي للوظيفة مع الإسلام ، وتناقض المنظور الشخصي لها معه ، نجد إقرار الإسلام لمعيار الكفائه، وقول كثير من الفقهاء بجواز إسناد الأعمال لغير المسلم ، ففيما يعلق بمعيار الكفائه نجد أن الإسلام قد وجوب اختيار الشخص الكفء والمؤهل للقيام بالوظيفة المعينة، وعدم جواز عزله وتوليه غيره لهوى أو رشوة أو ولاء شخصي أو عرقي أو مذهبي... قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) ( من استعمل رجلاً على عصابة، وفيهم من أرضى الله منه فقد خان الله ورسوله) ، وقال (صلى الله عليه وسلم)( من أولى من أمر المسلمين شيئاً ، فأمر عليهم أحد محاباة ، فعليه لعنة الله لا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم).أما فيما يتعلق بجواز إسناد الأعمال لغير المسلم فإننا إذا كنا نجد في الفقه الاسلامى من يرى المنع المطلق كأغلب المالكية والإمام احمد، لكننا نجد أيضا من يرى الجواز المطلق كابي حنيفة وبعض المالكية،ومن يرى الجواز أحيانا والمنع أحيانا ، وهو رأى اغلب العلماء حيث يرى ابن العربي( أن كانت في ذلك فائدة محققه فلا باس به)(ابن العربي، 16،268)، كما جوز الماوردي وأبو يعلى لغير المسلم أن يتولى وزاره التنفيذ دون ولاية التفويض . الإسلام ورفض المنظور الشخصي: إن تناقض المنظور الشخصي للوظيفة مع الإسلام ، هو امتداد لرفضه للمنظور الشخصي بكافه أشكاله، لأنه يقوم على التأكيد على الذاتية وإلغاء الموضوعية ، بينما الإسلام يقوم على موضوعيه مطلقه ذات أبعاد تكليفيه(ممثله في قيم وقواعد الوحي)،وتكوينيه(ممثله في السنن الالهيه التي تحكم الوجود) تحدد ولا تلغى الذاتية. المنظور الشخصي للدين: ومن أشكال المنظور الشخصي التي أشارت النصوص إلى النهى عنه المنظور الشخصي للدين الذى يربط بقاء الإسلام كالدين ببقاء شخص الرسول (صلى الله عليه وسلم) كما في قوله تعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقبيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي 0للَّهُ 0لشَّاكِرِين)َ، وتأكيدا لذلك قال أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) بعد وفاه الرسول (صلى الله عليه وسلم) (ألا من كان يعبد محمدا (صلى الله عليه وسلم)، فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت (، بناءا على هذا كان احد أوجه النقد التي وجهها علماء أهل السنة للمذهب الشيعي، أنه يقوم على شكل من أشكال المنظور الشخصي للدين، يقول الشهرستاني (يجمعهم القول بأن الدين طاعة رجل، حتى حملهم ذلك على تأويل الأركان الشرعية من الصلاة والصيام والزكاة والحج وغير ذلك على الرجال... ومن اعتقد أن الدين طاعة رجل ولا رجل له، لأنه "غائب في سردابه" فلا دين له..) (الملل والنحل: 1/147). الإسلام ورفض الثيوقراطيه والكهنوت: أما الشكل المتطرف للمنظور الشخصي للدين ، والقائم على عباده الملوك فقد أشارت النصوص إلى اعتباره شرك اعتقادي ، يتناقض تناقضا لا يقبل التوفيق مع مفهوم التوحيد ، قال تعالى (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ)( القصص:38) ،وقال تعالى ( فكذب وعصى* ثم أدبر يسعى* فحشر فنادي* فقال أنا ربكم الأعلى) (النازعات: 21-24)، وهذا التناقض هو تأكيد أخر لرفض الإسلام للدولة الثيوقراطيه (اى الدولة الدينية بالمفهوم الغربي)،لان عباده الملوك هو احد أشكال نظريه الحق الالهى في الحكم ، والتي هي احد أنماط الدولة الثيوقراطيه، فالإسلام يرفض كل من الدولة الثيوقراطيه والكهنوت باعتبار إنهما أشكال مختلفة للمنظور الشخصي للدين الذى يرفضه ، فالدولة الثيوقراطيه بجعلها العلاقة بين الدين والدولة علاقة تطابق وخلط ، تنتهي إلى تحويل المطلق (الدين)، إلى محدود ونسبى (الدولة أو السلطة)، أو العكس، بالتالي تؤدى إلى إضفاء قدسيه الدين على البشر واجتهاداتهم المحدودة بالزمان والمكان، و هو ما رفضه الإسلام حين ميز بين التشريع (الذي جعله حقا لله،تعالى) والاجتهاد (الذي جعله حقا للناس. ( كما أن مذهب الكهنوت بإسناده السلطة الدينية (و السياسية) إلى فرد أو فئة ، ينفرد أو تنفرد بها دون الجماعة( رجال الدين)، جعل هذا الفرد أو هذه الجماعة وسيط بين الناس والله تعالى، وهو ما يرفضه الإسلام، قال تعالى( وإذا سالك عبادي عنى فأنى قريب أجيب دعوه الداعي إذا دعاني).وبناءا على ما سبق فان النظم السياسية الاستبدادية التي تقوم على تقديس الحاكم بطاعته طاعة مطلقه، وأقامه النصب والتماثيل ووضع الصور له في كل مكان ، تتناقض مع الإسلام ، وتستند إلى شكل من أشكال الشرك العملي. أسباب شيوع المنظور الشخصي في المجتمعات المسلمة: بناءا على ما سبق فان شيوع المنظور الشخصي للوظيفة و تقديس الحكام في المجتمعات المسلمة لا يرجع إلى الإسلام كدين ،بل هو نتيجة لتخلف النمو الاجتماعي والحضاري لهذه المجتمعات ، كمحصله لعوامل داخليه (شيوع التقليد وقفل باب الاجتهاد، شيوع البدع،الاستبداد...) وخارجية( الغزو المغولي،الصليبي، الاستعمار، القديم والجديد) متفاعلة.