[email protected] لا أعرف كم من الناس يتابعون سلسلة الكاتب الصحافي الاستاذ حسن البطري، مدير تحرير جريدة (الصحافة)، التي ما زالت تدور - إذ لم تكتمل فصولاً بعد - في مدارات عطبرة والقطار، والباخرة النيلية التي تُعرف في عامية كثير من مناطق السودان ب (الوابور). تلك حروفٌ ثرية مترعة بعبق التاريخ ومجد الكتابة. لا ريب عندي انها تثير عند كثيرين كوامن الاشجان ولواعج الأشواق. من لم يقرأها فقد أهدر خيرا كثيرا. أما أنا فقد قرأت، وما برحت استزيد. مئات الآلاف في الشمال انتموا، جيلا بعد جيل، الى وسيلتي النقل تلك، أعني القطار و(الوابور). وذلك في غالب أمره انتماء حياة ومعاش ونضال خبز. ولكن ظل هناك وبمحاذاته دائماً انتماءٌ آخر ذي طبيعة انسانية متفردة، مادته العواطف المشبوبة والمشاعر المضطرمة. كثير من أشعار واغنيات الشريط النيلي في الشمال استهدفت القطار و(الوابور)، وأدمنت خطابه بكلمات حييّة شجية ومرهفة أحيانا. ولغة حاسرة جاسرة وثائرة أحيانا اخرى. بين أحرفها، يكمن الرجاء والتوسل، أو يفور الاحتجاج والغضب. ثم تلى ذلك الاسئلة التائهة الحيرى، تستعلم الناقلات الحديدية البرية والنهرية عن المحبوب الذي حملته على أمتنتها، وغابت به عن نظر المحب، لا تلوى على شئ، تنهب خطوط الحديد نهباً، او تمخر عباب النيل الى المجهول. لا اعرف كيف جمع صاحبي كل تلك الأبيات عن عذابات الشاكين الباكين من ظلم القطار. رفيعها، من شاكلة (القطار المرّ وفيهو مرّ حبيبي)، و(قطار الشوق متين ترحل تودينا). و مهيضها، من صنف (القطار الشالك انت يتدشدش حتة حتة)، او (القطار الشال معاوية يتكسر زاوية زاوية)! ولكنني عندما قرأت عند البطري قصيدة العاشق الذي أذهله سفر المحبوب، وهو يستنجد بشاعر الشايقية الاشهر حسن الدابي، وجدت الزمان يرتد بي عقوداً الى الحي الجامعي في مدينة الرباط المغربية. كمال شرف، الطالب الذي سينال الاعتراف ويصبح شاعراً مجيداً، وطلحة جبريل الذي سيصعد الدرج في بلاط صاحبة الجلالة، حتي يؤانس الملك الحسن الثاني في قصره ويحاور الرئيس جورج بوش في بيته الابيض. يجلس الاثنان - كمال وطلحة - في قلب الغرفة وبينهما جهاز التسجيل يصدح بأنغام الطنبور، وقد اخذ الوجد منهما كل مأخذ. تسمع مغني الشايقية يتغنى بكلمات ذلك المكروب المُعنّى، الذي علم لتوّه ان محبوته احتواها بطن ذلك الوابور الشهير الذي يحمل اسم (الجلاء). حيث ينادي الشاعر خدنه في يأسٍ حزين: (ود الدابي مالك ساكت؟ ما شفت الجلا السوّاها؟ / شال محبوبتي سافر بيها كيفن عاد بعيش لولاها). وحسن الدابي لا يخذل المستجير في محنة غياب الحبيبة على متن (الجلاء) فيهب ليرد مؤازراً ومواسياً: (صحيح يا عبدو اخوي قولك حقيقة / كتير الطفّشا الجلا من فريقا / يزازي نقل سميحات الخليقة / رنين صفارتو نفسي ابت تطيقا). وتمضي الابيات لتُصلى وابور (الجلاء) بحممها وتدعو له بالويل: (صميم مكناتو تلتهمو الحريقة / قمرات نومو تسكنن ام دريقة). وأنا لا اعرف ام دريقة هذه. وأحسبها شراً مستطيراً. ولكن رسالة الشاعرين العاشقين، والمغني، وصلتني وأضنت فؤادي! ثم أنني وجدت في السلسلة تاريخ عطبرة كله، بشراً وحجراً. من لدن ابراهيم المحلاوي، وشرارات الحركة الوطنية، وشهداء الجمعية التشريعية، والطيب حسن، وقاسم امين، والحاج عبد الرحمن، وحسن خليفة العطبراوي، والرشيد مهدي، والمنبثق، وعبد الله على ابراهيم، وأمين عبد المجيد، وحاج حمد عباس، وابراهيم ملاسي، وعلى صالح داؤد، وعلى توفيق، والسرور السافلاوي، وموقف حاج الريح (جد عادل الباز)، ومكتبة دبورة، وجون أكوت كون. وصولاً الى عثمان السيد، وعبد الله القطيني، والسر بابو. ووقفت على دفاع عبد الخالق محجوب امام المحكمة العسكرية في فاتحة سني الحكم العسكري الاول. اسمعه، أعزك الله، يقول: (عشت في مدينة عطبرة عام 1947 وعاصرت تكوين اول منظمة نقابية سودانية هي هيئة شئون العمال، وكانت تلك بحق فترة عزيزة في حياتي. عرفت فيها عن كثب استقامة وشرف ورجولة عمال السودان). وأدهشني حقاً ما قرأته للمرة الاولى، عند حسن البطري، منسوباً الى الاستاذ محمود محمد طه: (كل المدفونين في عطبرة من اولياء الله الصالحين، ويجب التبرك بهم، لأنهم شهداء العيش والكفاف)! أحسنت يا حسن، وانت توثق لعطبرة، ولقاطرات البخار والديزل. ثم للوابورات الأربعة (الجلاء وكربكان وعطارد والزهرة) اللائي سحقن مشاعر عشاق بني شايق، ذوي القلوب المرهفة. ثم وانت توثق للشعر في الحناجر، وللطنبور في ايادي المبدعين على طول شواطئ النيل، سليل الفراديس. نقلاً عن صحيفة (السوداني)