لم يكن اسم السودان كثير التردد في إجتماعات مجلس الأمن القومي في واشنطون في مطلع الألفية الجدية، ولكن بعد أحداث 11 سبتمبر كشف الصحفي الشهير بوب وودورد في كتابه "حرب بوش" أن أسم السودان تردد أربع مرات ضمن إجتماعات الرئاسة تحضيرا للحرب ضد الإرهاب وغزو افغانستان والعراق، وقال حينها وزير الخارجية كولن باول للرئيس بوش يجب هذه المرة أن نتجب تكرار أخطاء قصف مصنع الشفاء بالخرطوم وألا تصدر أوامر القصف الجوي إلا بعد التأكد من المواقع المستهدفة. وقد وافقه الرئيس بوش علي الفور في إعتراف ضمني بأن قصف مصنع الشفاء كان خطأ فادحا. ولكن الحصانة التي تتمتع بها قرارات الرئيس في السياسة الخارجية وحماية الأمن القومي تجعل من المستحيل مقاضاةمؤسسات الدولة الأمريكية أمام المحاكم الأمريكية، وذلك ما توصل اليه محامي صلاح إدريس مالك المصنع الذي حاول ان يستعين بالقانون الدولي للحصول علي التعويض بعد أن أعيته الحجة في أختراق حصانات قرارات الرئيس الأمريكي في شئون الأمن القومي أمام القضاء الأمريكي. خصصت كوندليزا رايس وزير الخارجية الأسبق في عهد بوش حيزا مقدرا في مذكراتها "ليس شرفا أعلي" للسودان وسردت قصة زيارتها للسودان ومقابلتها للرئيس البشير وكذلك ملابسات سقوط الصحفية أندريه ميتشل كبيرة المراسلين للشئون الخارجية لقناة NBC.علي الارض في بيت الضيافة بالخرطوم وهي تكافح لتوجيه أسئلة للرئيس البشير، وكذلك لغط زيارتها لمعسكر أبوشوك عندما تم إحضار عشر سيدات تم تلقيهن دورا متقنا في مسرحية الإغتصاب الجماعي ..كانت الواحدة تقول .)خرجت لجمع حطب الوقود في الصباح.هاجمني عدد من الرجال الملثمين، ورموني أرضا وبدأوا في نزع ملابسي...و... (ثم تنخرط في موجة من البكاء. فيربت منسوبو المنظمات علي كتفهن تعاطفا. فتقول رايس هازة رأسها،نعم...نعم..فهمت،لا داعي لإكمال القصة. خرجت رايس من هذه الزيارة وهي أثقل صدرا تجاه السودان، لتتبني إصدار قرار من مجلس الأمن حمل الرقم 1820 في العام 2008، الذي أكد أن الإغتصاب يعتبر جريمة حرب.. وقالت رايس في مذكراتها إنها عندما غادرت موقعها في الخارجية لم تترك وراءها موضوعا مؤرقا للدبلوماسية الأمريكية أكثر من السودان. رغم أن صدور المذكرات يعتبر تقليدا راسخا وعادة دارجة لمن تقلدوا منصب وزير خارجية الولاياتالمتحدة ولكن بعض المراقبين عدو صدور مذكرات هيلاري كلنتون "الخيارات الصعبة" في العام 2014 بمثابة تدشين مبكر لحملتها الإنتخابية لغوض غمار إنتخابات الرئاسة الأمريكية. وسبق لمجلة تايم الأمريكية أن ذكرت ثلاثة اسباب تجعل من خيار خوض كلنتون للرئاسة مهمة صعبة، منها وضعها الصحي بعد تعرضها لجلطة من قبل وفضيحة إغتيال السفير الأمريكي في ليبيا والتي حملها الكونقرس مسئوليته وكذلك عامل الجندر بإعتبارها أول أمرأة تخوض غمار الإنتخابات للمرة الثانية بعد أن نافست الرئيس أوباما في عام 2008. من آخر أربعة وزراء خارجية في واشنطون زار ثلاثة منهم السودان، وهم مادلين أولبرايت وكولن باول وكوندليزا رايس، ما عدا هيلاري كلنتون، وتناول أثنان منهم تفاصيل زيارتهم للسودان هما مادلين أولبرايت في كتابها "الجبار والجبروت" وذكرت أنها لم تتناول مشروب الضيافة السودانية مع الرئيس البشير خوفا من أن يكون مسموما، هذا فضلا عن عن مذكرات رايس التي اشرنا اليها من قبل "ليس شرفا أعلي". لآل كلنتون (بل وهيلاري) وطاقم أفريقيا في الحزب الديمقراطي أياد سابغات بالعداء تجاه السودان، فقد وقع كلنتون قانون العقوبات عام 1997 وأمر بقصف مصنع الشفاء رغم أنه أعترف في محاضرة مشهودة في ملبورن بأستراليا عن خطأ تقديراته في قصف المصنع الشفاء ورفض عرض السودان بتسليمه بن لادن. و يحفظ المراقبون للدكتور مصطفي عثمان وزير الخارجية الأسبق موقفا تميز بالجرأة والشجاعة وهو يخطو تجاه الرئيس كلنتون في حفل إستقبال الأممالمتحدة ويقول له انا وزير خارجية السودان وأريد أن أتحدث معك عن العلاقات الثنائية بعد أن سدت في وجهنا الأبواب، فأضطر مساعدوا الرئيس الي تحديد موعد عاجل مع كبار مسئولي الوزارة. ومن جانبها فقد بذلت هيلاري وعودا جذابة للسودان قبل شهور من إجراء الإستفتاء أثناء أجتماع نيويورك المشهور علي هامش إجتماعات الجمعية العامة 2010 الذي دشن فعليا أنفصال جنوب السودان، وقالت إن واشنطون مستعدة لإجراء التسويات اللازمة مع السودان لتسهيل الإستفتاء. وتكشف مذكراتها أن السودان لم يكن ضمن أولويات أجندتها في أفريقيا التي خصصت لها فصلا في الكتاب تحت عنوان "النمو أو البندقية". وقد ورد أسم السودان في كتابها ثلاث مرات فقط في سياق مناقشتها للمتاعب التي واجهت جنوب السودان بعد إنفصاله. وقالت كلنتون في إعتراف نادر وهي تقارن بين سياسة أمريكاوالصين في أفريقيا ولماذا نجحت بكين في خلق علاقات راسخة مع معظم القادة الأفارقة تحت مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية والتغاطي عن سجل الحكومات الأفريقية في حقوق الإنسان، قالت كلنتون إن علاقات الصين بالسودان والدعم الذي قدمته بكين للخرطوم أضعف من منظومة العقوبات الغربية علي السودان وأفقدها فعاليتها، مما يؤكد نجاعة توجهات السياسة الخارجية نحو الشرق. وقالت كلنتون في مذكراتها أنها زارت جوبا في أغسطس 2012 لنزع فتيل الأزمة مع السودان بعد أن قررت الحكومة إغلاق أنابيب النفط. وأشارت الي أن هدف أجتماعها مع الرئيس سلفاكير بجوبا كان لرده عن سياسة الإضرار بالنفس جراء إغلاق أنابيب النفط، وقال سلفاكير مبررا قرار حكومته إن حرمان الجنوب من عائدات النفط لن يكون أكثر نصبا ورهقا من سقف المتاعب التي عاشها مواطنوا الجنوب من قبلأثناء الحرب. وقالت كلنتون انها أضطرت أمام هذه الحجة التي أصر عليها سلفاكير الي جذب نسخة من صحيفة النيويورك تايمز كانت تحملها معها، وفي حركة لا تتناسب مع بروتكولات مثل هذه الإجتماعات رفيعة المستوي طلبت من الرئيس سلفاكير أن يقرأ احدي المقالات الواردة في الصحيفة. وبعد دقائق رفع سلفاكير رأسه قائلا: "نعم إني أعرف كاتبه لقد كانت جنديا معي في الحركة". فقالت كلنتون ولكنه الآن رجل سلام. وكانت تشير في ذلك الي القس إلياس تعبان الذي كتب مقالا عن أزمة جنوب السودان قبل أيام من زيارة كلنتون الي جوبا في صحيفة النيويورك تايمز، و ذكر فيهتعبان قيادة الحركة أن شعب جنوب السودان لم يحارب من أجل النفط بل من أجل الحرية والإستقلال. واستغلت كلنتون هذه السانحة لتؤكد لسفاكير مرة أخري أن إغلاق أنابيب النفط سيضر بمصالح جنوب السودان وأن نصيب الجنوب من عائدات النفط وإن قل أفضل من لا شئ.وقرظت رؤية القس إلياس تعبان الذي ينشد السلام مشيرة الي أن الإستقلال والحرية هما مطلب شعب الجنوب وليس إشعال حرب مع السودان من أجل اقتسام عائدات النفط. وقالت كلنتون إن سلفاكير بعد هذه المرافعة وافق علي التوصل الي إتفاق مع السودان وهو الأمر الذي حدث في صبيحة اليوم الثاني بين وفدي التفاوض في أديس أبابا عندما تم توقيع إتفاقيات التعاون المشهورة بين البلدين. وهو ما اشار اليه الدكتور اليكس دي وال عندما قال إن سلفاكير كان يؤجر فيلا بخمسة وعشرين ألف دولار في اليوم في أديس أبابا لحضور أحدي القمم الأفريقية ويمنع شعبه من عائدات النفط بإصطناع المعارك مع السودان. واختتمت كلنتون قصتها بما يشبه دراما النهايات السعيدة في أفلام هوليوود إذ أنها دعت القس تعبان وزوجته الي نيويورك لتكريمه بإحدي جوائز مؤسسة كلنتون للأعمال الإنسانية فقالت أنه ارتجل كلمة بليغة أشاد فيها بحكمة كلنتون في نزع فتيل الأزمة بين الشمال والجنوب وأشار الي طفل تحمله زوجته كان قد تبناه بعد أن وجدته السلطات ملقي علي قارعة الطريق في أحدي المدن بعد غارة حربية فقال أنه عندما تسلم الطفل وجد حبل السرة ما يزال متصلا به وهو ذات ما حدث له في طفولته عندما وضعه والده علي الحدود اليوغندية هربا من حمي المعارك الحربية بين الجيش السوداني والمتمردين، فوجد من أنقذوه أن حبل السرة ما يزال متصلا به. عندما قدمت كلنتون الصغيرة أستقالتها من شركة المحاماة بواشنطون وقررت أن تلتحق بأركنساس لتتزوج بل كلنتون حينها قال لها رئيسها في العمل بأنه قرار خاطيء، وفي المستقبل قالت تزوجته لأني أعلم أنه سيكون رئيسا لأمريكا. ولم يكن غريبا علي إدارة الرئيس أوباما ووزير خارجته هيلاري كلنتون أن تتجاهل أمر السودان بعد أن تحققت بغيتهمبفصل جنوب السودان، وهذا يعيد للذاكرة ما كشفت عنه وثائق ويكيليكس عندما قالت جواندي فريزر مساعدة وزير الخارجية للشئون الأفريقية في مقر إقامة القائم بالأعمال بالخرطوم البرتو فرنانديز لكل من باقان أموم وياسر عرمان ودينق ألور أن هدف الولاياتالمتحدة هو فصل جنوب السودان لذا فإن واشنطون لا تأبه لشعارات السودان الجديد ولا يهمها وحدوية قرنق. لكل ذلك ليس غريبا أيضا أن يأتي ذكر السودان في مذكرات هيلاري كلنتون عرضا وعلي هامش سيرة حديثها السياسي عن معالجة أزمة جنوب السودان. ولعل النتيجة الطبيعية أن واشنطون فقدت نفوذها التاريخي علي السودان الذي بنته علي مسار عقود متطاولة بإعتبارها القوي العظمي الوحيدة في الوقت الراهن. ولكن الأزمة الراهنة في جنوب السودان كشفت لواشنطون أن الأكتفاء بمحور التحالف مع جوبا ليس كافيا لأن السودان ما يزال رقما صعبا في التسويات والإستقرار وصياغة التحالفات الإقليمية.