على الرغم من أن الفكر القومي العربي المؤمن بروابط العروبة والإسلام وإمكانية قيام كيان سياسي موحد قد نشأ بأيدٍ تجاوزت الاختلافات الدينية, إلا أنه إبان القرن الماضي برزت العديد من التوجهات القومية التي شكلت في مجملها ردة عن العروبة واعتناق قوميات أخرى ليس باعتبارها مفهومًا ثقافيًا ولكن باعتبارها مفهومًا بيولوجيًا متوارث عن الأجيال السابقة، وتنبع هذه الافتراضات من خلال رؤى أُحاديه الاتجاه ترى أن هذه الحضارة أو تلك هي أصل الحضارات كلها, أو أن علو كعبها على الحضارات الأخرى يمنحها شيئاً من حق الاستعلاء على الآخر, وبالتالي يكون الانتماء لها وإحياء تراثها محمدةٌ واجبة حتى لو كانت على حساب العروبة ببعديها الديني والسياسي. فقد دعا سلامة موسى المصريين في كتابه "مصر أصل الحضارة" إلى العودة إلى الهوية الفرعونية, وشكلت فكرة الاستمرارية البيولوجية في كتابه حجر الزاوية في تحديد الهوية المصرية، حيث سلط الضوء في حديثه عن السحنة المصرية، والدم المصري، والسلالة المصرية, مشيراً إلى أن المصريين الحاليين هم سلالة الفراعنة, ولا جدال في ذلك. غير أن الدعوة لإحياء فرعونية مصر لم تقتصر فقط على الأقباط المفهومة دوافع دعواهم, بل امتدت إلى كتاب مسلمين من أمثال طه حسين الأديب المعروف, فقد وصفه محمد السعيد الزاهري الجزائري, في مقال له في مجلة الصراط السوي التي كانت تصدرها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالشعوبي الماكر, حيث قال أن طه حسين كان يقود حملةً مستترة لاحياء فرعونية مصر مما جعل الكثيرين يستنكرون ذلك عليه ويدعون إلى حرق كتبه, وحديثاً نجد أن وزارة الثقافة المصرية انتجت العديد من الكتب الفرعونية التي كان آخرها موسوعة مصر القديمة التي لقيت من الاشادة الكثير لتجسيرها الهوة بين المصريين المعاصرين وبين أجدادهم من الفراعنة, على الرغم من أن البعض يرى مثل هذه الدعاوى إحياءً للحضارة المصرية القديمة, إلا أن آخرين يروها إهانة متعمدة للشعب المصرى كله. أما في لبنان ذلك البلد الذي يعج بالمسيحيين الذين قدموا للغة العربية والتي هي أهم روابط العروبة الكثير, فقد رفع سعيد عقل, الشاعر اللبناني الراحل قبل فترة قصيرة, لواء الفينيقية عقب ارتداده عن الفكر العروبي الذي كان من دعاته, حيث يقول الشاعر الصغير, كما كان يلقب بسبب شاعريته التي سطعت منذ طفولته، أن التاريخ يبدأ من لبنان، حيث صنع الفينيقيون تاريخ الشرق من هذا المكان، كان سعيد عقل عروبياً تغنى لبغداد ودمشق وحتى مكةالمكرمة وهو المسيحي الديانة، ليرتد لاحقاً عن الفكر العروبي ويعلن فينيقيته بشكل سافر, وربما دعته تلك الردة إلى تجاوز بعض الخطوط الحمراء في آرائه السياسية تجاه الفلسطينيين والتي لاقت استهجاناً من الكثيرين الذين تمنوا لو لم يخض الرجل في أوحال السياسة, فقد أعلن جهاراً تأييده للقضاء الإسرائيلي على الوجود الفلسطيني في لبنان عبر تأييده للهجوم الإسرائيلي على لبنان بالعام 1982 نكايةً بالوجود العسكري الفلسطيني المسلح في لبنان. ويعتبر سعيد عقل من أكبر دعاة القومية اللبنانية التي ساهم بشكل كبير في تأطير فكرها الإيديولوجي من خلال التركيز على "الخاصية اللبنانية" باعتبارها مفهوماً قومياً يجب إعلاءه, فهو يعتبر الأب الروحي لحزب "حراس الأرْز" الذي يشي اسمه بمكنونه. أما في المغرب العربي فقد وصل الفاعلون الأمازيغيون إلى حد الدعوة لممارسة التعليم بلغتهم الأصلية إمعاناً في هجر العروبة التي أصبح لا عزاء لها بعد أن كثُر هاجروها. وفي السودان المتسع لأكثر من مائة وخمسون لغة وأكثر من خمسمائة قبيلة, خرجت كثير من الدراسات التي أصلت لسودانوية البلاد التي احتاجت كثيراً لتأصيل عروبتها على خلاف الآخرين من منظومة الدول العربية, وما احتاجت لكثير عناء حين نزع اليد منها. غير أن ظاهرة الردة عن العروبة وإعلاء شأن قومياتٍ أخرى هي ظاهرة تستحق الوقوف والنظر إليها بعمق في ظل المعطيات الحالية والمتسارعة نحو تغيير كثير من الثوابت القائمة لزمن طويل, كانت الوحدة العربية فكرة جاذبة وبراقة لحين من الزمان, غير أن واقع الحال السياسي والعرقي انعكس جلياً في وجه العروبة المتهالك, الجامعة العربية, هذا الكيان الذي لا رائحة له ولا لون هو خير شاهد على فشل الفكرة مما جعل للردة عنها رد فعل مضاد في الاتجاه ولا يساويه في المقدار, بل أكبر وأشد, فكان اللجوء لإعلاء القوميات المؤكدة على تشرزم الواقع العربي مقابل العروبة التي كان المرجو منها إعطاء مثالاً كالإتحاد الأوروبي يوحد اطراف الأمة من المحيط إلى الخليج ويجسِّر ما تآكل من عرىً بين الشعوب العربية, وهذا ما حدث نقيضه تماماً. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.