عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. لقد تفشت في أيامنا هذه ظاهرة ادعاء رؤية رسول الله (ص) في المنام وبناء احكامٍ وقراراتٍ وأفعالٍ على ضوئها، وهذه الظاهرة جذورها عميقة جداً في مجتمعنا السوداني الذي قام أساساً على مذاهب التصوف وطرقه المختلفة. ورؤية الرسول (ص) بالنسبة للمتصوفة إشارة على الصلاح الشخصي ودليل على صحة الطريقة التي يسلكها صاحب الرؤيا، والحق يقال أنّ المتصوفة لم يستخدموا أو يستغلوا هذه الرؤى في مسائل الحرب والسياسة لمساندة الملوك والرؤساء أو لتأسيس نظامٍ سياسي يكونون هم على رأسه، ومن يقرأ كتاب الطبقات لود ضيف الله يجده قد ذكر كرامات الأولياء بكثافة ولكنّه لم يذكر رؤى رسول الله (ص) إلا قليلاً وقد انحصرت في مسائل وراثة الطريقة وبعض مسائل الفقه وبناء المساجد (راجع الطبقات صفحة 15و 21)، ولن يجد الباحث أي رابط بين تلك الرؤى والحرب والسياسة في دولة الفونج بالرغم من اسراف بعضهم في ادعاء الرؤيا. فقد ذكر ود ضيف الله أنّ "الشيخ خوجلي [كان] يرى النبي (ص) في كل ليلةٍ أريعة وعشرين مرة و[كانت] الرؤيا يقظة" (الطبقات، ص 102).ومع كل هذا الكم الهائل من الرؤى المنامية والمقابلات الحيّة لم يصلنا خبرٌ واحدٌ يفيد أنّ الشيخ خوجلي استغل رؤية النبي (ص) في مسائل الحرب والسياسة ومساندة السلطان. ولكن اختلف الأمر تماماً عندما قام محمد أحمد بن عبد الله يدّعي أنّه المهدي المنتظر مستنداً على رؤيا رآها في المنام. فقد كتب للشيخ محمد الطيب البصير شيخ الطريقة السمانية بالحلاوين خطاباً يعلن فيه مهديته يقول فيه: " ومن البشاير التي حصلت لنا حضرة نبوية حاضر عليها الفقيه عيسى، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلّم ويجلس معي ويقول للأخ المذكور: شيخك هو المهدي، فيقول : إنّي مؤمن بذلك، فيقول صلى الله عليه وسلّم: من لم يصدق بمهديته كفر بالله ورسوله، قالها ثلاث مرات. ثم يقول له الأخ المذكور: يا سيدي يا رسول الله، الناس من العلماء يستهزئون بنا، والخشية أيضاً من الترك. فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله والله والله إن قويَ يقينكم إن أشرتم بأدنى قشة تنقضي حاجتكم" (منشورات المهدي، تحقيق بروفيسور محمد إبراهيم أبو سليم، ص. 14، الطبعة الثانية 1979). وفي منشور الدعوة وهو عبارة عن خطابٍ أرسله للشيخ دفع الله بقوي يقول: "وأعلمني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأني المهدي المنتظر، وخلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجلوس على كرسيه (ص) مراراً بحضرة الخلفاء والأقطاب والخضر عليه السلام وجمعٌ من الأولياء الميتين، وبعض من الفقراء الذين لا يعبأ بهم، وقلدني سيفه صلى الله عليه وسلم وأيدني بالملايكة العشرة الكرام وأن يصحبني عزرائيل (ملك الموت) دايماً، ففي ساحات الحرب أمام جيشي، وفي غيره يكون ورائيا، وأن يصحبني الخضر عليه السلام دايماً، ويكون أمامنا سيد الوحود صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الاربعة والاقطاب الاربعة وستين ألف وليّ من الأموات، ولا زال التأييد يزداد والأخبار من سيّد الوجود صلى الله عليه وسلم في حضرات كثيرة مع الهواتف الربانية" (المرجع السابق، ص. 24). وهكذا ادخل المهدي للساحة السودانية لأول مرة بدعة إدارة الدولة والشئون السياسية والعسكرية بالرؤيا، فأصبحت الدماء تهدر بالرؤيا ويكفّر الإنسان وتصادر أمواله بالرؤيا وتدار الشئون العسكرية بالرؤيا فأصبحت الساحة السودانية من بعد المهدية أرض خصبة للدجل والشعوذة والأنبياء الكذبة. والناس في مسألة الرؤيا يستندون على حديث أبو هريرة - رضي الله عنه – الذي يقول فيه: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تسموا باسمي ولا تتكنوا بكنيتي ، ومن رآني في المنام فقد رآني حقاً ، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي ، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " (رواه البخاري). وقال الفقيه المالكي الإمام أبو القاسم بن جُزَيّ في كتابه القوانين الفقهية معلقاً على هذا الحديث : " وقال العلماء: لا تصح رؤية النبي (ص) قطعاً إلا لصحابي رآه لحِفاظِ صفته حتى يكون المثال الذي رآه في المنام مطابقاً لخلقته (ص)" (القوانين الفقهية، ص 359). فإذن وفقاً لعلماء الفقه المالكي حسب افادة ابن جزيّ لا تصح رؤيا رسول الله (ص) ولا تقبل شرعاً إلا من شخصٍ رآه حيّاً وكان يعرفه حق المعرفة، وبالطبع لم يره أحدٌ من الناس حيّاً سوى صحابته رضوان الله عليهم ومن عاصره من أهل الكتاب والمشركين. وعليه، لا يجوز بناء أيّ حكمٍ شرعيٍ على مثل هذه الرؤى المنامية ويجب ألا يؤخذ بها في الحروب ولا القضاء ولا الفتاوى ولا التشريعات ولا السياسات. وكما قال الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي رضى الله عنه: " وكل ما فيه خلاف فالاحتياط أن تخرج من الخلاف باجتنابه" عملاً بحديث رسول الله (ص) : "دع ما يريبك الى ما لا يريبك". وختام الكلام هو إن الحديث أعلاه خطاب خاص للصحابة الذين شاهدوا شخصه (ص) فالشيطان فعلاً لا يتمثل شخصية رسول الله (ص) لهم لأنّهم قد شاهدوه حيّاً وعرفوا صورته وسمعوا صوته. فمن المهم جداً أن يعلم المسلمون أنّ الحديث ليس عاماً ومطلقاً في كل رؤيا يراها المسلم كما ظنّ كثير منهم، والأهم من ذلك كله أن يعلموا أنّه لا يجوز بناء أيّ حكمٍ شرعي ولا بناء نظامٍ سياسي ولا خوض معركة عسكرية على أمثال هذه الرؤى، ولا يجوز شرعاً اتباع الأشخاص الذين يصدرون أحكاماً على هذا الأساس غير الشرعي يقودون به الناس إلى المهالك في وضح النهار كما أثبت التاريخ القديم والحديث. فإتباع الضوابط الشرعية للرؤيا هو العاصم من هذا الدجل وتلك الشعوذة التي اصيب بها مجتمعنا السوداني خاصة واضرت بالإسلام ضرراً بالغاً.