Abdelwahab El-Affendi [[email protected]] (1) حدث أحد الإخوة الأفاضل أنه كان استضاف في العاصمة السودانية الخرطوم الصيف المنصرم أحد مسلمي بريطانيا قضى بضعة أسابيع وهو يستكشف أوضاع السودان ويتعرف على أهله. وعندما سئل في نهاية مقامه عن انطباعاته عن البلد لخصها في جملة واحدة: إن السوداني أطيب الناس وأكرمهم وأحسنهم معاملة، ما لم يكن يقود سيارة، فعندها لا أحد يمكنه أن يجاريه شراسة وعدوانية! (2) تذكرت هذه الطرفة–الحكمة أثناء نقاش دار في منتدى حول احتمالات الوحدة والانفصال شاركت فيه في الخرطوم في مطلع هذا الشهر، حيث تذاكرنا مفارقة التناقض بين السلوك الحضاري السوداني المعهود القائم على التعامل الودي اجتماعياً مع كل المواطنين مهما اتسعت رقعة الخلاف بينهم، وبين ما شهدته البلاد وتشهده من صراعات دموية لا تكاد تنتهي. (3) استذكرت في هذا المقام واقعة رواها لي الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر عن رئاسته لمفاوضات السلام بين الحكومة ومتمردي الجنوب في أواخر عام 1989، حيث روى كيف أنه دخل غرفة الاجتماع متوجساً من التوتر الذي توقع أن يسود اللقاء، وأعد نفسه لذلك بنكات وطرف قرر أن يفتتح بها اللقاء لكسر برودة الجو. ولكنه فوجيء مع دخول الوفود أن أفراد الوفدين أقبلوا على بعضهم البعض بالتحايا والعناق شأن أصدقاء أعزاء فرقتهم الأيام، وتركوه واقفاً يسائل نفسه في دهشة: لماذا يقتتل هؤلاء الناس إذا كان بينهم كل هذا الود؟ (4) بعد بضعة أشهر من ذاك اللقاء مع كارتر طرح علي مراسل وكالة رويتر (البريطاني الجنسية) نفس السؤال في العاصمة النيجرية أبوجا أثناء حفل استقبال أقامه وزير الخارجية النيجرية على شرف الوفود السودانية المشاركة في مفاوضات السلام وقتها. قال الرجل: لقد غطيت عدداً لا يحصى من مفاوضات السلام، وهذه أول مرة أشاهد فيها ممثلي الأطراف المتحاربة وهم يتصرفون كأنهم شلة من الأصدقاء لا أعداء متحاربين، وهو ما يستعصي على الفهم، خاصة في ضوء ما نسمعه عن بشاعة ما يحدث في الميدان. (5) مرة أخرى لم يكن لدي تفسير لهذه الظاهرة السودانية بامتياز، وهي ظاهرة تشبه انفصام الشخصية، كما أنها قديمة على ما يبدو. أحد شعراء العامية أشار إليها في مدح بعض الوجهاء حيث قال عنه: "كاتال في الخلا وعقبان كريم في البيت". وليس هذا ببعيد من كثير من معاني الشعر العربي الكلاسيكي الذي يجتهد في الجمع في المدح بين الشجاعة في الوغى والكرم في السلم. (6) أكاد أجزم، ومن واقع التجربة الشخصية، أن مشاعر المودة والحفاوة التي يبديها السودانيون تجاه بعضهم البعض في المناسبات الاجتماعية رغم تباعد المواقف ليس فيها أدني تصنع، رغم أن بعض مظاهرها ضعفت هذه الأيام وتراجعت. وهناك شواهد كثيرة لا مجال للتفصيل فيها هنا تؤكد ذلك. (7) هذه المفارقة تعيد بدورها طرح السؤال المحوري: إلى أي سبب يمكن إرجاع "فصام الشخصية" هذا؟ ولماذا يعجز السودانيون عن تعميم سلوكهم الحضاري إلى عالم السياسة؟ (8) هناك أكثر من عمل روائي سعى لاستقصاء ظاهرة الأطر العامة للسلوك الإنساني، وكيف يتأثر بتغير السياق العام، ومن ذلك رواية "سيد الذباب" لويليام غولدينج، وهي تحكي كيف تحولت مجموعة من الأطفال وجدت نفسها في جزيرة معزولة إلى وحوش كاسرة يقتل بعضها بعضاً. والحديث عن قانون الغاب هنا له أكثر من معنى مجازي، لأن الغابة بطبيعتها تفرض قانونها. (9) طرقات العاصمة السودانية تمثل غابة حقيقية بسبب خططها العشوائية وقلة أو انعدام العلامات الواضحة وإشارات المرور أو القواعد المتعارف عليها للسلوك. ولهذا فإن هذه الطرقات تفرض قانونها وتستوجب السلوك العدواني المتحفز. (10) ولكن هذا التحول الظرفي الطارئ لا يكفي وحده لتفسير الانقلاب على السلوك المتحضر المتوارث عبر حقب طويلة من العيش في بيئة قروية زراعية يتعارف أهلها ويرتبطون بصلة القرابة ويعتمدون على بعضهم البعض. ذلك أن التجربة تؤكد كذلك أن تحولات أكبر في البيئة العامة، كما يحدث في المهجر، جعلت السودانيين أكثر تمسكاً بقيمهم الموروثة، وأقرب إلى بعضهم البعض منهم داخل الوطن. (11) المتغير الأبرز الذي صاحب "التوحش" السوداني كان ولا يزال الأيديولوجيات الانقلابية بكل أطيافها، من يسارية ويمينية وإسلامية أو عرقية-قبلية. ذلك أن كل هذه الأيديولوجيات ترسم خارطة طريق نحو اليوتوبيا تبدأ من إلغاء الواقع وتبرير تجاوز كل القيم المتعارف عليها باسم الجنة الموعودة. (12) بحسب هذه الأيديولوجيات فإن الحاضر بما فيه ومن فيه يسقط من دائرة الإبصار المسمرة على مشهد اليوتوبيا القابعة وراء الأفق، والتي باسمها يتم تجاهل المحيط القريب ورؤاه وآلامه، بل وتدمير مكوناته بحسب المقولة المأثورة لأحد أقطاب الفكر الأيديولوجي: "لو أردت أن تصنع عجة فلابد من تكسير البيض." وفي هذا المنظور يصبح البشر مجرد "بيض" لا قيمة لهم إلا عبر ما ينتج عن تكسيرهم. ومع هذا العمى الأيديولوجي الذي يصيب القلوب التي في الصدور، تضيع المشاعر الإنسانية ومعها قيمة الإنسان.