السودان.. مجلسا السيادة والوزراء يجيزان قانون جهاز المخابرات العامة المعدل    الخليفة العام للطريق التجانية يبعث برقية تعزية للبرهان في نجله    ثنائية البديل خوسيلو تحرق بايرن ميونيخ وتعبر بريال مدريد لنهائي الأبطال    ريال مدريد يعبر لنهائي الابطال على حساب بايرن بثنائية رهيبة    شاهد بالفيديو.. الفنانة مروة الدولية تعود لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي بمقطع وهي تتفاعل مع زوجها الذي ظهر وهو يرقص ويستعرض خلفها    ضياء الدين بلال يكتب: نصيحة.. لحميدتي (التاجر)00!    ناس جدة هوي…نحنا كلنا اخوان !!!    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل مصري حضره المئات.. شباب مصريون يرددون أغنية الفنان السوداني الراحل خوجلي عثمان والجمهور السوداني يشيد: (كلنا نتفق انكم غنيتوها بطريقة حلوة)    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    شاهد بالفيديو.. القيادية في الحرية والتغيير حنان حسن: (حصلت لي حاجات سمحة..أولاد قابلوني في أحد شوارع القاهرة وصوروني من وراء.. وانا قلت ليهم تعالوا صوروني من قدام عشان تحسوا بالانجاز)    شاهد بالصورة.. شاعر سوداني شاب يضع نفسه في "سيلفي" مع المذيعة الحسناء ريان الظاهر باستخدام "الفوتشوب" ويعرض نفسه لسخرية الجمهور    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    مصر والأزمات الإقليمية    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية: دمج جميع القوات الأخرى لبناء جيش وطني قومي مهني واحد اساسه القوات المسلحة    الولايات المتحدة تختبر الذكاء الاصطناعي في مقابلات اللاجئين    الخليفي يهاجم صحفيا بسبب إنريكي    أسطورة فرنسا: مبابي سينتقل للدوري السعودي!    عقار يلتقي مدير عام وحدة مكافحة العنف ضد المرأة    كرتنا السودانية بين الأمس واليوم)    ديمبلي ومبابي على رأس تشكيل باريس أمام دورتموند    ترامب يواجه عقوبة السجن المحتملة بسبب ارتكابه انتهاكات.. والقاضي يحذره    محمد الطيب كبور يكتب: لا للحرب كيف يعني ؟!    مصر تدين العملية العسكرية في رفح وتعتبرها تهديدا خطيرا    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    دبابيس ودالشريف    رسميا.. حماس توافق على مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطيب صالح .. بين أمآسي دافئة وثلوج منهمرة .. بقلم: السفير موسس أكول
نشر في سودانيل يوم 06 - 03 - 2015

تميًس مُقدِم البرنامج في خطوات هادئة نحو المنصة الأنيقة التي إنتصبت وحيدة في الركن الأيمن للقاعة الكبيرة في الفندق الواقع على مقربة من نهاية شارع كولمبيا بايك والطريق الدائري ((كيبيتال بيلت ويي)) في ضاحية فيرفاكس بولاية فرجينيا الأمريكية. طرق بأصبعه الوسطى على المصدح بنقرات خفيفة وإبتسامة عريضة تعلو محياه وبريق زهو محتشم يتسرب من عينيه. "الاساتذة الأجلاء، الضيوف الكرام، الحضور الكريم، آنساتي، سيداتي وسادتي، نأسف للتأخير، ويطيب لي في هذه السانحة أن ..." في كلمة رقيقة وبلسان ذرب وفصاحة آسرة رحب الأخ عمر إسماعيل قمرالدين بالجمع الغفير من السودانيين الذين إكتظت بهم القاعة في أُمسية مازالت حينها تتوشح ثوب عسجدي حفها وهج شفق المغيب. وشكر مقدم البرنامج الحضور صبرهم وهم ينتظرون بدء فعاليات ما رُوج لها بأنها أُمسية ((ونسة سودانية)) بلا عنوان أو شعار أو موضوع بعينه.
صفق الجميع كثيراً، ولم يبدو أن أحداً كان منزعجاً لتأخر موعد بدء البرنامج، ويبدو أن المفعول السحري لخصوصية هذه الامسية النادرة كانت أقوى من أي شعور آخر داخل القاعة. ولكن رغم الضحكات الخافتة والعناق السوداني المستمر في الصفوف الخلفية، إلا أن الأعناق ظلت مشرأبة نحو المنضدة الرئيسية التي جلس حولها أربعة رجال يتجاذبون أطراف الحديث ببشاشة سودانية تحسد عليها. لم ندري باي نوادر كان هولاء يدغدغون بها الضيف الكبير الذي ظل يضحك ملئ شدقيه ويقهقه كثيراً حتى خشِيتُ عليه في بداية الأمر، كما خشِيتُ أن ينفرد هولاء النفر بالضيفين ولا يتبقى من ((الونسة السودانية)) إلا "السبارس" والقليل الممل.
وأخيراً وبعد بضعة همسات في الآذان وطبطبات خفيفة على الأكتاف، دبت حركة بين الجالسين حول المائدة الرئيسية. تقدم الدكتور علي الهِدي الى المنصة حيث طلب من البروفيسور محمد إبراهيم خليل أن يقدم ضيفيه الكرمين للجمهور. وبعد كلمة ضافية ووسط ترقب كبير وتصفيق حار رحب البروفيسور بالضيفين الكبيرين: الأديب الكبير الطيب صالح والكاتب الكبير والاستاذ الجامعي الدكتور محمد إبراهيم الشوش.
إنتصب الجميع وقوفاً تحية للضيفين بينما ملء دوي التصفيق أرجاء القاعة. بدا الأديب الكبير الطيب صالح مندهشاُ بالترحيب الحار الذي لقيه من الجمهور، وظل يتتم بكلمة "شكراً" في تواضع جم حتى خبا التصفيق وجلس الجميع للاستمتاع ((بونسة سودانية)) خالصة.
لم يخيب الرجلان آمال الحضور قط. لقد كان الدكتور الشوش ذكياً، مصادماً، صلباً في مواقفه ومشاكساً كعادته، إلا أنه رغم ذلك كان بشوشاً. أثرى الرجل النقاش بثقافته الأدبية العالية، بيد أنه رفع درجة حرارة ((الونسة) ببِضع ((فهرنهايتات)) بحديث مثير للجدل حول الحرب في جنوب السودان وعدد ضحاياها.
أما الأديب الكبير الطيب صالح، هذا الزول السوداني الأصيل، لقد أسر الجميع بإنسانيته وسودانيته قبل أن يسحرهم بتلقائيته وقبل أن يكبلهم بوثاق من الحرير يشدهم به برفق الى دنيا الرواية والى سحر كرمكول الذي لم ينفك الرجل من أسره رغم غيابه الطويل عن دار الركابية على منحنى نهر النيل المهاجر الى الشمال دوماً.
تحدث الطيب صالح بصراحة شديدة عن موضوعات كثيرة من بينها علاقته مع الكتابة، وميوله للقرأة وهو الأمر الذي يفسر إنتاجه الأدبي القليل نسبياً، وهجرته الى المملكة المتحدة مبكراً، والتشابه الكبير بينه وشخصية مصطفى سعيد بطل روايته ((موسم الهجرة الى الشمال)) الذائعة الصيت.
كانت أمسية رائعة بكل ما توحي بها هذه الكلمة من معاني، حيث قدم الحضور مداخلات تعكس وعي ثقافي عالي وفهم عميق لدور الرواية في حياة الإنسان، وليس هذا مستغرباً لأن منطقة واشنطون الكبرى تتمتع بوجود عقد فريد من المهاجرين السودانيين أمثال لاستاذ الطيب السلاوي والاستاذ عبيد والبروفيسور محمد إبراهيم خليل والدكتور فراسيس دينق والاستاذ أحمد الأمين البشير والصحفي الضليع طلحة جبريل والفنان المبدع يوسف الموصلي والاستاذة أسماء محمود محمد طه والفنانة الرائعة هادية طلسم وزوجها المرحوم عبد العزيز بطران الاستاذ الجامعي وصاحب كتاب ((كورة زمان))، والصحفية عواطف سيدأحمد والأُستاذ فائز وزوجته الدكتورة أسماء والدبلوماسي نورالدين عطا المنان، والأصدقاء عادل صالح والدكتور صلاح الزين وعمر إسماعيل قمرالدين وطارق الشيخ والفنان علي السقيد ومحمد عثمان إبنعوف، وآخرون كُثُر.
كنت من أسعد الحضور في تلكم الأمسية، وذلك لأن رغم ترحالي الكثير ورغم قرأتي لروايات الطيب صالح والعديد من مقالاته في الصفحة الأخيرة لمجلة ((المجلة) السعودية في تسعنيات القرن الماضى، إلا إنني لم أُحضي بشرف لقائه قبل هذه الاُمسية الفريدة. وأخيراً تسنى لي السانحة لمصافحة الأديب الكبير بعد أن إصطففتُ أمام المنضدة الرئيسية لمدة ليست بقصيرة عند نهاية ((الونسة)). وبعدها، قلت لنفسي إنه لو لم أقراء كلمة واحدة للطيب صالح قبل هذه الأُمسية لخلصت للنتيجة ذاتها التي خرجت بها بعد هذه الأُمسية، ألا وهو أن الطيب صالح كاتب عظيم يستحق التقدير لأنه ينسج الرواية من أعماق بيئته وينقلها للقارئ بصوت واضح النبرات وباسلوب غير مصطنع.
وقبل أن ينفض سامرنا، همس الأخ عمر إسماعيل في أُذني بدعوة كريمة من البروفيسور محمد إبراهيم خليل لحضور وجبة غداء في اليوم التالي على شرف الكاتبين الكبيرين الطيب صالح وإبراهيم الشوش وذلك بمنزل البرفسير في ضاحية ((سلفرإسبرينغ)) بولاية ميريلاند المتآخمة للعاصمة الأمريكية واشنطون. سعدتُ غاية السعادة، وقبل أن أخلد للنوم رجوت الليل أن لا يطيل إقامته بل ليرحل مهرولا مع الغيوم الداكنة قبل البكور.
(2)
بينما كان البروفيسور محمد إبراهيم خليل يتجول بين ضيوفه في الأصيل ويلح عليهم بكرم سوداني على تناول المزيد من الطعام واحتساء المزيد من الشاي، كنا نتربص الفرصة، في ما يشبه لعبة الكراسي، للاقتراب من والجلوس الى الكاتب الكبير "لونسة" قصيرة ولالتقاط صورة تذكارية معه. وأخيراً لمحتُ مقعداً شاغراً بجوار الكاتب الكبير، وانطلقت أنا وصديقي أكوي بونا ملوال صوبه كالسناجب العطشى. قصدت أن ادردش قليلاً مع أديبنا الكبير عما في جعبته من رواية أو عمل أدبى جديد، لكنه فاجأني عندما ذكر لي انه كان يأمل أن يتحدث معي عن المداخلة التي قدمتها تعقيباً لما ذكره الدكتور الشوش في ((ونسة)) الأمسية السابقة عن ان الحرب في جنوب السودان صناعة أجنبية وأن الغرب ضخم عدد ضحايا الحرب لأغراضه. وطفق الأديب الكبير يثمن ما ذهبنا إليه في مداخلتنا بانه مهما إختلف الناس عن اسباب الحرب في الجنوب وعن موضوعية أو لا معقولية المطالبة بحق تقرير المصير لا ينبغي أن نعلق القضية برمتها على شماعة الغرب والمستعمر لأن في ذلك استخفاف مخل بعقلية الإنسان الجنوبي كما في الحديث عن تضخيم أعداد ضحايا الحرب تبخيس لقيمة المواطن السوداني، إذ لا يجب أن يموت شخصاً واحداً في قضية سياسية مهما كان حجمها.
شكرنا الأديب كثيراً لأُذنه المرهفة ولإنسانيته الفياضة التي لا تعرف حدود إثنية أو جغرافية. هب الرجل واقفاً وودعنا بحرارة كحرارة شمس بلادي، حرارة ما انفكت تدفئ جوانحنا وتبدد زمهرير غيابه السرمدي. وأكدتُ للكاتب الكبير أنه طالما كلانا كثير الترحال لاشك إننا سنتقابل مرة أًخرى في مدائن بعيدة. وشكرنا ايضا دكتور الشوش الذي أبدى أسفه لسوء التفاهم الذي نجم عن حديثه عن دور الغرب ومؤسساته في تأجيج الحرب في جنوب السودان. وأخيراً ودعنا البروفيسور محمد إبراهيم خليل ولساني يعجز عن الشكر لإتاحته هذه الفرصة النادرة للقاء الأديبين الكبيرين.
(3)
لم ألتقي الأديب الطيب صالح مرة أُخرى منذ لقائنا في هاتين الأُمسيتين في صيف 2002. ولكن ذات يوم من الاسبوع الأخير من شهر يناير 2009، وبينما الثلوج تتساقط بلا هوادة على البحيرة المتجمدة تحت الجسر الطويل، تلقيت مكالمة هاتفية في مكتبي في السفارة السودانية بالعاصمة السويدية إستوكولهم. طفق متحدثي يقدم لي نبذة عن شخصه بالتواضع نفسه الذي يتحلى به عمالقة العلم والأدآب والفن والرياضة في السودان. قاطعته الحديث وعاتبته على تواضعه الكثير. تفاجأ الأديب الكبير حسن أبشر الطيب تماما عندما ذكرت له أنه غني عن التعريف، إذ نعرفه عبر كتاباته ونشاطاته الأدبية. تنفس الدكتور الصعداء، ثم نقل لي بصوت واثق قرار بعض المؤسسات الثقافية في الخرطوم ومن بينها إتحاد الكُتاب السودانيين ومركز عبدالكريم ميرغني بأُمدرمان ترشيح الكاتب الكبير الطيب صالح لنيل جائزة النوبل في الأدب. وطلب الدكتور حسن أبشر من السفارة ومن شخصي لعب دور عاجل في دعم جهود هذه المجموعة بصفة خاصة ودعم ترشيح الأديب الكبير لأن في ترشيح وفوز الطيب صالح كسب كبير للسودان وللعالمين الإفريقي والعربي معاُ.
أومأتُ للدكتور المرحوم حسن أبشر بانني قرأت روايات ومقالات الطيب صالح الأدبية ولقد حظيت بلقاء الروائي الكبير في أُمسيتين في منطقة واشنطون الكبرى بالولايات المتحدة الأمريكية في صيف 2002، وأبديت له حسرتي الشديدة لأن وزارات التربية والتعليم المتعاقبة تحت مسميات مختلفة منذ سبعينيات القرن الماضي لم تفطن الى أن الطيب صالح كنز وطني كان ينبغي تقديمه للأجيال الناشئة ليس بتضمين رواياته في المنهج المدرسي فقط، بل عبر برنامج يطوف خلاله المدارس في كل انحاء البلاد كما كان يفعل خضر الحاوي أو كما كانت تفعل فرقة الأكروبات السودانية في الزمن الجميل. وكم تمنيت لو قام أطفال المدارس بزيارة صديقنا الطيب صالح في كرمكول كما زاروا صديق عبدالرحيم في القولد، تلك القرية التي خلدتها درة بخت الرضا ورائعة الاستاذ عبدالرحمن علي طه ((في القولد إلتقيت بالصديق أنعم به من فاضل الصديق)). وكم تنميت أن ترفد الشاعرة المبدعة روضة الحاج الأُنشودة الخالدة ببعض الأبيات البسيطة في كلماتها والكبيرة في دلالاتها كالابيات التالية، على سبيل المثال:
لاحت لناظرنا بين كثبان الرمال وأشجار النخيل
كقرية رمكول تنام في أمان على ضفاف النيل
وصلنا إليها باللوري بعد مشقة في الاصيل
إستقبلنا فيها الطيب صالح والعم أحمد إسماعيل
منازل كثيرة مطلية بالطين تحفها النسيم العليل
آثار قصر المانجولوك يذكر الجميع بالزمن الجميل
غادرنا القرية في البكور وودعنا أُستاذنا الجليل
هنأتُ الدكتور حسن أبشر والمؤسسات الأدبية على ترشيحهم الموفق والذي طال إنتظاره، وقطعت وعداً أن أدعم جهودهم ليست لأن المسؤلية تقتضي ذلك، بل لأنني على قناعة لا يخالجها الشك بان الأديب الكبير الطيب صالح يستحق الفوز بالجائزة الكبرى بإمتياز ليس الآن فقط بل من قبل سنوات خلت. وإقترحت للدكتور حسن أبشر أن يعمل فوراً لإرسال خطاب الترشيح الى السفارة السودانية بالسويد بالحقيبة الدبلوماسية من رئاسة وزارة الخارجية في الخرطوم، وسنقوم بتسليمه للأكاديمية السويدية التي تُعُنى بالترشيحات الخاصة بجائزة النوبل للآداب.
لا أدري كم من الوقت إستغرقت هذه المكالمة الهاتفية الشجية، بيد إنني شعرت بعدها بدفئ يدب في جسمي رغم الثلوج التي تشبثت بالنافذة والتي حولتها الى لوحة زجاجية سميكة تكاد تحجب الرؤية حتى عن المدخنة الطويلة التي أدمنت التدخين صيفاً وشتاءاً على الضفة الاخرى من الخليج المتجمد تحت الجسر الطويل.
(4)
مرت الأيام والسيد عصام الدين ،الملحق الإداري بالسفارة، يرصد أخبار وخط رحلة الحقيبة الدبلوماسية. وبعد صبر كاد أن ينفذ ويأس بدأ يدب، وبعد أن لم يتبقي عملياً إلا يوم واحد من موعد قفل باب الترشيح لجائزة النوبل، أخيراً إستلمنا الحقيبة الدبلوماسية. بحثنا بلهفة عن رسالة ترشيح الأديب الكبير الطيب صالح في خضم محتويات الحقيبة. وفجأةً أخرجنا الخطاب من الحقيبة ونحن فرحون كما الأطفال بعد أن يُخرج الحاوي من جرابه السحري حمامة بيضاء بدلاً عن منديل أحمر! بدت عقارب ساعة الحائط متمددة على القُرص كشوارب القط وهي تشير إلى الساعة التاسعة وخمس عشرة دقائق صباحاً. وبدأ السباق مع الزمن.
توجه السيد القنصل محمد حسين إدريس فوراً الى الأكاديمية السويدية الواقعة على جزيرة قامل إستان ((الحي القديم)) في وسط العاصمة السويدية إستكهولم بعد أن أوكل أمر قيادة سيارته للسيد رعد ((أبو فهد))، أمهر سائقو سيارات البعثة وأكثرهم معرفة بشوارع المدينة ومطباتها. رجوت الثلوج أن تتمهل قليلاً حتى نتمكن من تسليم خطاب ترشيخ الأديب الكبير الى وجهته الكريمة قبل فوات الآوان.
وبعد ساعة ونيف من الزمن، هاتفني السيد محمد حسين ليبلغني بأن الأكاديمية السويدية قد إستلمت رسمياً خطاب ترشيح الأديب الكبير الطيب محمد صالح أحمد، وقد حررت الأكاديمية إيصالاً بذلك بتاريخ يوم الجمعة الموافق 30 يناير 2009.
نقلت الخبر اليقين للدكتور حسن أبشر الذي إستقبل هذا النبأ الجميل بسعادة تفوق الوصف، حيث كاد صوته يذوب في غمرة غِبطته. وعدت الدكتور بمتابعة كل واردة وشاردة عن جائزة النوبل للأدب لعام 2009. تبادلنا التهانئ، وبدأنا معاً العد التنازلي ليوم أعلان أسماء الفائزين في مطلع شهر أكتوبر من العام نفسه.
(5)
في صباح ۱8 فبراير 2009، فاجأنا وأفجعنا نبأ رحيل الأديب الكبير الطيب صالح، عميد المهاجرين السودانيين الذي شغل الساحة الأدبية من مهجره كما لم يفعل أي أديب آخر بعد جبران خليل جبران وإليا أبوماضي ومخائيل نعيمة وإدوارد سعيد. صُعِقنا برحيل من كنا نمسك بأردن ثوبه وهو يقود خطواتنا اليافعة الى عالم القراءة والكتابة.
رغم هول الصدمة، كان لابد أن نجري مكالمة هاتفية مع الأكاديمية الملكية السويدية قبل أن ينتشر النبأ. فكرت ملياً في كيفية نقل هذا الخبر الذي لم أكاد أن أصدقه بعد.
خاطبتُ الموظف الكبير بالأكاديمية السويدية باللغة الإنجليزية وبصيغة غير مباشرة وكأني أحاول الهرب من الواقع:
قلت: "طاب صباحك، سيدي، لكن يؤسفني كثيراً أن أقول أن مرشحنا لجائزة النوبل للآدب لعام 2009 الأديب السوداني الكبير الطيب صالح لم يعود موجوداً معنا."
قال: ماذا؟
قلت: نعم، لقد رحل كاتبنا ومرشحنا لجائزة النوبل للأدب ليلة البارحة عن عمر مديد!
قال بصدق وكأن له بالأديب الراحل معرفة شخصية: هذا أمر محزن للغاية، سيدي السفير.
قلت: أجل، محزن حقاً!
لُذنا بصمت مدوي، بعدها طلبت من الأكاديمية الإبقاء على إسم الأديب الطيب صالح في قائمة المرشحين للجائزة. ابدا الموظف الكبير أسفه الشديد وذكر أن قوانين جائزة النوبل لا تسمح بترشيح الاشخاص بعد وفاتهم. وقال أن قوانين جائزة النوبل قبل تعديلها في عام ۱۹74 كانت تسمح للشخص المتوفي أن ينال الجائزة إذا توفي بعد ترشيحه قبل شهر فبراير من العام نفسه، ولذلك منحت جائزة النوبل للآداب للشاعر السويدي أريك أكسل كارلفيلت عام ۱۹۳۱ ، كما منحت جائزة النوبل للسلام للأمين الأسبق للامم المتحدة السيد داق همرشولد بعد شهر من وفاته في حادثة تحطم طائرته فوق سماء مدينة إندولا بشمال زامبيا عام ۱۹6۱. أما القوانين السارية منذ ۱۹74 فانها تسمح لمنح جائزة النوبل إذا توفي المرشح في الفترة بين اعلان أسمه ضمن قائمة الفائزين بالترشيح والحفل التقليدي لتسليم الجوائز والذي يقام دائماً في اليوم العاشر من شهر ديسمبر من كل عام وهو ذكرى يوم وفاة العالم السويدي ألفريد نوبل.
نقلتُ للدكتور حسن أبشر ما دار بيننا والأكاديمية السويدية. تألم الرجل كثيراً، ولكننا وجدنا، في هذا اليوم العبوس، السلوى في حقيقة راسخة وهي أن رغم أن الأديب الراحل قد نال جوائز كثيرة في حياته الزاخرة بالعطاء الأدبي إلا أنه لم يسعى يوماً لجائزة مهما كانت حجمها، وذلك لأن مداد يراع الرجل لم يسِل يوماً إلا إمتثالا لما جادت به قريحته المرهفة ومزاجه الصادق. إذاً، هاهو الطيب صالح يرحل في ومضة ليلحق بركب فريد من الأُدباء الذين لم تتشرف ميداليات النوبل بالتدلى من أعناقهم السامخة، إذ تشمل هذه القائمة الطويلة كل من ليو تولستوي ومارك توين وإميل زولا وجون أبدايك وآرثر ميلير وجيمس جويس وتوفيق الحكيم وكين سارو ويوا وشينوا أشيبي.
(5)
في اليوم الثامن من أُكتوبر 2009، أعلنت الأكاديمية السويدية فوز الكاتبة والشاعرة الرومانية/الألمانية هيرتا ميوللر بجائزة النوبل في الآداب، وأشار الإعلان الى أن السيدة ميوللر، التي تنحدر من الأقلية الناطقة باللغة الألمانية في رومانيا، قد ألفت أكثر من عشرين قصة خيالية وديوان شعر تدور فصولها حول الحياة في رومانيا إبان حكم الدكتاتور نيكولاي شاوشيسكو، هذا وقد ظل مسقط رأس الكاتبة ((قرية نيتزكيدورف)) تشكل مصدر إلهامها حتى بعد أن هاجرت السيدة ميوللر الى موطنها الحالي، ألمانيا.
كان رد فعلي الأساسي هو "هذه جائزة الطيب صالح!" ، لكنني أدركت حالاً سِر تذبذب وتلون الدمعة التي تسللت الى مقلتي. سَرى سُكُوُنُ في نفسي بعد أن أدركت أن الطيب صالح كان سيبارك هذه الكاتبة فوزها بالجائزة عن جدارة وكان سيشد في تواضعه الصادق على يدها مشيداً بوقوفها ضد الظلم والإضطهاد. ألم يقل الروائي الكبير أن "النساء هن اللواتي يعشن تحت ظروف إجتماعية صعبة تجعلهن مؤهلات لكتابة في الرواية" ((مجلة عالَم الكتب-العدد الرابع ۱۹8۱))؟
هنأتُ سعادة سفيرة رومانيا بالسويد بفوز مواطنتها بالجائزة الكبرى وشكرناها لإهدائها لنا النسخة الإنجليزية لكتاب ((ذاكرة الجسد)) للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي، وجددنا لسعادتها شكرنا على حرصها الراتب لحضور كل الفعاليات الإجتماعية والثقافية التي تنظمها البعثة السودانية أو المجموعة الافريقية للسفراء في السويد، كما نقلنا لسعادة السفيرة اسفنا الشديد لعدم تمكننا من حضور الحفل السنوي لجائزة النوبل الذي ستستلم فيه السيدة مويللر جائزتها من يد جلالة ملك السويد، وذلك نسبة لغيابنا في مهمة ملحة خارج منطقة التمثيل في موعد قيام الحفل في العاشر من شهر ديسمبر 2009، مع العلم أن هذه ستكون المرة الأُولى التي نغيب عن هذا المحفل المهيب منذ عام 200۷.
(6)
وبعد مرور ستة أعوام من رحيل الأديب الكبير الذي كان يمقُت الظلم والذي كان يحب الانسانية، نُغلِب الظن، وبعض الظن إثم، أنه إذا نمت لمسامع الأديب الكبير أنباء الحرب الضروس التي مافتئت تحصد فلذات أكباد الجنوب يوماً بعد يوم، لوجه نظره مزعوراً نحو ((الأُفق البعيد)) المتشبث بخط الإستواء، ولتساءل أيضاً كما تسأل من قبل في مقولته الشهيرة ولكن على النحو التالي:
هل مازال أهل الجنوب ينزحون الى الشمال ؟
هل أسعار الدولار ما تزال في الصعود وأقدار الناس في هبوط؟
من اين أتى هولاء الناس "الذين يولغون في دماء الأبرياء في جوبا وواو ورمبيك وبانتيو وبور وملكال"؟
أما سمعوا أغاني بوب مارلي وماريام ماكيبا؟
أما سمعوا عن مارتن لوثر كنج ونيلسون منديلا ونصيبهما من جوائز النوبل للسلام ؟
أما سمعوا عن الرئيس الناميبي هيفيكبوني يوهامبا الذي حاز بالأمس القريب على جائزة محمد (مو) إبراهيم للقيادة الرشيدة؟
من اين جاء هولاء الناس؟ بل – من هولاء الناس؟
ألا رحم الله مَنْ كُنِي "بالطيب" ليحيى ثم أبلى بلاء حسناً وخلد بعض خلجات تجارب الحياة في تحف روائية نابضة. ألا رحم الله "الطيب الصالح"، ذلكم الرجل الطيب الأردان.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
جوبا،
جمهورية جنوب السودان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.