إكتمال الترتيبات اللوجستية لتأهيل استاد حلفا الجديدة وسط ترقب كبير من الوسط الرياضي    تواصل دورة شهداء معركة الكرامة بمدينة رفاعة    كساب والنيل حبايب في التأهيلي    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    كأس العالم.. أسعار "ركن السيارات" تصدم عشاق الكرة    تقارير تكشف ملاحظات مثيرة لحكومة السودان حول هدنة مع الميليشيا    شاهد بالفيديو.. على طريقة "الهوبا".. لاعب سوداني بالدوري المؤهل للممتاز يسجل أغرب هدف في تاريخ كرة القدم والحكم يصدمه    شاهد.. المذيعة تسابيح خاطر تعود بمقطع فيديو تعلن فيه إكتمال الصلح مع صديقها "السوري"    شاهد بالفيديو.. البرهان يوجه رسائل نارية لحميدتي ويصفه بالخائن والمتمرد: (ذكرنا قصة الإبتدائي بتاعت برز الثعلب يوماً.. أقول له سلم نفسك ولن أقتلك وسأترك الأمر للسودانيين وما عندنا تفاوض وسنقاتل 100 سنة)    رئيس تحرير صحيفة الوطن السعودية يهاجم تسابيح خاطر: (صورة عبثية لفتاة مترفة ترقص في مسرح الدم بالفاشر والغموض الحقيقي ليس في المذيعة البلهاء!!)    شاهد بالصورة والفيديو.. القائد الميداني بالدعم السريع "يأجوج ومأجوج" يسخر من زميله بالمليشيا ويتهمه بحمل "القمل" على رأسه (انت جاموس قمل ياخ)    شاهد الفيديو الذي هز مواقع التواصل السودانية.. معلم بولاية الجزيرة يتحرش بتلميذة عمرها 13 عام وأسرة الطالبة تضبط الواقعة بنصب كمين له بوضع كاميرا تراقب ما يحدث    شاهد بالصورة والفيديو.. القائد الميداني بالدعم السريع "يأجوج ومأجوج" يسخر من زميله بالمليشيا ويتهمه بحمل "القمل" على رأسه (انت جاموس قمل ياخ)    انتو ما بتعرفوا لتسابيح مبارك    شرطة ولاية الخرطوم : الشرطة ستضرب أوكار الجريمة بيد من حديد    البرهان يؤكد حرص السودان على الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع برنامج الغذاء العالمي    عطل في الخط الناقل مروي عطبرة تسبب بانقطاع التيار الكهربائي بولايتين    رونالدو: أنا سعودي وأحب وجودي هنا    رئيس مجلس السيادة يؤكد عمق العلاقات السودانية المصرية    مسؤول مصري يحط رحاله في بورتسودان    "فينيسيوس جونيور خط أحمر".. ريال مدريد يُحذر تشابي ألونسو    كُتّاب في "الشارقة للكتاب": الطيب صالح يحتاج إلى قراءة جديدة    مستشار رئيس الوزراء السوداني يفجّر المفاجأة الكبرى    لقاء بين البرهان والمراجع العام والكشف عن مراجعة 18 بنكا    السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفيتوري بين يدي طلحة جبريل .. بقلم: مصطفى عبد العزيز البطل
نشر في سودانيل يوم 08 - 03 - 2015

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
(1)
صديقي ورفيق الزمن القديم طلحة جبريل (حدوتة بحالها)، كما يقول أحبابنا في المحروسة. من بين الصفات العديدة التي اعرفها عنه الشراسة في الحب، والبسالة في الوفاء. فإذا أحبك قتلك. وإذا والاك بالوفاء قتل الآخرين ذوداً عن حماك!
في إحدى ايام العام 1979، أيام الطلب، كان طلحة يمشى الهوينا في شارع محمد الخامس بمدينة الرباط عندما وقع بمحض الصدفة على أديبنا الكبير الطيب صالح، فصافحه وعانقه، وأعلمه لفوره بأنه شايقي من قرية شبا التي تقع شرق النيل بين كريمة ومروي. وهنا امسك الطيب صالح بيده وشد عليها. وضعف الطيب تجاه الشايقية وعوالمهم مما هو معلومٌ من سيرته بالضرورة. ومن يومها، ولزمن تطاول فجاوز الثلاثين عاماً، كان طلحة رقماً صعباً في حياة الطيب.
وقد كان محظوراً على اي أحد منا ان يقول اي شئ، موجباً او سالباً، بحق الطيب صالح في حضور طلحة، فهو الوحيد المأذون له ان يتكلم عن الرجل وحياته. وقد حدثني طلحة ذات مرة ان الطيب قال له: "انت خليفتي". ثم كررها مرة ثانية. وفي المرة الثالثة سألته: "يا طلحة انت روائي؟ بتكتب روايات"؟ فاستغرب للسؤال، ثم اجاب: لا. وهنا سألته: "نان الطيب صالح لما قال ليك انت حتكون خليفتو، كان بقصد خليفتو في شنو بالضبط"؟
مات الطيب صالح، تغشت قبره الشآبيب الرطاب، ولكن الشاعر محمد الفيتوري موجود. ولا اعرف ان كانت ظروف الفيتوري الصحية قد سمحت له هو ايضا ان يبلغ طلحة بأنه (خليفته) ام لا.ولكن طلحة تولى الخلافة على اية حال، شاء الفيتوري ام أبى.
(2)
لم اكن قد تنبهت الى ان الفيتوري هو (محمية) طلحة جبريل الجديدة، ونطاق اختصاصه. وفي عماهة هذا الجهل، دخلت قبل اسبوعين منطقة محظورة، يُمنع فيها الاقتراب او التصوير، إلا بموجب إذن طلحوي، فكتبت مقالاً بعنوان (الفيتوري: ذهب المضطر نحاس). وقديماً قيل "الجاهل عدو نفسه"!
وهكذا فقد برز لي حبيبنا طلحة بمقالٍ مدمدم، وضع على رأسه عنوان (رداً على مصطفى البطل). ثم أعلم الناس في العنوان الجانبي انه خرج شاهراً كيبورده، لا لينافح عن الفيتوري، وإنما ليدافع عن (القيم)، التي أهدرتها أنا وغيري، وعطنّاها في التراب والطين.
ولو كان طلحة قد دعاني لخرجت معه في غزوته بغير تردد، وهو يعلم أنني انتسب الى قوم لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا. ثم أنه ليس هناك اشرف من الدفاع عن (القيم). ومن أهدر (القيم) حريٌ بأن يؤخذ الى منصة القصاص، أو على الاقل ان يُضرب على رأسه بالبرطوش.
فما هي إذن تلك (القيم) التى أهدرناها، إذ تنكبنا الطريق واخفقنا في التزام جادتها؟
واحدة من القيم هي: (عدم جواز نسبة الروايات الى الموتى، ثم استخدامها في مواجهة الاحياء). وقد كاد طلحة ان يقيم ملطمة بسبب اهداري لهذه القيمة السامية، ولكنه آثر ترفعاً منه ان يكف عن الجدال فكتب: "لا أود ان أجادل البطل في رواية منسوبة الى فنان غاب عن الناس". وتلك لعمري مكرمة طلحوية تدل على أصالته، وعلو (القيم) التي يستمسك هو نفسه بعروتها.
ولكن هناك مشكلة صغيرة في أمر هذه (القيمة) المهدرة، اعني الاستعانة بالموتى لهدم الأحياء. وهي أن مقالي موضوع الجدل، والذي ما يزال رابضاً على الصفحة الاخيرة من صحيفة (السوداني)، وعلى منبر سودانايل، لا توجد فيه اي رواية منسوبة لأى فنان، غائباً عن الدنيا كان ام حاضراً. الجزئية التي يتحدث عنها حبيبنا طلحة في مقاله عن قصيدة (اصبح الصبح) منسوبة في واقع الامر للشاعر محمد الفيتوري نفسه، إسماً وذاتاً وعينا. الفقرة في مقالي تقول بلغة عربية ناصعه: (ثم أنه صرح في حوار صحفي منشور عن غناء الفنان للقصيدة بما يلي: "ذكر لي وردي انه فرغ من تلحين الكوبليه الأول، فلم اعطه المتبقى من أبياتها إلا بعد ان أقسم لي انه لن يشدو بها الا عندما اغادر السودان")! الذي صرح إذن هو الشاعر الحاضر محمد الفيتوري، وليس الفنان الغائب محمد وردي!
الحمد لله إذن إن هذه (القيمة)، التي هي في طليعة اسباب الغزوة الطلحوية، ثبت أنها صاغ سليم. وأنها في الحفظ والصون.
ثم الحمد لله مرة ثانية، أن (القيم) الاخرى في اغلبها لم أكن أنا مُهدرها. وانما أهدرها آخرون، فخرج طلحة ليرد لها شرفها. من هؤلاء الاستاذ الصادق الرزيقي رئيس اتحاد الصحافيين السودانيين، فقد سأل طلحة رجات أرماز، الزوجة المغربية للفيتوري، بشأن أمر منسوب له، فنفته. والقول ما قالت رجات ارماز!
الرزيقي أمره مع طلحة أمرٌ عجب. كتب هذا الحبيب بصفته رئيسا لاتحاد الصحافيين السودانيين بيانا قصيرا، بعد عودته -هو والامين العام للاتحاد - من المغرب، وردت فيه اشارة الى (نية) الاتحاد تخصيص منزل للشاعر الكبير في منطقة ام درمان تكريما له. ومعلوم ان اتحاد الصحافيين يسعي بالتنسيق مع الاجهزة الحكومية المختصة لإكمال مشروع اسكاني خاص بالصحافيين في مدينة ام درمان. هذه المنازل إما انها لم تشيد اصلاً، أو هي قيد التشييد. والكلمات تحديداً كما وردت في نص البيان الاصل من الوضوح بمكان، بحيث لا يخطئها القاري. تقول كلماتها بغير لبس: (سيتكفل الاتحاد ببناء ..). وتلك، لمن يعرف العربية صيغة مستقبلية.
ولكن حبيبنا طلحة يقول لنا بأنه سأل السيدة رجات أرماز، وأنها أنكرت استلام منزل في ام درمان. ثم أقام ملطمة جديدة ينعي فيها هلكة القيم بين يدي الرزيقي، وأنعم عليه في اطار الملطمة بكلمة (هراء). هذا مع ان بيان الرزيقي لم يقل أساساً ان هناك منزلاً تم تسليمه للمذكورة. ولكن ماذا يفعل الرزيقي مع طلحة و(قيمه)؟
(3)
التخليط والتفحيط في غزوة الدفاع عن (القيم) كثير، لا نملك له الوقت والطاقة. ولكنني املك من مساحة هذه الصفحة ما قد يسمح لي فقط بنقاط قليلة:
منها أنني وجدت نفسي في غاية السعادة كون ان صاحبي هذا أقر واعترف اخيراً بأن الرئيس السابق جعفر نميري لم يسقط الجنسية السودانية عن الفيتوري، وان كل ما تردد عن هذا الامر لم يعد ان يكون من قبيل الخزعبلات التي تملأ حياتنا العامة. والحق ان طلحة كان من اولئك الذين جالدوني جلاداً حول هذا الامر.
أذكر أنني كتبت قبل عامين مقالاً في صحيفة (الخرطوم) بعنوان (تلفوني مراقب)، سخرت فيه من ادعاء كثير من السودانيين، تصنعاً للحيثية والاهمية، ان هواتفهم مراقبة من قبل السلطات. كما تطرقت لعدد من الخزعبلات من شاكلة ان النميري سحب جنسية الفيتوري عقاباً له على معارضته للنظام. ولا زلت احتفظ برسالة شخصية من العزيز طلحة يعنفني فيها ويبكتني على ذلك المقال، ويؤكد لي ان نظام النميري أسقط الجنسية عن الفيتوري فعلاً، وان تلك حقيقة مؤكدة!
المثير للانتباه في المقال الطلحوي، هو ان هذا الحبيب يقول بأنه هو شخصياً - ولا أحد غيره - أجرى حواراً مع الفيتوري قبل ثلاثين عاماً، وتحديداً في العام 1985، وأن الفيتوري نفي في ذلك اللقاء أن النميري سحب جنسيته، واوضح له الاسباب التي بموجبها قام باسترجاع جنسية أبيه، اي الجنسية الليبية.
وذلك هو العجب العجاب بعينه. أيجوز أن حبيبنا طلحة نسي ما سمعه في ذلك اللقاء من نفي؟ أم انه اختار عن وعي، فطفق يزعم مع الزاعمين ان الحكومة السودانية سحبت عن الفيتوري جنسيته، على ظن من الوهم أنهم بذلك يعبرون عن وفاء للرجل الذي يحبونه، ويعظمون تاريخه، ثم يحشونه حشواً - لا يهم الصدق او الكذب - بالبطولات والتضحيات، ثم يصورونه بعد ذلك في صورة المناضل الثوري؟! ألم اقل لك - أعزك الله - أن صاحبي هذا إذا احبك قتلك!
وفي ظني ان الفيتوري لا يحتاج لكل هذا الافتعال. للرجل من زاد المجد كشاعر مؤثل ما يكفي حاجته من تحقيق الذات ووعد الخلود الابداعي، ولا نحسبه أراد اكثر من ذلك. وأميل الى الظن أننا لو تركناه لحاله لما ركب مراكب الادعاء، ولعاش كما يعيش الناس، صادقاً مع نفسه وصادقاً مع الاخرين.
والمراقب لتاريخ الفيتوري يلاحظ ان حياته تشبه جبة الدرويش، ترتفع فيها أنجم اليمين واليسار، فهو يتفاعل مع كل نقطة في مسيرته مع الواقع الذي يجد فيه نفسه. ولا أظن أبداٌ ان الفيتوري ابتغى ان يكون ثورياً يسارياً، بل ربما كان زاهداً في السياسة في جملتها وتفصيلها. ولعله الاقرب الى اديبنا الكبير الراحل الطيب صالح، في انفتاحه على الدنيا والناس والتيارات المختلفة في الحياة العامة.
في السودان أيد الفيتوري الحكم العسكري الاول بقيادة الفريق ابراهيم عبود، ودعمه بفكره وفنه، وخدم مؤسساته الاعلامية. وهو مؤلف انشودة (الثورة البيضاء) في تمجيد نظام انقلاب 17 نوفمبر. ذلك النشيد الذي لحنه الموسيقار برعي محمد دفع الله وغنته المجموعة. وهو نفسه الذي كتب قصيدة عصماء في رثاء الراحل عبد الخالق محجوب. ثم هو نفسه الذي حضر الى الخرطوم وكرمته رئاسة الجمهورية، ورآه ملايين السودانيين على شاشة التلفاز وهو يقرأ بعض ابيات الشعر في مدح الرئيس عمر البشير، ويلقي كلمة ضافية في الثناء عليه والتنويه بمزاياه. ثم رأوا الرئيس البشير يوشح صدره بوسام رفيع. قبلها، لم يكن الفيتوري معادياً للنميري ولا نظامه، ولم يظهر العداء له الا بعد ان عاداه الرئيس القذافي.
(4)
الغريب انه بخلاف ما يزعم الرهط من مقاولي الثورية وحائكي قمصانها ومختلقي رموزها فإن الفيتوري نفسه لم يدع أبداً انه كان مدركاً لتفاعلات انتفاضة اكتوبر 1964 واعترف بكل شجاعة في حوارات منشورة انه لم يشارك في الثورة. وذكر بعظمة لسانه عدة مرات ان نشيد (اصبح الصبح) لا علاقة له بثورة اكتوبر وانه نشيد قديم كتب قبل الثورة بأعوام. وكان الفنان الراحل محمد وردي نفسه قد لحنها بكلماتها الاصلية التي تمجد نهضة افريقيا، وتهيأ لتقديمها في مؤتمر وزراء المالية الأفارقة في الخرطوم، لولا ان حالت الانتفاضة دون إنفاذ ذلك التدبير.
وقد أبدى الفيتوري ندمه لاحقاً على تنصله من انتفاضة الشعب في اكتوبر وعدم مشاركته فيها، فكتب قصيدة "لو لحظة من وسني / تذهب عني حزني / تحملني ترجعني لعيون وطني"، وغناها وردي، فكانت كفارته عن التخاذل الاكتوبري. ألم أقل لكم ان الفيتوري، في مبتدأ الامر ومنتهاه، انسان .. مجرد انسان!
(5)
وددت لو تخلي حبيبنا طلحة عن وهم (نظرية المؤامرة) التي يحشو بها كثير من المتعلمين في السودان رؤوسهم، ويحسبونها ضرباً من العلم النافذ والرؤية الثاقبة التي يقيضها الله للأذكياء، وليس هو في حقيقة الامر الا ابتلاء، ابتلى الله به طائفة من عباده، الذين يعجزون عن رؤية الأشياء في اشكالها والوانها الحقيقية، او لعلهم لا يرغبون في ذلك.
والحق انني لم اعرف هل اضحك ام ابكي عندما قرأت عند صاحبي هذا وصفاً لمقالي القصير في أخيرة (السوداني)، الذي لم يتعد خمسمائة كلمة، ضمنتها بعض تساؤلات حول قضية الفيتوري، بأن جهات اخرى (غيري) ربما تكون هي التي صاغته. انظر الى هذه العبارة المهولة: (تراودني الكثير من الشكوك حول ان المقال يمكن ان يكون قد كتب من محبرة اخرى). ثم نزيدك من الخير الطلحوي: (هناك من يريد اغتيال الرموز بل محوها. ذلك لن يحدث لأن ذاكرة الشعوب أقوى من ذاكرة حكامها)!
سبحان الله! أيجوز ان يكون الفيتوري واحداً من الشخصيات التي كلفني جهاز الأمن والمخابرات في السودان باغتيالها؟
لا ادري ما الذي اصاب صديقي طلحة، فورد ذلك المورد المشين، وهو يعلم عني ان صدري يضيق بمثل هذه الترهات التي يلتمس بعض المتنطعين من خلالها وهم النقاء الثوري. ويتصنع البعض الاخر عبرها الاحاطة بالرهيب والمهيب من الأسرار، والله يعلم ان الواحد منهم لا يُحسن ان يفرق بين أسرار الفلك وأسرار بابكر.
ولأنني أحسبه في زمرة أصدقائي الأقربين فإنني أدعوه الى ان يبتعد عن سكة اتهام الآخرين، عند اول خلاف في الرأى، بأنهم أدوات في ايدي قوى خفية ذات اهداف مستترة وغير ذلك من شغل الخبال وعوار الخيال. تلك سكة خطرة، اولها ندامة وآخرها ندامة. وانت الشاهد ايها الصديق انه قد وقف أمامي - قبلك - آخرون يعبثون بمثل هذه الالعاب النارية، فاشتعلت النار في ملابسهم، وكادوا يهلكون هلاكا، لولا رحمة الله بهم.
(6)
ما الذي أتى بنا الى هنا؟ مالنا بسيرة الفيتوري، وكيف جئنا اليها في الأساس؟ الحق انني وطائفة من الأصدقاء ارتبنا في أمر تلك الحملة الالكترونية المنظمة لجمع الاموال تحت ستار توفير العلاج للشاعر الفيتوري، أقال الله عثرته.
سيل يتلوه سيل من الرسائل الالكترونية يغزو الحواسيب في اركان العالم الاربعة. تحمل الرسائل ارقام حسابات في بنوك مختلفة. احيانا تحمل الحسابات اسم زوجة الفيتوري المغربية رجات أرماز، واحيانا تحمل اسم ابنته، أشرقت، التي علمنا مؤخراً انها لم تتجاوز الخامسة عشر من العمر، ولكننا لم نعلم ان هناك مصارفاً في اوربا والشرق الاوسط وشمال افريقيا تسمح للقصر بفتح حسابات بالعملات الاجنبية.
وقد بلغنا من كثيرين في الولايات المتحدة وكندا انهم بادروا بالفعل بإيداع تبرعات مالية في هذه الحسابات المصرفية المريبة. آخر هذه الرسائل الالكترونية، وقد تميزت باخراج فني متفرد، أحالها اليّ الصديق الصحافي الدكتور عبد المطلب الصديق مدير صحيفة (الشرق) القطرية وهي تحمل كالمعتاد ارقام حسابات الكترونية مختلفة عن تلك التي حملتها الرسائل الاخرى التي وصلتنا في الولايات المتحدة، وتحث من تلقوها على المشاركة في حملة جمع الاموال لعلاج الشاعر الكبير.
من وراء هذه الحملة التي انطلقت منذ ثلاث سنوات، وما يزال ليلها في ما يبدو طفلا يحبو؟ من يجمع الاموال تحت دعوى علاج الفيتوري؟ ثم اين تذهب هذه الاموال؟
من هنا جاء المقال الاول. والى هنا يعود هذا المقال الثاني، الذي نرد به على حبيبنا طلحة. غاية مبتغانا ان نثير بعض الاسئلة حول اوضاع بدا لنا منها الشذوذ وغرابة الأطوار. وقد أردنا في دائرة مداولاتنا الضيقة أن نزيح عنها خمارها بشىء من الرفق، عسى الا نصيب أحداً بأذى، فنكون من الظالمين. ولكن طلحة يأبي علينا إلا ان نخرج من الرفق الى الغلظة.
لا بأس. بإمكانك يا طلحة، يا حبيب، بدلاً من ان تصدع رؤوسنا، باتهامات (المؤامرات الخفية لاغتيال الرموز)، وتوزعها مجاناً على اصدقائك الاقربين، بإمكانك أن تفعل ما هو اكثر (قيمة) وفائدة. أبحث معنا عن اولئك الذين يقفون وراء مشروع الفيتوري الاستثماري؟ أو بالاحري، الذين يستثمرون اسم الفيتوري ويجمعون الأموال من وراء ظهره؟!
ودمت لأخيك، ودام (الحب) و(الوفاء)!
نقلاً عن صحيفة (السوداني)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.