عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. (1) فيما تستعر الحرب ضد الحوثيين في اليمن، ولحاق السودان بالقتال هناك، قفزت إلى ذاكرتي صفحات من تاريخ بلادي، ليس بصورة مباغتة ولكن بفعل فاعل ، وبحفزٍ متواترٍ من يدين غريبتين، أعادتاني إلى جرح قديم، وقع قبل مائة وخمسٍ وتسعين عاما . ما الذي دفع الباشا محمد علي الكبير حاكم مصر، للشروع في غزو البلاد الواقعة جنوبي مصر عام 1820م..؟ علمونا في دروس التاريخ المدرسية، أن أكثر أطماع الرجل كانت حول حاجته للرجال وللمال. ثمّة أهداف أخرى غير منظورة في لحظة اتخاذ الباشا قراره باكتساح بلاد السودان، بعضها من اختلاق مؤرخين، وبعضه من صنع مفسري وقائع التاريخ، ومن ذوي الغرض. (2) حين ترنحتْ الخلافة العثمانية في الآستانة، سأل التاريخ: ما الذي يجبر رجلاً ذا شكيمة واعتداد، على إبداء ولاءٍ لمن ضعفتْ يده عن الإمساك بأطراف بلاد المسلمين، وكان قد ادّعى أنه صاحبها والمتصرّف في أمر امبراطوريتها..؟ أخذ العالم في بدايات القرن التاسع عشر، ينحو إلى مناحٍ واتجاهات محدثة، رتبتْ لرسم خرائط جديدة، حتى يكون للعالم شكلا جديداً، يمسك بخيوط صغاره، كبارٌ أقوياء. الشرق الأوسط يتهاوى على عروش العثمانيين. أفاق المارد الأوروبي بعد الثورة الصناعية الكاسحة، واستوثق أن القوة تستوجب أن تُحمى، والسلطة أن يُحافظ عليها، والكرسي أن لا يزعزعه طامع. لم تكن المؤتمرات الدولية التي نظموها قد خلتْ من أغراض التمدّد والهيمنة وتوسيع النفوذ. رجال مثل وزير الخارجية النمسوي الداهية "ميترنيخ" (1773م-1859م)، لم تكن أحاديثهم محض هرطقة بلا قيمة. مؤتمر فيينا عام 1815م، شكّل محطة تغييرات لافتة لترسيخ توازنات العالم الأوروبي، التي ما فتئت أن تهاوت أواسط القرن التاسع عشر. . (3) كانت هواجس الباشا الألباني الحاكم في القاهرة، أوائل القرن التاسع عشر، تدور حول سلامة حكمه، وتتمحور حول أمن مصر وأمنه الشخصي. عليه أن يرسل بصره إلى أبعد من الآستانة. طارد الباشا الكبير فلول "المماليك" المتآمرين عليه، وشتت شملهم في مذبحة "القلعة" الشهيرة، ففروا من أمامه جنوباً إلى السودان. وفيما بلغه من جواسيسه والرحالة الذين توغلوا إلى أقاليم جنوب مصر، أن غزو السودان يحقق أهم هدفين له : تأمين جنوبه عبر بناء جيش من الرجال السود الأشداء ، ثم مطاردة أعدائه "المماليك" . يذهب المؤرخون ليحللوا لنا أهدافاً أكثر ومبررات للغزو أكثر، ربما لم تخطر ببال الباشا الألباني نفسه، ولكن كان في إيرادها منطقاً مناسبا. من تلك المبررات التي ساقوها، السعي للحصول على موارد السودان من الذهب والمعادن الأخرى والرياش. يضاف إلى ذلك- في زعمهم- تأمين مصادر المياه التي جعلت "هيرودوت" يقول عن مصر أنها "هبة النيل". (4) هكذا رأى الباشا من قصره في القاهرة، أن البلاد الواقعة جنوبي مصر، هي أرض بلا مالك مسيطر، تسكنها مجموعات بشرية متشاكسة، تستضعف بعضها بعضا، بلا ملك يسوسها ولا صاحب يؤمّن مواردها. لقد بدأتْ جهود بناء الجيش المصري ( فيما يحكي الأمير "عمر طوسون" في كتابه عن تاريخ ذلك الجيش) قبل أن يغزو محمد علي باشا السودان، غير أن المجندين كانوا إما من "صعايدة" مصر، أو من الرقيق الذي جرى شراؤه من المناطق جنوبي مصر، أي تحديداً من السودان. كان لبعض التجار المصريين دور كبير في تجارة الرقيق التي انتشرت في مناطق السودان، ونشطوا في اصطياد الرقيق من المناطق الجنوبية والغربية. لم تكن التجارة في البشر مما استهجنته الأمم والبلدان في تلكم السنوات، فما سُن تشريع أخلاقي عالمي ملزم يحرّمها، إلا في عام 1877م، حين أجبرت بريطانيا خديوي مصر على توقيع اتفاقية تمنع تلك التجارة. لم تُختر "أسوان" دون كل المناطق في مصر اعتباطاً، لتكون مركزاً لتدريب المجندين، قبل إلحاقهم بالجيش المصري، حسب ما يحكي الأمير "طوسون" في كتابه المشار إليه. "أسوان" هي ملتقى وفي منتصف الطريق الذي يصل السودان بمصر.. يمكن القول إن إنشاء الجيش المصري، وعصب قواته "الجهادية"، لم يكن في مجمل الأحوال، بعيداً عن السودان، بشواهد التاريخ. . (5) كان تجنيد السودانيين في ذلك الأوان يتم قسراً، ولم يكن نشاطاً مفتوحاً دعوا له السودانيين تراضياً وقبولا. لقد استهدف الباشا صيد الرجال السود الأشداء المغلوبين على أمرهم وبلادهم مهزومة، ثم جرى تجنيدهم لبناء جيش مصر. هو في آخر الأمر نوع من الاسترقاق البغيض، لاأكثر ولا أقل. بعد مرور قرابة قرنين على ذلك التجنيد القسري - إذا نفرنا عن استعمال التعبير الأفصح وهو الاسترقاق- فسنرى في الأفق محاولات ستفضي بأبناء السودان لمغامرة عسكرية في اليمن هذه الآونة ، بدفعٍ قويٍّ من أطراف عربية نعرفها وتعرفنا. لقد كتب طلال سلمان صاحب جريدة "السفير"، مقالاً في أول أبريل 2015، وضع النقاط بينة فوق حروفه لوصف ذلك القتال : (..فجأة، أعلن عن قيام حلف عسكري بين دول النفط العربي جميعاً ومعها أفقر الدول العربية مصر والسودان والمغرب والأردن، مع إسناد باكستاني معلن، وتأييد تركي، ورعاية أميركية، لمقاتلة الحوثيين في اليمن، ومنع إيران من الوصول إلى باب المندب والتحكّم بالبحر الأحمر وبحر العرب من خلال التمركز في خليج عدن.) برغم ما في وصف طلال من اختزال وهو يحكي عن اندفاع "الفقراء" للقتال بالوكالة نيابة عن "أغنياء" العرب، غير أن الأمر سيتضح جلياً وبعد انقشاع الضباب، وحين تتحول المواجهات القتالية على الأرض، وتتقابل السحنات، سيتحدد ثمن كل طرف إذاك...! (6) حكى الصحفي الكويتي نصار العبدالجليل في عموده "القلم والحقيقة" في موقع بركة الإخباري الالكتروني، بتاريخ 6/9/2014 ، عن مثلٍ في المروءة والنبل والشهامة، ضربته القوات السودانية التي عملت ضمن قوات تحت إمرة الجامعة العربية لفض النزاع الأول الذي نشب بين العراقوالكويت عام 1961 ، على أيام عبدالكريم قاسم. تقديراً لدور القوات السودانية، بادر أمير الكويت لتكريم أفرادها بمنحهم بعض هدايا ثمينة ذات قيمة. أصرّ القائد السوداني وجنوده على ترك الهدايا مكانها في أرض المطار، واستقلوا طائراتهم عائدين للسودان. قالت الشهامة السودانية للأشقاء في الكويت : لسنا مرتزقة لنأخذ أجراً لما قدمنا لكم من واجب ، وأنتم أخوة. . ! تلك أيام كان للسودان فيها صيت وأيّ صيت. قاد الضابط السوداني اللواء أحمد الشريف الحبيب، تلك المساعي الحسنة بين الأشقاء، وأنجز تسوية لمطالب العراق من الكويت ، حسمت تماماً وطواها النسيان في سنوات الستينات من القرن الماضي، وما تذكرها غير صدام حسين الذي نبش ذلك الملف، فدخل بجيشه إلى الكويت فزجّ ببلاده إلى محرقة تدور رحاها إلى ساعة كتابتي هذه. . (7) أنظر إلى دور السودان الآن، فأرى انقطاعاً عن إرث تاريخي لدبلوماسية السودان في العالمين العربي والأفريقي فأعجب. تذكّروا دور السودان في الكونغو الجريح أول ستينات القرن الماضي، وكيف كان للسودان دور مشهود ضمن مساعي الأممالمتحدة . يكفي أن ترك السودانيون مكاناً في وجدانهم لزعيم الكونغو باتريس لوممبا، ولثواره الأشاوس. كان السودان عوناً لثوار الكونغو لسنوات طويلة. . تذكّروا يوم ركب الرئيس الأسبق جعفر نميري المخاطر عام 1970، حين نشب القتال في الأردن مع الفصائل الفلسطينية المقاومة، ولعب دوراً مطلوبا عهدت إليه به القمة العربية قبيل وفاة عبدالناصر بأيام ، وذلك بحكم عبقرية مكان السودان السياسي، فاستطاع النميري أن يخرج قائد فلسطين ياسر عرفات من غضبة الأردنيين الشرسة على القائد الفلسطيني. (8) تقفز الأسئلة المشوشة بلا استئذان: سؤال أول: لو جنّد محمد على باشا التركي- الألباني السودانيين أوائل القرن التاسع عشر، فذلك فعل سلطانٍ قويّ غزا أرضاً واستحلّ مواردها قسرا، من رجالٍ وذهب ورياش. فما بال السودان يدفع بأبنائه هذه الأيام، إلى قتالٍ في غير أرضه، فيه ما فيه من مظاهر الذلة وقد كانوا أعزاء، وفيه ما فيه من مظاهر الارتزاق وقد شهد العالم لهم بالشهامة، وفيه ما فيهِ من الانتهازية الرخيصة وقد كانوا هم النبل بعينه. . ؟ سؤال ثان: من بين البلدان العربية، يحتلّ السودان موقعاً مقدّراً من طرف القيادة الإيرانية، وذلك على اختلاف مياه الأنظمة التي مرّت تحت جسور الخرطوم. بعيداً عن الشد والتنافر الذي اعترى مؤخراً علاقات تهران مع الخرطوم، لنا أن نستحضر قبل عقدين من الزمان، دوراً إيجابياً لعبته إيران على عهد الرئيس الإيراني الأسبق رفسنجاني وزيارته للخرطوم، ومبادرته للتوسط بنوايا حسنة، لتسوية الخلافات السودانية اليوغندية التي نشبت في منتصف سنوات التسعينات من القرن الماضي. لن أفصّل في هذا الحيّز، ولكن من الواضح أنْ لو جنح السودان لابتدار وساطة تقرّب المواقف بين الخليج وإيران- على الأقل، لما في ذلك من معانٍ لردّ الجميل- فإنه يمتلك ما يمكن أن يناور به ويضغط ويحقق ، ما قد يجلب إليه احتراماً وتقديراً من جميع الأطراف. . لماذا لم تتحرك الخرطوم في هذا الاتجاه. . ؟ أخيراً: السوداني الذي عرفه اليمانيون- حوثيون أو سواهم- معلماً في ساحات الدرس، هل يتحوّل إلى عسكري يصوب رشاشه إلى صدورهم..؟ بعد الذي فعله الباشا الكبير في القرن التاسع عشر، ماذا يريد "باشوات" القرن الحادي والعشرين من شعب السودان . . ؟ الخرطوم- أول أبريل 2015