بدايةً، لابدّ أن أعترف بأننى مُنحاز للصومال والصوماليين، ومُعجبٌ و"مشروق" بصلابتهم وبسالتهم وجسارتهم وصبرهم الذى لايدوم على المكاره والفقر وقسوة الطبيعة ،و"خمج" الحُكّام والحكومات ،وبافتخارهم الشديد بصومالايتهم وبعزّتهم. ومُعجبٌ أكثر ب"جعليّتهم" و"جنّهم المصرّم" الذى أذاق الأمريكان والجيران وبلاد المهاجِر رأس سوطهم ولا يزال! وهم فى رأيى الشعب الوحيد الذى "يقعد ويقوم على كيفو"، بينما يُغنّيها الآخرون ويَعرِضُون على ايقاعِها! كنت دائماً أقول لأصدقائى الصوماليين أنهم شعب رائد ، شقّ طريقاً جديداً غير مسبوق فى تسيير شئون البلاد والعباد، وشعبٌ مُعلّم علم "العالم أجمع" كيف يستغنى عن الحكومات والدول. ألم يُحقق نبوءة كارل ماركس ب"تلاشى الدولة" حتى صارت صفراً ، ودعوة الرئيس ريجان بتقصير ظلّ الحكومة حتى اختفى الظلُّ والعود؟؟ عشرون عاماً، او نحو ذلك، منذ أن نبذ شعب الصومال "الدولة" و"الحكومة" ، ولا يبدو أنه يفتقدهما. ورغم الإقتتال الشرس الذى لا يهدأ الّا ليستعر،ورغم النزوح والهجرة، ورغم عوادى الطبيعة من جفاف ماحق وفيضانات عارمة و"تسونامى" مدمّر، تسير الحياة فى الصومال وسط حقول الألغام وانهار الدماء، ويزدهر الإقتصاد والتجارة، وتتدفق الإستثمارات الصومالية من داخل الصومال ومن المهاجر، وتنشط حركة الصادر والوارد، وتنشأ فى البلاد نحو سبع شركات خاصّة للهاتف المحمول وسبع شركات خاصة للطيران وأكفأ شركات تحويل الأموال ، ويظلّ الشلن الصومالى مُبرئاً للذمّة فى غياب البنك المركزى ووزارة المالية. وقد أدّت المنافسة و"التحرير" الحقيقى للاقتصاد الى وفرة السلع وتدنى الأسعار . كلّ هذا فى غياب تام لرئيس الجمهورية والوزراء وولاة الأقاليم ووزارات المالية والتجارة والصحة والتعليم وشئون الشباب والمرأة، و الأمن "القومى" والجيش والشرطة وخفر السواحل وحرس الصيد، والبنك المركزى والنقل الميكانيكى ووزارة الأشغال والهيئة القومية لكذا والأمانة العامة لكذا. وقد أدرك الصوماليون باستقلاليتهم وفطرتهم وعشقهم للحرية والإنعتاق أن الدولة عبء ثقيل غير ضرورى ،وعالة تقتات وتنمو على دمائهم، تمحق ثرواتهم ومواردهم، وترهن مستقبل أجيالهم، وتهدر أموالهم فيما لا طائل ورائه من مشاريع "عملاقة" وهمية وصرف بذخى على مظاهر الدولة والسلطان. تفتح الباب على مصراعيه للقائمين على أمرها، هم وأسرهم وبطانتهم ومنافقيهم، لينهبوا الأموال العامة ويكتنزوها فى مصارف بعيدةً وآمنة، فنبذوها غير نادمين ولا يزالوا. اذ ماذا فعلت لهم الدولة؟ تركتهم فريسة للفقر والجهل والمرض، وضحية لجبروت جيشها وشرطتها وقوات أمنها الظاهرة والمستترة، وبقرةً حلوب لجباياتها وضرائبها ومكوسها،وحقل تجارب لنظريات الهندسة الإجتماعية البائرة. تُكمم أفواههم وتُقيّد حركتهم وتسومهم العذاب والتعذيب والهوان والتشريد، وتُريد منهم بعد كل ذلك أن يخرجوا مههلّلين هاتفين مُسبحين بحمدها! وحين فاض كيلهم، نبذوا الدولة، وكفروا بمؤسساتها وقوانينها،واختاروا فوضى غياب الحكومة، وانطلقوا يذبّحون بعضهم ويدمّرون بلادهم بيد، ويصنعون الحياة والأعاجيب باليد الأخرى. أولا يستحق وضع الصومال الغريب هذا وقفةً متأمّلةً، ودراسةً فاحصة لإستخلاص العبر والدروس الظاهرة والمستترة ؟! نُدرك أن خروج الأمريكان المتعجل الحانق من الصومال بعد دخولهم الظافر فى1992، وخروج قوات الأممالمتحدة بعدهم، أفلح فى أن يجعل العالم ، بمنظماته الدولية والإقليمية وحكوماته الراشدة وغير الراشدة، يدير ظهره للصومال الّا قليلاً، ويصمُّ أذنيه عن صرخات استغاثة نسائه وأطفاله وشيوخه،وفى منعِه من استخلاص الدروس الواضحة والحقيقية من أزمة الصومال ، وندرك كذلك أن حكوماتنا لا تتعظ بتجارب وأخطاء الآخرين. ولكن رغم ذلك نسوق بعضاً من هذه الدروس عسى أن يفتح الله البصائر : الدرس الأول: ليس من الضرورة أن تنشب الحروب الأهلية الطاحنة بسبب خلافات عرقية أو دينية أو جهوية، وانظر ،هداك الله وأنار بصيرتك، الى الصومال المتجانس الذى ينحدر جلّ، أو قُل كلّ، سكانه من نفس العرق ويدين بنفس الديانة ويتحدث نفس اللغة، ولم يُثنِهم ذلك عن تقتيل بعضهم وتشريد الملايين من أهلهم داخل وخارج الصومال وتدمير بلادهم، ولا يزالون. وانظر كذلك الى "فسيفساء" تكوينات دول الجوار والمنطقة، كالسودان وأثيوبيا وكينيا ويوغندا والكنغو ونيجيريا وغيرها، وادعو الله أن يلطف بها. الدرس الثانى: القبول ببقاء الدولة وسلطتها واستمرار ممارسة هذه السلطة ليست أمراً حتمياً أو تلقائياً كما بيّنت لنا التجربة الصومالية. وقد توافق الناس عبر تطوّر المجتمعات على التنازل عن قدر كبير من حرّياتهم لصالح الدولة وتركوا لها احتكار القوة المسلّحة وسلطة تنظيم المجتمع وحمايته وادارة شئونه وفرض الضرائب وتقديم الخدمات الضرورية وحماية الحدود وصون السيادة الوطنية وموارد البلاد. وحين فشلت الدولة فى القيام بهذا الدور على نحو معقول، كما حدث فى الصومال، نُبذت نبذ النواة، وطفق الصوماليون يبحثون عن مؤسسات جديدة تقوم بدور الدولة، أو بعضاً منه،فالتجأووا الى القبيلة والعشيرة والبطون والأُسر وأمراء الحرب والمغامرين والمحاكم الإسلامية وشيوخ الدين وغيرهم. ورغم الوساطات والتدخلات الإقليمية والدولية المستمرة، ومؤتمرات الصلح والمصالحةالتي لا تنفضّ الا لتنعقد، ما زال الصوماليون ، كما يبدو، يُفضّلون الفوضى الدامية والمعاناة على الدولة المركزية غير الرشيدة التى خبروا واكتووا بنارها. الدرس الثالث: فشل الدولة المركزية او عجزها فى لعب دورها، أو غيابها التام كما هو الحال فى الصومال، قد يدفع المجتمع، أو بعض فئاته، الى لعب هذا الدور بما فى ذلك امتلاك واستخدام القوّة المسلّحة وتنظيم شئون المجتمع من ادارة للاقتصاد وفرض للضرائب وتقديم للخدمات، وحتّى صون السيادة والموارد الوطنية. وما ظاهرة "القرصنة" فى مياه المحيط الهندى وبحر العرب (فى بعض جوانبها) الّا محاولة لبعض الصوماليين لحماية الثروة السمكية للصومال من تغوّل ونهب أساطيل صيد الأسماك التابعة لبعض الدول، ومنع رمى النفايات الضّارة قبالة الشواطئ الصومالية. الدرس الرابع: تشير التجربة الى أن معظم دول أفريقيا تُسبّح بحمد النظام الفدرالى واللامركزية ولكنها فى واقع الأمر تواصل هيمنتها الخانقة على أقاليمها، تمتص دماءها وتُفقرها وتُهمّشها، بينما تنمو العواصم والنُخب الحاكمة نمواّ سرطانياً وتنفرد بالخدمات والإستثمارات وبالسلطة والثروة. وقدكشفت التجربة الصومالية أن غياب الدولة المركزية المُهيمنة ، رغم خطورة تبعاته، فيه بعض الخير. ومن ذلك نمو حكم لامركزى حقيقى اقتضاه هذا الغياب الطويل ( ومن قبله الإهمال المريع) ، فقد نشأت خلال العقدين الماصيين مراكز ادارية وحضرية واقتصادية جديدة فى أقاليم الصومال المختلفة، تدير شئونها واقتصادها وخدماتها، وتبني الجامعات و المطارات والموانئ وتتاجر مع بلدان الدنيا. ومن المؤكد أن أى حكومة قادمة ( اذا قيّض الله للصوماليين أن يتفقوا) لن تستطيع العودة الى "سيرتها الأولى" وفرض الهيمنة المركزية الخانقة والإستئثار بالسطة والثروة على حساب الأقاليم المهمشة. الدرس الخامس: أثبتت التجربة الصومالية صحّة المثل العربى "ما حكّ جلدك مثل ظفرك"، اذ ليس أقدر على حلّ مساكل البلاد من اهلها. يأتى الوسطاء والمتدخلين وقد لوّنت رؤيتهم مصالحهم وأجندتهم الخاصة. وان حسُنت النوايا ، لا يتيسر لهم الفهم الصحيح لوضع البلاد وأسباب مشاكلها وسبل حلولها. وقد شهد الصومال سيلاً يكاد لا ينقطع من الوساطات والتدخلات الدبلوماسية حيناً والعسكرية حينا آخر ، والمناشدات والتهديدات، ولم يثمر كل ذلك الّا مزيداً من القتال، وتبدُّل للمُقاتلين والأعداء ، واستمرار معاناة الشعب الصومالى المنكوب. ولن ينفرج الوضع الّا بتوفر الرغبة الصادقة للصوماليين أنفسهم فى الوصول الى حلٍ، مما يمكنهم من الوصول الى مثل هذا الحل والى تمكّن الآخرين من عونهم. الدرس السادس: الشباب وقود الحروب الأهلية الرئيسى وجنودها، يدفعهم الفقر والإحباط الدائم واليأس المطبق واضطراب الأوضاع وفقدان الأمل فى المستقبل وضيق فرص التعليم والعمل والحياة الكريمة الى الإمساك بالكلاشنكوف، يمنحهم وهم المشاركة والفعل والقوة والزهو ومصدر الرزق، تُسكرهم أبخرة البارود والدم، فلا يريدون لمثل هذا الوضع تبديلاً. فالمعالجة الحصيفة لابدّ أن تبدأ اذن بهم، وهم غالب أهل البلاد. والعناية بهم تعنى العناية بأهلهم وبالبلاد، وهذه بداية الحكم الراشد. الدرس السابع: يتوجّس "المجتمع الدولى" بمنظماته وحكوماته وبلدان جواره ممّا يحدث فى الصومال ألان، ويحاول ،بجهد المُقِل بعد طول تجاهل، أن يعالج أعراض المرض الصومالى من فوضى عارمة، واقتتال شرس، وفقر ومجاعة، ونزوح وفرار للمدنيين العُزّل، وتفتت لوحدة البلاد، وتهديد لأمن المنطقة بأسرها ، ونشوء للأصولية المعتدلة والمتطرّفة، وتدفق للسلاح وقرصنة بلغت أعالى البحار، ولكنه لا يتوقّف كثيراً عند أسّ البلاء،ولا يشخّص المرض ولا يعالجه. والمرض فى رأيى يكمُن فيما "زرعته" حكومات الصومال المتعاقبة، وخاصّة حكومة سياد برى ، من فساد وافساد، واهدار للوقت والمال، واهمال لإحتياجات الصوماليين الأساسية، وقمع للمواطنين، واستخدام مُفرط للقوة ضد الشمال وتخبط فى السياسات والتوجهات. وما نراه الآن ولما يقارب العقدين من الزمان هو الحصاد المُر، والخاسر أولاً وأخيراً هو شعب الصومال. الدرس الثامن: يتوجّب على حكومات العالم، قويُّها وضعيفها، وعلى منظماته الأقليمية والدولية،الفاعلة والهامدة، وعلى مُنظّريه، ألّا يستهينوا بالأفراد والشعوب وان بانت عليهم الذلّة والمسكنة، وبقوّتهم الكامنة، المدمّرة ان استُثيرت، والخلّاقة ان استُغلّت، وبغضبهم الحارق ان اشتعل أو أُشْعِل. وانظر الى ما حاق بالأمريكان حين نزلوا فى 1992 على شواطئ مقديشو، مزهوّين بخمر الإنفرهد وقد دانت لهم الدنيا بانهيار الإتحاد السوفيتى، وحسبوا أنهم يستطيعون "ترتيب" العالم وبيوت الآخرين. رأوا الصوماليين وقد أصابهم الهزال وضمرت وجووههم وغارت أعينهم، نصف عراة الّا من ازار "قُرباب" يلفّ خصورهم النحيلة، حفاة الّا من "تموت تخلّى"ينتعله السعداء منهم، فاستهانوا بهم وبمقدرتهم ،ليس على المقاومة فحسب، بل حتى على الغضب المدمّر. الدروس الصومالية ، الظاهرة والمخفيّة، لا حصر لها لكل من يتفكّر فيها . واذ أكتفى بهذا القدر، أسأل الله أن يقيل عثرة أهل الصومال، وأن يهديهم و"يهدأ سرّهم"، وأن يجازيهم على صبرهم ومعاناتهم حُكماً راشداً يرتضون وأن يفتح بصائر الجميع ليأخذوا العبرة والعظة من دروس الصومال . " والكلام ليك يا المنطط عينيك! ”